"الله الله الله... خليوني مني لله .. الله الله الله هو العالم مابيا... الله الله الله... أنا الملهي في ذنوبي الله الله والناس ملهيا فيا الله الله... السوق عامر في قلبي... الله الله الله... حوانتو قيسارية... الله الله الله...". كلمات صوفية منظومة وموزونة و أصوات شجية خاشعة تتعالى وتصدح بذكر الله والصلاة على الرسول، وأعلام مرفوعة و وأرواح هائمة في العشق الإلهي، تهتز و تتراقص وتتمايل يميناً ويساراً على دقات الدفّ والغيظة، وسط رائحة العود والبخور الطيبة؛ ماهي إلا لطقوس روحية خاصة لا نجدها إلا في أحضان الطائفة العيساوية المغربية.
الشيخ الهادي بنعيسى، أبو الطائفة العيساوية ومؤسسها
لا يُذكر اسم مدينة مكناس الإسماعيلية المغربية إلا وتذكر معها فرقة "عيساوة" أو "الطائفة العيساوية "التي انطلق منها هذا الفن التراثي العريق المتوارث من جيل إلى جيل، والممتد إلى مدن مغربية أخرى.
ويستمد هذا الفن التراثي أصوله الروحية والصوفية حسب العديد من الباحثين المتخصصين في فنون الموسيقى الصوفية و العيساوية، من الطريقة الجزولية والشاذلية المتولدة عن الإمام أبو حسن علي الشاذلي، المتصوف الزاهد المغربي دفين مصر. وقد تأسست الطريقة العيساوية في القرن السادس عشر على يد الشيخ محمد الهادي بن عيسى والمعروف بـ"الشيخ الكامل"، حسب عثمان بنمومن مقدم الطائفة العيساوية الإسماعيلية بمكناس.
حسب كتاب معلمة المغرب، فإن الطريقة العيساوية كانت تضطلع بدور التربية الروحية، فيجتمع مريدوها على العبادة وتلاوة القرآن وقراءة حزب "سبحان الدايم" الذي وضعه الشيخ الكامل وضمنه كثيراً من قواعد التوحيد
عاش الشيخ محمد الهادي بن عيسى السباعي الإدريسي والمعروف بالشيخ الكامل عند مريدي الطريقة العيساوية في القرن الثامن الهجري؛ ولد سنة 872 هـ/1467 م بمنطقة سوس وتوفي سنة 1526م بمدينة مكناس الإسماعيلية.
حظي بتربية وعناية خاصة من طرف أخواله ووالده في سوس، الذي رافقه إلى مدينة فاس، من أجل تلقي العلم والمعرفة بجامع القرويين، فحفظ القرآن في مدة وجيزة، ثم شرع في تحصيل العلوم الشرعية والأدبية حتى بلغ مستوى علمي مرموق شهد له بذلك الخاص والعام.
وعندما استكمل دراسته بجامع القرويين بفاس توجه نحو الشيخ أحمد الحارثي السفياني نزيل مكناس ووارث الجزولية، الذي تتلمذ على يديه وساعده على تعلم روح الطريقة الصوفية حتى أصبح يلقب بـ"الكبريت الأحمر"، "وبركة أهل السماء والأرض".
وبعد وفاة معلمه الشيخ أحمد الحارثي السفياني، انتقل الشيخ الكامل إلى مدينة مراكش كما وصل معلمه قبل وفاته من أجل ملاقاة الشيخ سيدي عبد العزيز التباع، أحد رجال مراكش السبعة، والذي كان من أهم أعلام الطريقة الجزولية، فاستقبله وأولاه تقديراً واحتراماً كبيراً وأعطاه مفاتيح الطريق الصوفية من أحزاب وأوراد، ومكّنه من الجلوس وتربية المريدين، إلى أن أصبح الشيخ الهادي بنعيسى خليفةَ الطريقة الجزولية، والتي ستمتدّ وتُسمى بعد وفاته بالطريقة العيساوية نسبةً إليه.
وحسب كتاب "معلمة المغرب" فإن الطريقة العيساوية كانت تضطلع بدور التربية الروحية، فيجتمع مريدوها على العبادة وتلاوة القرآن وقراءة حزب "سبحان الدايم" الذي وضعه الشيخ الكامل وضمنه كثيراً من قواعد التوحيد.
تطور العيساوية من الزوايا إلى فن موسيقي
يعرف كتاب "معلمة المغرب" عيساوةَ أو الطائفة العيساوية على أنها طريقة صوفية، وعيساوة هم أتباع الشيخ الكامل محمد بنعيسى كما سبق وأشرنا إليه.
يقول الفنان عثمان بنمومن، مقدم الطائفة العيساوية لرصيف22 إن فن عيساوة قائم على قصائد صوفية منظومة تتغنى بمدح الرسول وابنته فاطمة الزهراء، وأولياء الله الصالحين وتتقرب وتتوسل إلى الله. والذكر العيساوي شبيه جداً بقصائد "الملحون" إذ تجمع بينهما علاقة وطيدة، لأن شعراء الذكر للعيساوية هم نفسهم شعراء الملحون. ويشكل الإيقاع أهم ميزة في الفن العيساوي على خلاف الطرق الصوفية الأخرى التي تخلو غالباً من الإيقاع.
