تخيل فلسطينيون كثر شكل حياتهم لو لم يقتلعهم الاحتلال الإسرائيلي من بيوتهم في النكبة عام 1948. وربما تساءلوا كيف سيبدو مشهد عودتهم إلى ديارهم التي عرفوها من خلال مرويات آبائهم أو أجدادهم.
حاولت الفنانة الفلسطينية فيرا تماري أن تصنع من هذا التخيل مادة حية، وأن تحول الأرشيف البصري والشفوي الموروث من عائلتها إلى حقيقة معيوشة، من خلال كتابها الجديد "هكذا نعود".
فالعودة، بالنسبة لتماري، فعل مستمر. وبصيغة المضارع، تعنون كتابها الذي يمثل طريق العودة الذي يتراءى لكل فلسطيني هُجّر من دياره وعاد إليها من خلال ذكرياته.
ولدت الفنانة عام 1945 لعائلة من حي العجمي في مدينة يافا. انتقل والدها للعمل في القدس قبل ولادتها، وهناك ولدت. ثم حين دفعت عصابات الهاغاناه بالفلسطينيين إلى اللجوء، لجأت عائلة تماري إلى لبنان لمدة عام، ثم عادت إلى رام الله حيث استقرت.
من خلال النقوش الطينية البارزة والصور الفوتوغرافية، توثق الفنانة في كتابها تفاصيل حياة العائلة وقصصاً شخصية لأفرادها في يافا والقدس قبل النكبة، تعكس حياة الطبقة الوسطى في فلسطين ما قبل النكبة.
وهكذا، بالطين والمخيلة، استطاعت تماري أن تسد ثغرات الذاكرة وتلملم فسيفساء مرويتها الشخصية.
تقفي أثر التاريخ الشخصي
ورثت فيرا أرشيف صور فوتوغرافية عن والدها يحتوي على أكثر من مئتي صورة. لم تكن هذه الصور منظمة أو معنونة أو محدّدة بتواريخ، ما دفع فيرا إلى الافتراض بأزمانها بحسب مظهر والدها، وإلى تخمين أمكنتها بحسب خبرتها في الجغرافيا الفلسطينيّة، أو القصص التي سمعتها عن هذه الصور.
كأنّها تلملم شتات الأرشيف، راحت فيرا تعجن صور عائلة والدها، "تماري"، وعائلة جدتها "عبده"، ووالدتها "دباس" بتجربتها الشخصية مع الشخوص الموجودة فيها، وتجربتها في العودة إلى يافا بعد عام 1967. فكان ذلك سبباً في إصدار كتاب "هكذا نعود".
"كنا سابقاً نعالج قضايا متعلقة بالقضية الفلسطينية، مثل النضال والحركة الأسيرة ونضال المرأة، في كل تجمع فني، من خلال هذه الصورة الجماعية للواقع الفلسطيني"، تقول فيرا لرصيف22.
وتضيف: "لكن ذلك جعلنا نتجاهل أنفسنا وحياتنا الخاصة وقصصنا الشخصية. لحسن حظي، كان والدي يحب التصوير وجمع الصور، فأورثنا أرشيف عائلتنا في يافا والقدس. كنت أنظر إلى هذه الصور وأسمع القصص الخارجة منها عن أصحابها".
كانت عائلة تماري واحدة من بين آلاف العائلات التي هجرت من يافا خلال النكبة. "بقي من أهل المدينة ما يقارب 3 آلاف و 900 نسمة من أصل 120 ألفاً"، يقول لرصيف22 سامي أبو شحادة، الباحث والمتخصص في تاريخ يافا الحديث.
لم تمر العائلة بزاوية من حي العجمي إلا ذكرت حياتها فيها. تصف تماري العودة بأنها فيضان من الذكريات اجتاح والديها أثناء تجولهما في الحي
"ثم تم تركيز من بقي من السكان في حي العجمي. وأحاطت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الحي بسلك شائك، فأصبح اليافيون تحت حكم عسكري.
أما اليهود الأوروبيّون الذين جاءوا إلى يافا، فجلبوا معهم كلمة جديدة لم نكن نعرفها وهي "الغيتو"، والتي تم إطلاقها على حي العجمي. هؤلاء الذين يتكلمون عن المحرقة والعنصرية والنازية، أقاموا في المدن الفلسطينية، وعلى رأسها يافا، "غيتو" للعرب"، يضيف أبو شحادة.
الفن مرمّماً الذاكرة
"أدركت أنني أمتلك مادة ثمينة، بإمكاني التعبير عنها من خلال هذه الصور. فبدأت تنفيذ مشروعي في أواخر الثمانينيات، وتحديداً بتصميم عمل بالفخار البارز لصورة والدتي وهي واقفة عند عتبة البيت. ثم شرعت بكتابة القصة"، تقول فيرا.
وهكذا، اعتمدت تماري في كتابها "هكذا نعود" على أرشيف الصور، وعلى ذاكرتها الشخصية وأعمالها الفخارية. فجمع الكتاب ما بين المادة البصرية والنص.
نشأت فكرة الكتاب، التي تبلورت لاحقاً، من انجذاب تماري إلى اهتمام عائلتها بتوثيق المناسبات الاجتماعية. فتوثق واحدة من هذه الصور زيارة أفراد عائلة والدها: إخوته وأولاد عمه وأولادهم، إلى مكان عمله في الخليل.
إن تفاصيل الصورة البصرية والحميمية الموجودة فيها، والفضاء الذي اتخذت فيه، والحرص على ترتيب الشخوص أمام الكاميرا، واختيار الموقع المشجّر، جعلت تماري تشعر بألفة وهي تنظر إليها.
"كنت أرى نفسي داخل الصورة. من الممكن أن أكون واحدة منهم. تبث الصورة ترابطاً عائلياً وتعكس حياة المجتمع المدني الفلسطيني"، تقول تماري.
وتردف: "خلال عملي بالفخار، كنت كلما أنجزت تصميم شخصية ما، شعرت أنني أصبحت أكثر قرباً منها. أشعر أنني جزء من هذه الصور، وبأن شيئاً وثيقاً يربطني بشخصياتها".
العودة إلى العجمي
في عام 1967، تمكنّت فيرا تماري، رفقة أفراد من أسرتها، من العودة إلى يافا للمرّة الأولى.
لم تمر العائلة بزاوية من حي العجمي إلا ذكرت حياتها فيها. تصف تماري العودة بأنها فيضان من الذكريات اجتاح والديها أثناء تجولهما في الحي.
"لم أدرك في حينه قوة معنى العودة إلى يافا بالنسبة إليهما. ولم أتصور حجم الصدمة التي قطعتهما عن تاريخهما وذكرياتهما، وعلى النحو المفاجئ والشنيع الذي تسببت به النكبة"، تقول تماري.
"كيف حُرمنا من البحر بهذه السهولة. ثم أتوا غرباء وسكنوا مكاننا واستولوا على ذاكرتنا"، تتساءل.
يطل شارع العجمي على البحر. "هذا الحي الذي كان مركز تطور المنطقة الجنوبية في يافا القديمة"، يقول أبو شحادة مضيفاً: "بني خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر، على يد الطبقات الوسطى من المجتمع العربي الفلسطيني في مدينة يافا.
"وصل عدد سكانه عام 1948 إلى ما يقارب 10 آلاف نسمة. وكان يضم قصوراً وبيوتاً جميلة، بالإضافة للمؤسسات الثقافية التي تدلل على الوضع الاقتصادي المتقدم لأهالي الحي.
جذب هذا التقدم الاقتصادي السياحة للمدينة. فتطور الحي، ليصبح أجمل أحياء المدينة، إلى جانب موقعه الجغرافي بمحاذاة شاطئ البحر".
ويضيف أبو شحادة: "من بقي في الحي فقد جميع حقوقه الأساسية، بما فيها حق التنقل. فقبل النكبة، كان جدي صبحي يذهب مع أصدقائه بمركبة خاصة من برج الساعة إلى شارع الحمرا في بيروت لحضور حفلات الزجل. وبعد النكبة، أصبح لا يستطيع الخروج من "الغيتو" إلى الحي المجاور من دون إذن من الحاكم العسكري".
بيوت تُمتلك في المخيلة
كانت شقيقة تماري قادرة على استحضار ذكريات العائلة في يافا أكثر منها بحكم عمرها.
وقبل العودة إلى البيت في يافا، التقت فيرا وشقيقتها بفنانة ألمانية اسمها صوفي آن، كانت تعمل على مشروع عن تهجير الفلسطينيين. فتطلب من اللاجئين رسم بيوتهم كما يتذكرونها.
تقول فيرا: "أعطونا ورقة وقلماً وقالوا لنا ارسموا البيت. بدأنا أنا وأختي برسم الشرفة ثم الحديقة والردهة، فالغرفة المقسمة إلى جزئين، واحد يطل على البحر، وثلاث أقواس وشبابيك مدورة ومكتبة كبيرة".
كأنّها تلملم شتات الأرشيف، راحت فيرا تعجن صور عائلة والدها، "تماري"، وعائلة جدتها "عبده"، ووالدتها "دباس" بتجربتها الشخصية
وتردف: "تمكنّا من رسم منزلنا في يافا كما تذكرناه. وبعد أن انتهينا، انتابنا شعور بالحزن العميق لحجم الخسارة التي خسرناها. تعانقنا ودخلنا في نوبة بكاء".
حين عادت فيرا وعائلتها إلى المنزل في حي العجمي، وجدوا حائطاً يجزئ البيت إلى عدة أجزاء. تسكنه عائلات يهودية وأخرى فلسطينيّة.
"استطعنا أن ندخل الجزء الذي تسكنه العائلة الفلسطينينة. وهو ما اقتُطع من الصالون والغرفة والمطبخ"، تقول تماري.
لقد تحولت بعد النكبة بيوت الفلسطينيين اللاجئين، حسب قانون إسرائيلي، إلى "أملاك غائبين". "توقف الحكم العسكري في يافا أوائل الخمسينيات، ثم أقرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي هذا القانون، الذي تم بموجبه سرقة جميع أملاك الفلسطينيين وتم ضم مدينة يافا إلى تل أبيب"، يؤكد أبو شحادة.
ثم عمد الاحتلال الإسرائيلي تحويل هذا المشهد المتقدم لحي العجمي إلى آخر مليء بالفقر والتهميش والجريمة.
تعتبر تماري أن ألبوم الصور الذي دفعها إلى تنفيذ مشروعها الفني، جعلها تشعر بأنها جزء من هذه الحياة، امتداد طبيعي لها، وليست منفصلة عنها.
تختم: "لو لم تحدث النكبة، لاستمرت حياتنا العائلية في يافا، ولأدركت حقيقة تأثر أمي وأبي حين عادا إلى منزلهما المسلوب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...