"رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"، بهذه الآية استهلّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولايته الثالثة والأخيرة (وفقاً لنص الدستور الحالي)، ليُطرح مع تنصيبه سؤالان. أولهما: هل يمكن لحاكم يرى أن الله هو من ولّاه وليس الشعب، أن يقرر طواعيةً بعد انتهاء ولايته الأخيرة أن يغادر القصر الذي شيّده ويتركه لغيره يحكم منه من بعده؟
السؤال الثاني - وهو الذي يهمنا في هذا المقال - هو سؤال الاستقرار في مصر؟
هل مصر مستقرة؟ هل النظام الحاكم في مصر قادر على السيطرة على الأمور والحفاظ على بقائه واستقرار البلاد في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة وغضب شعبي مكتوم؟
للإجابة عن السؤال الثاني، يجب أولاً أن ندرك أن شرعية السيسي قادمة من الشارع. حدثت احتجاجات ومظاهرات عام 2013، أعقبتها اشتباكات بين فريقين، انتهت بتدخل الجيش لعزل الرئيس الراحل محمد مرسي، وإلقاء القبض عليه هو وفريقه من جماعة الإخوان المسلمين، وإيكال أمر الحكم على نحو مؤقت ولفترة انتقالية لم تتجاوز العام، إلى المستشار عدلي منصور، تلاها جلوس السيسي على عرش مصر منذ 10 أعوام وحتى يومنا هذا.
إذاً وبإيجاز شديد، من حمل السيسي إلى الحكم هي "الاحتجاجات" التي سادت الشارع المصري حينها، ولذلك نجده كثيراً ما يحذّر في كلماته المرتجلة من الفوضى وتداعياتها، ومن كونها سبب تدمير البلاد فـ"حافظوا على بلدكم يا مصريين" على حد تعبيره، إذ يؤمن من جاء بالاحتجاجات بأنها هي نفسها معول هدم البلاد وسبب مباشر في ضياع استقرارها.
هل مصر مستقرة؟ هل نظام الرئيس السيسي قادر على السيطرة على الأمور والحفاظ على بقائه واستقرار البلاد في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة وغضب شعبي مكتوم؟
لكن هل مصر حقاً مستقرة؟ وهل نظام السيسي قادر على الحفاظ على ذلك الاستقرار، والمضي قدماً بالبلاد لإكمال فترة ولايته الثالثة بهدوء؟
هناك خط فاصل في مسألة "استقرار" نظام السيسي يجب الوقوف عنده، ألا وهو حرب غزة، فالمشهد في الشارع المصري قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، يختلف تماماً عمّا بعده.
ففي الفترة الأخيرة، وقبيل الحرب على غزة مباشرةً، كانت الأمور في القاهرة ملتبسةً يعتريها القلق من الجميع. لم تكن السياسة أو الحريات هي مبعث هذا القلق، وإنما الأزمة الاقتصادية الخانقة التي لم تشهدها مصر من قبل في العقود السابقة.
وما زاد من حدة الاحتقان، هو إدراك عام يمكن رصده بسهولة لدى نسبة كبيرة من المصريين بأن المسؤول الأول عن تلك الأزمة هو السيسي شخصياً، بإصراره على إنفاق المليارات على مشاريع عملاقة، أشارت دراسات الجدوى إلى أنه لا طائل منها سوى استنزاف الموارد المالية ومراكمة الديون، حتى تجاوزت الـ165 مليار دولار، وهو رقم مرعب لم تشهده البلاد من قبل. المدهش أن السيسي أقرّ في أحد خطاباته بأن الخبراء أشاروا عليه بعدم جدوى تلك المشاريع، لكنه هو شخصياً من أصرّ عليها.
"أنا كنت بكلّم السادة مجلس القضاء الأعلى الصبح، وقلتلهم تخيّلوا ممكن أهدّ مصر بملياري جنيه؛ أدّي باكتة بانجو وعشرين جنيهاً وشريط ترامادول لـ100 ألف إنسان ظروفه صعبة، أنزّله يعمل حالة"؛ هكذا تحدث السيسي في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، محذراً من خطورة التظاهر وهدم البلاد. هذه الكلمات تعكس حقيقة الأوضاع في مصر، وإلى أي مدى ليست مستقرةً وإلى أي حدّ خطر الانفجار وشيك. وهذا ما دفعه للظهور والحديث بعصبية مهدداً بـ"هدم مصر".
البعض فسر تهديد السيسي بأنه موجه إلى الشعب، والبعض الآخر رأى أن الكلام موجه إلى أجنحة في الدولة تريد الخلاص منه، وأن رسالة "أنا أو الفوضى" موجهة إليهم بالأساس.
لكن سواء كان ذلك التهديد موجهاً إلى الشعب أو إلى أجنحة في الدولة، فالمؤكد أن البلاد كانت تشهد أزمةً حقيقةً تهدد استقرار حكمها، مما دفع السيسي لتوجيه تلك الرسالة التحذيرية، التي اشتبكت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي معها بمزيج من الغضب والدهشة.
لكن المشهد تبدل تماماً بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي (بعد عملية "طوفان الأقصى")، حيث أعطت الحرب قبلة الحياة لنظام حكم السيسي واستقراره، ولو نسبياً في مصر. بعدها، باتت مصر هي البوابة الأهم لدخول المساعدات والتفاوض مع حماس، وبات استقرار الأوضاع في مصر مطلباً إقليمياً ودولياً. ظهر هذا بوضوح في تغيّر نبرة الحديث ولغة الخطاب الصادر عن صندوق النقد الدولي على لسان مديرته كريستالينا غورغييفا، في حديثها إلى محطة "سكاي نيوز"، إذ قالت إن "استقرار مصر أمر مهم دولياً، وعلينا مساعدتها ودعمها لما تقوم به من دور حيوي في الإقليم". وأتبعت حديثها بتصريحات أشارت فيها إلى أن الأولوية الآن باتت لمحاربة التضخم وما يصاحبه من ارتفاع في الأسعار في مصر للحفاظ على استقرارها.
نظرياً، الوضع في هذه اللحظة في صالح السيسي؛ إقليمياً هناك إجماع على أهميته في هذا الظرف التاريخي المعقّد، والخليج عاد إلى دعمه مالياً مجدداً، والشارع يخشى مصير الدول المجاورة، والمؤسسة العسكرية تدعمه بعد أن شبّكت اقتصادياً بشكل موسع مع حكمه. لكن المحرّك الأساسي لعدم الاستقرار، وتفجر الوضع ما زال مشتعلاً تحت الرماد
بعد فترة ليست بالطويلة، عادت الأموال الخليجية للتدفق بكرم على مصر، وبلغت ذروتها بصفقة "رأس الحكمة" التي ضخّت فيها الإمارات 35 مليار دولار، على أن تبلغ قيمة إجمالي الاستثمارات في المشروع ما يقرب من 150 مليار دولار -وفقاً لتصريحات رئيس الوزراء- على مدى عمر المشروع الذي لم يحدده.
وفي الوقت نفسه، وافق صندوق النقد الدولي على زيادة قيمة قرض لمصر إلى 8 مليارات دولار، بدلاً من 3 مليارات دولار، كان قد اتُّفِق عليها في كانون الأول/ ديسمبر 2022.
تدفُّق الدولارات على مصر بعد الحرب، ساعد الحكومة على اتخاذ القرار الذي خشيت اتخاذه طويلاً، ألا وهو التعويم، فتشجع البنك المركزي، واتخذ قرار التعويم "المدار"، ليرتفع سعر الدولار الرسمي إلى ستة وأربعين جنيهاً، على أمل القضاء على السوق الموازية والسيطرة على الأسعار وتهدئة الاحتقان في الشارع المصري ولو قليلاً. وهو ما حدث بالفعل نسبياً.
لكن هل تلك التهدئة، وذلك الاستقرار يمكن التعويل عليهما؟ هل الاستقرار في مصر مع بداية ولاية السيسي الثالثة قوي وثابت، أم أنه مؤقت والوضع ما زال قابلاً للانفجار في أي لحظة؟
نظرياً، الوضع في هذه اللحظة في صالح السيسي؛ إقليمياً هناك إجماع على أهميته في هذا الظرف التاريخي المعقّد، والخليج عاد إلى دعمه مالياً مجدداً، والشارع يخشى مصير الدول المجاورة، والمؤسسة العسكرية تدعمه بعد أن شبّكت اقتصادياً بشكل موسع مع حكمه. لكن المحرّك الأساسي لعدم الاستقرار، وتفجر الوضع ما زال مشتعلاً تحت الرماد، وماثلاً في الأزمة الاقتصادية الخانقة الناتجة عن السياسات الاقتصادية التي اتّبعتها ولا تزال تتّبعها حكومة السيسي بتوجيهات شخصية منه.
الإجابة عن سؤال الاستقرار في مصر لن تأتي عبر التهديد، ولا من مسكنات تُضخّ من الخليج. الحل الحقيقي الذي يضمن للسيسي ونظامه الاستقرار لن يأتي سوى عبر إصلاح حقيقي وتعديل جوهري في السياسات الاقتصادية، لا بمجرد تبديل للوجوه.
تركيبة السيسي كجنرال تجعله يميل أكثر إلى الفردية وعدم الثقة بـ"المدنيين"، لذا فإن أمامه أمرين لا ثالث لهما.
المشكلة أن ذلك التعديل يعني، بادئ ذي بدء، التوقف عن العمل في المشاريع الضخمة التي لا عائد اقتصادياً منها، وفتح المجال للقطاع الخاص، والتقليل من دور الجيش الاقتصادي، وتغيير في البنية التشريعية بشكل يشجع الاستثمار الحقيقي على الدخول إلى مصر. وهذه الوصفة وإن بدت واضحةً وجليةً، إلا أنها قد تمثّل مغامرةً للسيسي شخصياً بخسارة الداعم الأول له، فضلاً عن أن تركيبة السيسي كجنرال تجعله يميل أكثر إلى الفردية وعدم الثقة بـ"المدنيين"، لذا فإن أمامه أمرين لا ثالث لهما:
الأول أن يختار مسار الإصلاح الاقتصادي ويصبر عليه وعلى ثمنه.
أما الثاني، فأن يستمر في المسار نفسه معتمداً على القبضة الأمنية، التي قد لا تستطيع في أي لحظة السيطرة على انفجار يأتي عفوياً وبلا ترتيب من الشارع، جرّاء الأزمة الاقتصادية الطاحنة.
فأي المسارين سيسلك السيسي؟ هذا ما سيجيب عنه هو شخصياً في ولايته الثالثة التي بدأت قبل أيام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.