وقد ظل فن عيساوة لمدة طويلة حبيس الزوايا الصوفية، يقتصر فقط على مناسبة ذكرى المولد النبوي من خلال إحياء موسم الشيخ الكامل بضريحه بمكناس والذي كان وما زال يشكل أهم محجّ ومزار لمريدي الطريقة العيساوية التي تشد الرحال إليه من مختلف مناطق المملكة المغربية والعربية، إلى أن شهدت هذه الطريقة نقلةً وقفزة نوعية على يد رواد وأحفاد الهادي بنعيسى من خلال إنشاء فرق موسيقية عيساوية تعرف بهذا الفن وتخرجه من عزلته، وقد صارت تؤدّى في مناسبات الحياة اليومية كالأعراس والأعياد وعلى المسارح الوطنية والدولية.
ومن بين الفرق العيساوية المغربية هناك فرقة الشاب عثمان بنمومن، مقدم الطائفة العيساوية الإسماعيلية بمدينة مكناس، الذي قال في تصريحه لرصيف22: "دخولي إلى عالم عيساوة لم يكن بمحض الصدفة بل هو نابع عن حبّ وولع منذ الصبا، فقد تربيت في بيئة عائلية صوفية عيساوية؛ كان أبي سيدي أحمد بنمومن بدوره مقدم للطائفة العيساوية بمكناس، ومنه يمكن أن نقول إنني ورثت هذا الفن وتشبعت بأسلوبه ونهجه، وحملت المشعل على عاتقي لمواصلة ما بدأه مع فرقته والتي يعود تاريخ تأسيسها إلى أكثر من 30 سنة".
وعلى نفس المنوال صارت النساء أيضاً على درب الطائفة العيساوية، فقد اقتحمن بدورهن هذا الفن التراثي الذي لم يعد حكراً على الرجال بعد أن أنّثته أصواتهن، وأبدعن في تمثيليه خير تمثيل في العديد من المناسبات والمشاركات التلفزيونية والإذاعية، وأعطينه لمسة وصبغة متميزة.
تعتبر فرقة عائشة الدكالي أول فرقة عيساوة للنساء في الساحة الفنية العيساوية المغربية، ثم توالى بعدها انطلاق وتأسيس فرق نسائية أخرى في مدن مغربية مختلفة يبدعن ويتنافسن في ما بينهن.
وحول أسباب ودواعي تأسيس الفرقة العيساوية برئاسة المقدمة عائشة الدكالي تقول عائشة لرصيف22: "نشأت وسط أسرة فنية عيساوية بامتياز؛ فتحت عيوني على هذا الفن وتشبعت به، فأبي كان مقدماً للطائفة العيساوية، وخالي أيضاً. هذه العوامل أسهمت في تأثري بهذا الفن الصوفي الروحي. أما فكرة تأسيس الفرقة العيساوية للنساء فجاءت عن طريق زيارتي إلى موسم مولاي إدريس الأكبر بزرهون، رفقة أبي، مقدم الطائفة العيساوية.
خلال إحياء ليالي الموسم راودتني فكرة تأسيس الفرقة صدفة، فطرحتها على بعض صديقاتي اللواتي كنّ حاضرات في الموسم رفقة آبائهن المقدمين أيضاً، وقلنا: لماذا لا نقوم بعيساوة نحن أيضاً كفتيات؟ وهل هذا الفن الصوفي سيبقى حكراً فقط على الرجال؟ ومن هنا أخدنا غمار التجربة والتي توجت والحمد لله بإقبال ونجاح كبير ذاع صيته في بقاع المغرب وخارجه".
وتضيف الفنانة عائشة الدكالي أن دخولها مجال "تعيساويت" هو وليد تجربة فنية وأكاديمية، فتجربتها الفنية الزاخرة التي راكمتها في مجال "الملحون" والمسرح ساعدتها على دخول عالم العيساوة وقيادة سفنيته النسوية بهدف ترك بصمة نسائية في هذا الفن و الارتقاء به والحفاظ عليه من الضياع.
انطلقت فرقة عائشة الدكالي عام 2006، وبدأت عملَها بشكل رسمي بعد تداريب مكثفة لمدة 4 شهور، من خلال أول خروج تلفزيوني لهن على قناة الثانية "2M" ليتعرف عليهن الجمهور المغربي، وتليها بعدها مشاركات في مهرجانات وحفلات فنية عديدة من داخل المغرب وخارجه، وفق ما ذكرت لنا عائشة.
طقوس الليلة العيساوية
على خلاف باقي الألوان الموسيقية يتميز فن عيساوة أو الليلة العيساوية بطقوس ومراسيم روحية مقدسة خاصة يقربنا منها المقدم عثمان بنمومن، حيث تفتتح الليلة العيساوية على حد تعبيره بقراءة أوراد وابتهالات في مقدمتها حزب "سبحان الدايم" أمام المكان الذي تقام فيه الليلة العيساوية، بدون عزف ولا إيقاع.
بعدها تأتي مرحلة "الدخلة" حيث يقف أفراد الفرقة العيساوية بثيابهم البهية التي تتمثل في "الحنديرة" الصوفية الحمراء المزينة بـ"الموزون" والجلباب والبلغة، برفقة آلاتهم الموسيقية العيساوية والمتمثلة في آلة الطبل، الغيطة، الطبيلة، تعاريج، النفير، آلة النحاسة، وآلة البندير (الدف). تصطف الفرقة خلف "المقدم" حسب نظام محدد على شكل حلقة مع تمايل بالأجساد على إيقاع مضبوط، ثم يبدأ المقدم بالأول بضرب آلة الدف، وتبدأ الدخلة أو ما يسمى بـ"الفتوح الرباني" عند العيساويين بأبيات زجلية ربانية:
الله آ الله الله آ الله آ سيدي
الله آ الله الله آ الله
الله آ الله الله آ الله
مولانا آ الله يا مولانا آ الله يا مولانا
حالي ما يخفاك الواحد ربي
آ بسم الله هي اللولة فكلامي، آ الله يا الله يا مولانا
آ بسم الله هي اللولة فكلامي، بسم الله هي حجاب كل مسالة
حالي ما يخفاك الواحد ربي
ربي عليه تكلي وعليه إسنادي، الله الله يا مولانا
ربي عليه تكلي وعليه إسنادي، لخير مصطفى شريف زين الحالة
حالي ما يخفاك الواحد ربي
عاري عليك لحتو يا الشيخ الكامل، الله يا الله يا مولانا
عاري عليك لحتو يا الشيخ الكامل، سيدي محمد لعزيز عليا...
وعلى غرار هذه المقاطع تدخل الطوائف العيساوية أفواجاً إلى مكان الحفل رافعين الأعلام الخاصة بالطائفة العيساوية والمبخرة وسط زغاريد النساء.
ظل فن عيساوة لمدة طويلة حبيس الزوايا الصوفية، يقتصر فقط على مناسبة ذكرى المولد النبوي من خلال إحياء موسم الشيخ الكامل بضريحه بمكناس
بعد الدخلة تأتي مرحلة "الذكر"، ومطلعها قصيدة "الحرم"، وهي قصيدة تضرع للحماية بحرم الرسول، ويقول مطلع القصيدة: "الحرم يا رسول الله... الأمان يا حبيب الله... الحرم جيت عند قاصد يا سيدي رسول الله..."، ثم قصيدة "الدرقاوية" (أيا بابا وانا خديم سيدي رسول الله، يلا رضى لي، أبابا أراه ليعتي ماتبرا قالو يداوي…)، ثم قصيدة "حادون" (بسم الله بدينا يا أحادون يارحماني، وعلى نبي صلينا يا أحادون يارحماني)، وقصيدة "الزميتة" (آلالة نبدا آ بسم الله والصلاة على رسول الله، أيا صداق العيساويات أزميتة... أيا غرام المكناسيات أزميتة...)، وقصيدة "السوسية" وهي من فن "المعلمة، وفن المعلمة أو "المصمودي" هو فن غنائي نسائي مكناسي، وتختتم الليلة بالجيلالية والمجرد.
عيساوة، القدرة على الشفاء والعلاج
للعيساوية وقع وسحر خاص ذو طبيعية علاجية شفائية لا يعرفها سوى مريدي الطائفة العيساوية الذين يتجاوزون بها العالم الحسي إلى عالم آخر؛ يقول عن ذلك مؤسسها الشيخ الكامل: "طريقتنا لا تدخل في قلب قاسي، ولا في جسم عاصي، ولا في عقد جاهل".
وإلى جانب قصائدها الربانية الموزونة وإيقاعها الموسيقي الذي يخترق القلب والروح، تقول كوثر الغيور، أستاذة آلة القانون بدار الفنون التراثية الموسيقية وباحثة مهتمة بالموسيقى الصوفية لرصيف22: "لسماع الملحون بفاس وللفن الصوفي عموماً قدرة على الشفاء والتخفيف عن النفس من التعب والضغوطات النفسية، ولعيساوة، شأنه شأن باقي الفنون الصوفية، دور مهم في الترويح عن النفس، فأهم ما يميز فن العيساوة الصوفي هو ذلك الجانب الفني المتعلق بالحركة الجسدية (الرقص) الذي يتم توظيفها في الطريقة العيساوية أي بالقيام والركوع والسجود والقفز؛ هذه الحركات التي تقترن بالإيقاعات يطلق عليها "الجدبة"، وهي عبارة عن حالة روحية يصل فيها مريدو العيساوية إلى نشوة روحية وحالة من السكر الإلهي تسافر فيها الروح إلى السماء بعيداً عن الأرض، وبها يتم التخلص من متاعب الحياة ويخرج منها الإنسان بروحٍ ونفسٍ جديدَين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه