"تأدبوا في العزاء، فإن للموت حرمة". كانت هذه واحدة من العبارات التي ترددها خالتي عندما تتجمع نساء العائلة في بيت أجر أحد من الأقارب أو المعارف.
لم أكن من محبي هذا النوع من التجمعات العائلية. فأنا واحدة من الفاشلين في تقديم العزاء، وأبدو أحياناً كبلهاء وسط جموع الواجمين الحزانى.
كانت تجربة عزائي الحقيقية الأولى يوم توفي والدي. حبست نفسي في غرفتي مدة ثلاثة أيام متواصلة، أبكي وحدي، بينما تتجمع نساء العائلة في صالة المنزل يتداولن أحاديثَ كثيرةً عن كلّ شيء، فيما تدور خالتي حولهنّ وتهمس: "تأدّبوا فإن للموت حرمة".
كانت تلح والدتي وخالتي عليّ أن أجلس مع النساء في أيام العزاء. تتبرع النساء، جميعهن، بالطبطبة على كتفي، وتكرار جملة الأفلام المصرية الممجوجة: "حرام عليكِ. وقفي بكا. إن مكانش عشانك فعشان اللي في بطنك".
كنت حاملًا في شهري السادس. وحدي أبكي من بين النساء. تقترب اثنتان أو ثلاث من بعضهن بعضاً ويفتحن حديثاً بصوت خافت. كنت أخجل من صوت شهقاتي وسط كلّ ذلك الهمس، فأعود لغرفتي كي أنام أو أبكي.
في اليوم الرابع للعزاء كان البيت فارغاً من المعزين. فانشغلنا بتنظيفه من آثار القهوة ونوى التمر وبقايا أحاديث النساء عن وصفات الطعام وملابس الحاضرات وأوزانهن وأخلاق أزواجهن ونضوج بناتهن.
لا أذكر أني حضرت بيت أجر أو عرساً بعد رحيل والدي. قطعت علاقتي بالتجمعات وخصصت لنفسي صديقة واحدة مقربة، إلى جانب العائلة. نجتمع كل أسبوع تقريباً، على شاطئ البحر أو في متنزه حكومي وسط مدينة غزة، أو في منزل إحدانا.
لم أبكِ رحيل آمنة بقدر بكائي سخطاً من طريقة موتها. صرخت كمن يلتقط آخر أنفاسه وأنا أرى صورة بقاياها.
كنت أشعر أن هذه العلاقات القليلة تمنحني خصوصية تفتقر لها النساء في عمري، خصوصية مريحة ساعدتني على تجاوز الكثير من الأزمات في ما بعد.
اسمها آمنة، ناشطة اجتماعية، تعمل في مؤسسة تُعنى بشؤون أرامل الشهداء وزوجات الأسرى وأطفالهن. كثيراً ما ألحت علي آمنة حتى أرافقها في الذهاب إلى بيوت العزاء. كانت تقول ممازحة: "روحي اليوم وبكرة الكل بيجي يعزي فيك".
فأجيب: "هيك أنا خفيفة. وبضمنلك بكرة إنه في عزاي محدش رح يحكي عن المحشي".
كان الحديث عن الموت ثقيلاً ولا تناسبه أيٌّ من النكات، فنكتفي بعد تعليقاتنا السمجة بالنظر إلى بعضنا البعض دون ابتسام. فكلانا نؤمن ضمناً أن "للموت حرمة"، وأن تسخيفه غير مقبول لأي سبب كان.
لم أفقد عزيزاً كوالدي خلال السنوات الثماني الماضية، وحتى بداية الحرب على غزة. نزعتْ تجربةُ رحيله عن الموت رداء غموضه، فصار على قدر كبير من السهولة. وأكاد أشك أنني أكثر شاتمي سذاجته التي يعظمها جهلنا بمصيرنا بعده وحسب.
فمن الذي عاد من الموت ليخبرنا كيف يبدو لنكسر خوفنا منه؟ نحن نعيش، على نحو طبيعي، في الحدود الفاصلة بين البقاء والفناء، بين لحظة الحياة الأولى والموت. والموت كلمة واحدةٌ، و"اللا عودة" من معانيها الثابتة. الموت عالمٌ من الصمت والوحدة، هو الانتظار الأطول لمجهول لا نخبره.
إن سهولة الموت لم تكمن يوماً بطرقه المختلفة في تحقيق غيابنا المجهول والطويل، إنما بالغياب كفكرة أساس، كما وصفها الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق: "أنت هنا.. أنت لم تعد هنا".
كان موت والدي غياباً هادئاً أثناء قيلولة منتصف النهار. أما موت آمنة فكان سريعاً ومخيفاً. موت بصاروخ حوّل جسدها، الذي وصل وزنه إلى 58 كيلو بعد سبعة أشهر من حصار مدينة غزة، إلى كومة من اللحم جمعها الناس في كيس بلاستيكي في 24 نيسان/إبريل 2024.
لم أبكِ رحيل آمنة بقدر بكائي سخطاً من طريقة موتها. صرخت كمن يلتقط آخر أنفاسه وأنا أرى صورة بقاياها.
ظننت لشدة حزني أنني لم أعد أعرف كيف أتنفس. كنت أريد أن أبكي بشكلٍ منتظم وبصوتٍ واضح، لكني فشلت. والفشل في اختيار طريقة الحزن الكافية واحدة من أسرار الموت التي لا علاقة لها بسهولة حدوثه.
موت آمنة كان سريعاً ومخيفاً. موت بصاروخ حوّل جسدها، الذي وصل وزنه إلى 58 كيلو بعد سبعة أشهر من حصار مدينة غزة، إلى كومة من اللحم جمعها الناس في كيس بلاستيكي
سبق آمنة استشهاد أبناء شقيقتي الأربعة. أنا خالتهما الوحيدة. صغار لطفاء ومهذبون، هم بسمة وبيسان وعبد الله ومصطفى. قتلوا بصاروخ إسرائيلي استهدف عمارة سكنية أقامت فيها عائلتهم الممتدة. قتلهم الاحتلال الإسرائيلي رفقة 28 فرداً من عائلتهم في مجزرة وقعت بتاريخ 24 تشرين أول/أكتوبر 2023.
كان رحيلهم مخيفاً. فهي المرة الأولى التي أفقد فيها أربعة من أحبائي في لحظة واحدة. كنت أقول دائماً، وبعد كل حرب إسرائيلية على غزة إن الموت مرّ عني ولم أمت. لكن في ذلك اليوم، قتلني الموت دون أن يتوقف قلبي، قتلني دون أن يترك أثراً واضحاً على جسدي.
لا أذكر من تفاصيل الجريمة سوى أنني كنت في ساعة استراحتي وقرأت خبراً عن مجزرة إسرائيلية بحق عائلة شعبان. صار جسدي بارداً، والهواء الذي أتنفسه قاسياً كأنه يجرح جوفي. وما بين قراءة الخبر والتأكد منه، كنت قد سقطت على الأرض مرات. ولولا مساعدة زميلاتي في العمل وتطوع إحداهن لإيصالي بسيارتها، لما وصلت إلى منزلي ذاك اليوم.
في الليلة الأولى بعدَ رحيل والدي ظننت أنني لن أصحو في نهار اليوم التالي. نمت في سريره ووضعت رأسي على وسادته وأنا موقنة تماماً أن هذه ستكون إغفاءتي الأخيرة. لكن استشهاد أبناء شقيقتي دفعني إلى مراجعة مفهومي الذي كونته عن الموت. وبغضب لم يسبق أن خبرته تجاه نفسي، تحوّل ذلك الاستخفاف بفكرة الموت إلى خوف منه.
جميعهم كانوا يحاولون النجاة، وكانت الحياة حقهم الذي سُلب لصالح موت لم يختاروا شكله وميعاده
فلماذا يخطف صاروخ وجودنا بكل هذه البساطة؟ ومن أعطى نفسه الحق بأن يختار لنا الغياب الطويل المجهول؟ وكيف يمكن أن يكون قتلنا في منازلنا وفي الشوارع وأثناء فرارنا للنجاة، سهلاً، ويمكن التعايش معه؟
لم يعد تبسيط الموت كافياً من أجل فهم رحيل أحبائنا. فأبناء شقيقتي وصديقتي آمنة وابنها مهدي وحليمة وأبناؤها الخمسة وآلاء وسعاد وخالي حسني وحفيده وزوجة ابنه قُتلوا وهم يبحثون عن النجاة. ولم يموتوا أثناء قيلولة منتصف النهار. وبرغم أن القتل لا يغير من مجهولية الغياب، لكنه يظلّ صورة الموت الأكثر فظاعة.
قالت لي آمنة، التي هزمت الموت بالصواريخ الإسرائيلية ثلاث مرات: "كنت كلّ مرة أكون فيها تحت الأنقاض أقول لحالي لسا بدري، أنا بدي أعيش". وكانت بسمة، ابنة أختي المتفوقة، وأشقاؤها ينتظرون أن تنتهي الحرب ليعودوا للدراسة. وكانت حليمة تعد لزفاف شقيقتها الدكتورة دعاء التي قُتلت معها بنفس الصاروخ. وآلاء كانت تنتظر أن تُنجب جنينها. سعاد كانت تحلم بمنزل تملكه. وخالي حسني كان يريد أن يكمل مشواره في رعاية أبنائه وأحفاده بعد أن تقاعد.
جميعهم كانوا يحاولون النجاة، وكانت الحياة حقهم الذي سُلب لصالح موت لم يختاروا شكله وميعاده؛ موتٌ أقسى ما فيه طريقة حدوثه، وأبشع ما فيه سهولته.
حين حملت صغيراتي وخرجنا من غزة قبل ثلاث سنوات، نسعى لحياة لا يمتطي فيها الموت صاروخاً إسرائيلياً، لم يكن في حسباني أن الموت إرث، إرث امتزجت به مكوناتي منذ ولدتُ لاجئة في مخيم في قطاع غزة.
صار لزاماً علي أن أقدّسه كنهاية حتمية غامضة، حتى وإن كنت قادرة على الإحاطة فكرته. وبين فراري من الموت المتعمد السريع والمخيف في غزة إلى الموت البارد في أوروبا، كان ثمة شكل آخر للموت، هو الحزن، يشبه موجة تغطيك حتى تنقطع أنفاسك، ثم تنحسر عنك بلا مقدمات. وهو موت، لا زلت بعد 37 عاماً، عاجزة عن فهمه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين