ليست السير الذاتية ملاذاً للكتّاب والفنانين قرب نهاية المشوار. قد يراها الناقد الكسول خياراً سهلاً يلي فراغ خزائن الإبداع، فيكون العزاء باستدعاء الماضي واعتصاره، ولو بإعادة إنتاج "كتابة" غير أصيلة.
السيرة فنٌ يتعدى صون الذاكرة، إلى الحفاوة بما يستحق البقاء. السيرة أطول من عمر صاحبها، وأعمق من إضاءة قصة حياته. هي مرآة تؤرخ مساراً يسع الرحلة الشخصية، في ضوء سيرة الوطن وتحولاته. السيرة الذاتية لا تستحق أن تُكتب، ولا أن تُقرأ، ما لم تُلهم الآخرين، تستهدف الإنساني من تفاصيل حياة الكاتب.. ميراثه وخياراته، طاعته وتمرده، قوته وهشاشته. كل هذا بضمانة "كتابة" لا تتخلى عن جمالياتها، ذلك هو الشرط الأول والأخير.
في سيرتها الذاتية "حين يبوح النخيل"، راهنت الكاتبة القطرية هدى النعيمي على جماليات الكتابة، فتعمدت ترك فجوات، واثقة بذكاء القراء، كما اختارت شكلاً روائياً يبدأ بإحدى الذرى، فالكاتبة في السطر الأول، ومن دون كتابة مقدمة للسيرة، تسجل حضورها مؤتمراً للأمم المتحدة، وتأكيدها أن اتفاقية استخدام الزئبق ومشتقاته، والتخلص من مخلفاته، "غير قابلة للتطبيق على نطاق عالمي"، وأغلقت مكبر الصوت، غير مبالية بوفود الدول والعلماء المختصين في الاستخدام الآمن للمواد الكيميائية الخطرة، ومنها الزئبق. لم تأبه لهم، وانشغلت برسم خرزة من الزئبق، في دفتر الملاحظات، ولوّنت الدائرة بقلم الرصاص، وكبرت الدائرة وانزلقت من الورقة، إلى الطاولة، إلى خارج القاعة، وهي تتابعها.
في سيرتها الذاتية "حين يبوح النخيل"، راهنت الكاتبة القطرية هدى النعيمي على جماليات الكتابة، فتعمدت ترك فجوات، واثقة بذكاء القراء، كما اختارت شكلاً روائياً يبدأ بإحدى الذرى
الامتلاء والإدراك والإحاطة تؤدي إلى البساطة، وتفادي الاستعراض بالمعرفة، وربطها بأمثلة حيوية، فالكاتبة وهي تتابع كرة الزئبق المتحرجة إلى خارج القاعة، ترجع بالذاكرة إلى الطفولة، في مختبر المدرسة، والمعلمة تمسك بقارورة فيها زئبق تسكب منه قطرة، ثم يلتصق جزء من كرة الزئبق بالسوار الذهبي للمعلمة، فيؤدي إلى تلفه، "وهكذا خسرت المعلمة سوارها الذهبي لقاء أن تشرح لنا خصائص الزئبق"، ويتأكد للكاتبة بعد الخبرة بالمعادن وبالناس أن الذهب يتغير، والناس أيضاً يتغيرون حين يعترضهم زئبق، أو كائنات سامة، تجعلهم أكثر ضعفا أو صلابة. وإذا كان زئبق مختبر المدرسة قوساً أول في بداية الرحلة، فالقوس الثاني الذي يغلق الجملة هو الفصل الأخير.
ففي فصل "حول العالم مع الفيزياء" تتابع التلميذة كرة الزئبق الصغيرة وهي تكبر، كلتاهما تكبر، التلميذة والكرة التي تخرج من المعمل، إلى مدينة ميناماتا اليابانية، وقد تعرّض سكانها لآثار تلوث مياه خليج ميناماتا بالزئبق، وتسرب إلى المياه والطعام، وأدى إلى موت أكثر من مئتي ألف مواطن.
كبرت التلميذة أيضاً، ونالت الدكتوراة في الفيزياء، وتخصصت في الطب النووي والتطبيقات الطبية للإشعاع، وتمثل بلادها في مؤتمرات دولية، وتكون الوكالة الدولية للطاقة في فيينا إحدى محطاتها. لا تقترب من السياسة، ولكن السياسة حاضرة في تفاصيل سيرة القتل، وذروته إلقاء الولايات المتحدة قنبلتي هيروشيما وناجازاكي عام 1945، من دون داعٍ؛ فاليابان على وشك الاستسلام.
المنتصر يعتبر الوحشية بطولة، وإثباتاً للجدارة. ففي زيارة للمعامل الأمريكية، قابلت الكاتبة مرشداً شارك في صناعة السلاح النووي، ويتمتع بذاكرة قوية على الرغم من اقترابه من سن التسعين. شرح الرجل قصة الذرة، وصولاً إلى إلقاء القنبلتين في نهاية الحرب العالمية الثانية، وتوقف عند نموذج بالحجم الطبيعي لقنبلة هيروشيما، طولها نحو ثلاثة أمتار، برأس مدبب سهّل انزلاقها عند إلقائها. وسأله أحد الضيوف هل يشعر بالفخر بما فعلته الولايات المتحدة باليابان؟ فأجاب بلا تردد: "نعم، كل فريق العمل فخور... لتكون أمريكا سيدة العالم"، وكرر: "جميعنا في هذه البلاد فخورون بالنصر العلمي والعسكري". في الفخر بالفتوحات، لا أرى اختلافاً كبيراً، بين عربي وغربي.
السيرة فنٌ يتعدى صون الذاكرة، إلى الحفاوة بما يستحق البقاء. السيرة أطول من عمر صاحبها، وأعمق من إضاءة قصة حياته. هي مرآة تؤرخ مساراً يسع الرحلة الشخصية، في ضوء سيرة الوطن وتحولاته.
سيرة هدى النعيمي، التي نشرتها دار جامعة حمد بن خليفة للنشر في الدوحة، تؤرخ لنهضة قطر، فالجامعة افتتحت عام 1973، بمساعدة اليونسكو، أما الأساتذة فأغلبهم مصريون، "بل ربما كانوا جميعهم من مصر". فتنت هدى الطالبة بقصة ماري كوري، فقرأت عنها، وجذبتها مادة الفيزياء، فدخلت كلية العلوم، وتخصصت في الفيزياء الطبية، وصار الأدب قريناً للعلم، ولا تخلو القراءة في العلوم من طرافة، فالأدب إنجاز فردي، والعلم ثمرة جهود جماعية، حتى إن الرئيس الأمريكي جون كيندي حين زار وكالة الفضاء الأمريكية سأل عاملاً بسيطاً، ينظف الأسطح وعليها الأوراق، ماذا يفعل هنا؟ في ناسا؟ فأجابه بثقة: "أساهم في صعود الإنسان إلى سطح القمر".
لم يتحقق حلم الطالبة بدخول المجال الأكاديمي في جامعة قطر، وأمدها عملها في مؤسسة حمد الطبية بخبرات واسعة، فالعاملون بالمؤسسة من جنسيات وأديان ومذاهب مختلفة، وقبول الآخر يبدأ بالوعي باختلاف الطبائع، فهذه كارمن الإنجليزية الضحوك، تفاجئهم بالمغادرة حين قامت حرب الخليج (1991)، ولم تكلف نفسها وداع الزملاء، ولم تقدم استقالتها.
ومارك مهندس الصيانة الألماني استكثر عليها حل رموز معادلة، وجعلها تعتقد "أن عجرفة الألمان لا تحتمل". وكان سيد المصري أول من خضع لزراعة كُلْية في قطر، نهاية الثمانينيات، وتبرع بها أخوه، ونجحت الجراحة، وبعد شهور عاد سيد وزوجته إلى مصر، ومعه حقيبة أدوية غالية الثمن تكفيه ثلاثة أشهر. فماذا فعل؟
باع الأدوية لجاره مالك الصيدلية، وبثمنها تزوج صبية، وأقام حفل زفاف كبيراً، واشترى للعروس بيتاً. وأم الأولاد في البيت القديم. ثم رجع إلى قطر على كرسي متحرك تدفعه العروس التي قال إنه تزوجها؛ "لأستعيد شبابي. نصحوني بالزواج فتزوجت". وأدى إهمال تناول الأدوية إلى تراجع صحته، وإن ظل يضحك باستمرار، ومن الكرسي المتحرك انتقل إلى سرير متحرك، فلم يعد قادراً على الجلوس، وحضرت الزوجة الأولى، أم العيال، "صامتة كعادتها، وتحمد الله"، ومات سيد فحزنوا جميعاً عليه، لكنهم يتذكرون سعادته بزواجه الثاني. هكذا تتذكره هدى النعيمي التي قررت مغادرة بلادها إلى القاهرة، مدفوعة بالرغبة في المعرفة، حتى نالت الدكتوراه في الفيزياء النووية.
