مثل كثير من السيدات، أقتني أحذية لا أرتديها أبداً، لأسباب تتعلّق بعدم الراحة أو انتظار الحدث المناسب، أو الحفاظ على الحذاء بالامتناع عن ارتدائه، مثلما أفعل مع حذاء "ماري جين" الذي يرقد الآن في خزانة الأحذية، مهجوراً، بنعل نظيف لم يختلط بتراب شارع من قبل.
كان الحذاء أنيقاً بحق، تحفة من الجلد الأسود اللامع، بحزام في المنتصف وأبزيم معدني ذهبي صغير، ظلّ قابعاً منذ اشتريته من عامين حتى الآن، منتظراً دوره الطبيعي الذي صُنع لأجله، وهو الدقّ على الأرض الصلبة بكعبه العالي.
لم أحفظ الحذاء لأنه هدية أو بسبب غلو ثمنه، لكنه بالنسبة لي كان الحذاء الأخير لمصنع "ريم للأحذية"، ولأحذية "ريم" قصة طويلة في مدينتي السكندرية، بدأت منذ بدايات السبعينيات ،بينما كانت صناعة الجلود في أوجها، قبل انتشار الجلد الصناعي. بعض المحال في الإسكندرية بدأت في التوسّع لتصير علامات، مثل "كوباس، بركات وسامح"، لتفرض تلك المحال نفسها، متخذة موقعها المميز في وسط البلد بمحطة الرمل، مركزاً لبيع الجلود من الأحذية والحقائب والأحزمة، وحتى السترات الجلدية.
افتتح "أحذية ريم" محلّه في مكان بعيد عن تلك المنطقة، على شريط الترام بمنطقة جليم، البعيدة عن وسط البلد، لكن الذي جعل المحل يصل للناس هو طراز أحذيته المختلفة، فهي أحذية من الجلد الطبيعي بدون كعب ومريحة .
بدأ الزبائن في التوافد على المحل، لتصبح بعد فترة جملة "حذاء ريم" مرادفة للحذاء المريح والأنيق. كان ذلك قبل سنوات طويلة من ظهور موديلات الأحذية الشبيهة بأحذية الباليرينات .
انتشرت موديلات "أحذية ريم" بين الطبقات المتوسطة بالإسكندرية، من السيدات العاملات واللائي تضطرهن أعمالهن للوقوف طويلاً والأمهات المتعبات، ومع الوقت، حصل المحل على فرص عدة لتوزيع أحذيته على محال وسط البلد، تحت مفهوم "الفرانشيز" الذي لم يكن منتشراً وقتها، فامتلكت معظم محال وسط البلد قسماً خاصاً بأحذية "ريم" الشهيرة.
تخبرني والدتي أنها قبل زواجها اعتادت شراء الأحذية منه، لأنه كان يصنع أيضاً أحذية أنيقة ذات كعب عال، وعقب إنجابها لأخي الأكبر، تخلّت عن ذلك النوع من الأحذية لترتدي الحذاء الشهير دون كعب، وبجلد مريح ومرن .
انتشرت موديلات "أحذية ريم" بين الطبقات المتوسطة بالإسكندرية، من السيدات العاملات واللائي تضطرهن أعمالهن للوقوف طويلاً والأمهات المتعبات، قبل أن يشتهر بعد ذلك بأحذية المدارس
تعاظمت شهرة المحل للدرجة التي جعلته يفتتح فرعاً آخراً بالقاهرة في منطقة مدينة نصر، ليعيش فترة انتعاش طويلة، وليشتهر بعد ذلك بأحذية المدرسة منه، ففي مطلع كل عام دراسي، تصطف العائلات حول المحل ومنافذ بيع أحذيته بوسط البلد، لشراء الأحذية السوداء المريحة للمدارس التي تفرض ذلك اللون على تلامذتها من الفتيات والفتيان. أتذكر مشوار شراء الأحذية المعتاد للمدرسة، وحذائي الأنيق كل عام من "ريم" من طراز "ماري جين"، بكعب مربع قصير، يظل الحذاء في قدمي عاماً كاملاً دون أن يبلى قبل أن أبدله بحذاء آخر في السنة التالية، نتيجة نموّ قدمي.
تخبرني صديقتي التي تصغرني بسنوات، أنها اعتادت شراء أحذية المدرسة منه مطلع كل عام، فالأحذية تكون سوداء من الجلد ومريحة بكعب قصير، مع الحفاظ على شكلها الأنثوي ليجعلها ذلك محبّبة لها.
في مطلع الألفية الثانية، بدأ استيراد مصر للأحذية من الصين والجلود الصناعية، لتنتشر الموديلات الجديدة ورخيصة السعر بجوار محال الأحذية القديمة، فتخطف منها الزبائن
بعد سنوات طويلة من الازدهار، دخلت السوق المصري الجلود الصناعية، لتبدأ مراحل انهيار تلك الصناعة المتقنة من الجلد الطبيعي. أتذكر أنه في إحدى شوارع محطة الرمل والمتخم بمحال الجلود، كنت أسدّ أنفي أثناء مروري بسبب رائحة الجلد الطبيعي التي تفوح من الشارع لكثرة المحال والورش.
لأبي صديق قديم يمتلك محلاً للأحذية والحقائب المصنوعة من الجلد الطبيعي في ذلك الشارع، افتتح الصديق محله في بداية التسعينيات، ومن وقتها امتلأ دولاب أمي بالحقائب الكرتونية اللامعة المميزة لمحله.
في مطلع الألفية الثانية، بدأ استيراد مصر للأحذية من الصين والجلود الصناعية، لتنتشر الموديلات الجديدة ورخيصة السعر بجوار محال الأحذية القديمة، فتخطف منها الزبائن. فكر صديق أبي أن يستورد هو أيضاً الأحذية والحقائب الرخيصة، وسافر للصين وعاد منها بشحنة ضخمة، وبعد شهور قليلة بينما يخرج البضاعة من المخزن فوجيء بتقشّرها بالكامل، ليخسر ما أنفقه على الأحذية والحقائب الرخيصة، ويعود ثانية للجلد الطبيعي بهامش ربح أقل وبزبائن أندر، لحق الصديق بأبي بعد شهور من وفاته، مخلفاً محله القائم حتى الآن، يتاخم محال الجلد الصناعي بأسعار متوسطة .
سنوات قليلة تقلصت فيها عدد محال الجلود الطبيعي للنصف، والمحال الناجية رفعت شعار الجلود الصناعية الأرخص، ليعملوا بها وليستسلم الزبون لسرعة فساد الأحذية والحقائب الرخيصة، وبعد سنوات ظهر جيل جديد من المحال الغالية، والتي تعمل بخامات رخيصة لا تفرق كثيراً عن الأحذية الصينية.
في وسط البلد بمحطة الرمل منذ سنوات، كنت أحظى بسير هادئ يوازن أفكاري قليلاً، لأجد على يميني بالقرب من الكاتدرائية المرقسية -التي تم تفجير بوابتها قبل سنوات في حادث إرهابي- محلاً للحقائب ذا واجهة متربة، وبجوار الحقائب المعروضة أنواع مختلفة من المحافظ الجلدية. دلفت إلى المحل ليواجهني كهل بابتسامة وبأناقة فائضة عن الحد بالنسبة للمحل المترب.
حياتنا تشبه سيرة هذا المصنع وهذه الماركة. زهو وابتهاج، يعقبهما خفوت وتماوت تحت تأثير المشاعر السريعة الاصطناعية، ثم إطفاء الأضواء وإغلاق للأبد
استعرض الرجل أمامي الموديلات القديمة للحقائب والمصنوعة كلها من الجلد الطبيعي، أخبرني أنه سيبيعني إياها بسعرها القديم، فهناك حقائب قديمة تتراوح أسعارها بين 60 جنيهاً و100 جنيه، والموديلات الأحدث ستتراوح أسعارها بين 100 و 250 جنيه.
انتقيت وقتها حقيبة بنية ذات موديل بسيط وأهديتها لأمي، وحينما سمعت عن الانفجار بعدها بشهور قليلة، راسلت صديقتي التي تقطن بالقرب من المنطقة كي تطمئن على "عمّو" الذي تضرّرت واجهة محله المتربة، ليرمّمها بعدها وتظل على عهدها مليئة بالتراب وباهتة.
منذ عامين، وبينما كنت أتمشى بالقرب من شريط الترام في منطقة جليم، كان أمامي محل "أحذية ريم" رافعاً لافتة للتصفيات النهائية مع خصومات كبيرة. قرّرت الدخول للسؤال، ليصدمني البائع بغلق المحل في نهاية الشهر بسبب الخسارة التي يتكبّدها كل شهر.
قرارات غلق المحل خفضت الإضاءة لتتحوّل إلى الخفوت التام. سألت العامل عن المكان الذي سينتقل إليه المحل، ليمتعض ويخبرني أن الغلق نهائي، وسيتم البيع من خلال المصنع حتى غلق المصنع أيضاً.
بين الأرفف كنت أتجوّل بحزن بين الأحذية الشتوية متقنة الصنع، والأحذية الخفيفة المريحة والتي صنعت كلها من الجلد الطبيعي ذي الرائحة النفاذة. بين الأحذية العالية، وجدت غايتي في حذاء "ماري جين"، أسود، بسيط، مرتفع ولامع.
ارتديت الحذاء الناعم وخطوت به لأتذكر أحذية المدرسة السوداء ومدى شبهها به، في كل خطوة كل أطوي كل تلك الذكريات وارتدائي لأحذية والدتي بقدمي الصغيرة بينما أتبختر أمامها فتضحك.
في اليوم التالي عدت لأشتري حذاء آخر أعجبني من طراز أكسفورد، برباط بني اللون ومطعم بالجلد المرقط مثل جلد التمساح، لكنني لم أجد مقاسي. ألقيت نظرة على المحل الذي لم يعد يملك ما يعافر به، فاضطر لغلق أضوائه للأبد، لينسى الناس كيف كان لـ "أحذية ريم" جزء كبير في حياتهم.
فكرت كم أن حياتنا تشبه سيرة هذا المصنع وهذه الماركة. زهو وابتهاج، يعقبهما خفوت وتماوت تحت تأثير المشاعر السريعة الاصطناعية، ثم إطفاء الأضواء وإغلاق للأبد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.