يوجد فرق بين التعليم والثقافة. التعليم تفوّق معلوماتي يجيده أحياناً حفظة محدودو الثقافة والوعي بالحياة. والثقافة رغبة دائمة في الفهم، ومحاولات للتجاوز. لدى طلاب الفلسفة ومدرسيها معلومات أكثر مما عرفه أرسطو، لكنهم يظلون طلاباً ومدرسين. وقد يبتعث طلاب للدراسة، ولا يتفاعلون مع محيطهم، ولا يحصّلون ثقافة، ولو نالوا الدكتوراه في تخصصات نادرة.
محمد مندور ابتعث للدكتوراه، فشغلته باريس عن الهدف الأكاديمي، ولم ينل الدكتوراه، بعد تسع سنوات، فأغضب طه حسين؛ ورفض تعيينه. لم يندم مندور الذي أشبع نهمه المعرفي، واندمج في الثقافة اندماجاً أهّله لترجمة فلوبير وغيره، وغادر فرنسا إلى اليونان يتقصى أثر فلاسفتها. ثم عاد ليحظى بلقب شيخ النقاد.
وفي هذه السيرة، وبقفزات زمنية ومكانية رشيقة، ملاحظات ذكية عن قضايا إنسانية، ونماذج بشرية، وطقوس الاستمتاع بالحياة، وعروض سينمائية ومسرحية لا تغادر الذاكرة، ورصد للتباين بين الأجيال، فأبو الكاتبة صحبها إلى فرنسا في مرحلة الماجستير، وحافظ على طعام قطريّ حمله من الدوحة، وكره الفرنسية، "وعدّها لغة مائعة لا تصلح للرجال".
في هذه السيرة، وبقفزات زمنية ومكانية رشيقة، ملاحظات ذكية عن قضايا إنسانية، ونماذج بشرية، وطقوس الاستمتاع بالحياة، وعروض سينمائية ومسرحية لا تغادر الذاكرة
والكاتبة لا تضع نفسها محوراً للعالم، ففي بيت الطالبات بالقاهرة مساحات لزميلتيها الدكتورة زكية مال الله والدكتورة كلثم جبر وغيرهما. ولا تنسى خطوات بلادها نحو الحداثة، كالسماح للمرأة بقيادة السيارة، عام 1998. وكانت رؤية سيارة تقودها امرأة "وكأنها قادمة من كوكب آخر". قيادة السيارة ساعدت الكاتبة "على بناء الثقة بالنفس".
وفي مجال التخصص، تتواصل الدكتورة هدى النعيمي مباشرة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومع علماء من جنسيات مختلفة، وتقوم بمهام من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. وصارت لها في المؤسسة الطبية إدارة خاصة خارج قسم الأشعة، ومعها فريق من الفيزيائيين، ولهم أبحاث باسم المؤسسة.
وبعد حصولها على الدكتوراه، كان رئيسها في قسم الأشعة لا يرى لوجودها نفعاً، واقترح عليها البقاء عدة أشهر في البيت، ولن تُحاسب "على الغياب". وبإصرارها أثبتت أن الاستحقاق يتطلب عزيمة. وأغناها التحقق عن حلمها القديم بالعمل الأكاديمي. في الحياة ثراء يدعونا إلى اكتشافه. وفي هذه السيرة عذوبة، ولا تخلو أيضاً من آلام تخفف آثارَها الكتابة الجميلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه