من المعروف أن الأديان تنقسم إلى نوعين متمايزين، أولهما تبشيري يروّج لنفسه باعتباره ديناً عالمياً، يصلح للأعراق والأجناس كافة في كل مكان حول العالم، وثانيهما منغلق يرفض التبشير ويفضّل التقوقع داخل حيّز جغرافي أو عرقي محدد.
المسيحية والإسلام، يعدّان من أشهر أديان النوع الأول، وهما يحتلان المركزين الأول والثاني على التوالي في قائمة الأديان الأكثر انتشاراً حول العالم، أما التاوية الصينية والشنتوية اليابانية، فتصلحان للاستخدام كنموذجين للأديان غير التبشيرية، التي لم تخرج من موطنها الأول في الشرق الأقصى.
على الرغم مما سبق، من الممكن ملاحظة عدد من اللحظات التاريخية الفارقة التي مرت بها مجموعة من الأديان المنغلقة، ونتج عنها تغيّر كبير في موقف تلك الأديان من الآخر، لنراها وقد اكتسبت الصفة التبشيرية من جهة، ولتنتشر على نطاق واسع خارج معاقلها الأولى من جهة أخرى.
اليهودية، الشتات والأسباط العشرة المفقودون
من المعروف أن اليهودية دين من الأديان المنغلقة، غير التبشيرية، والتي اختُصّ بها شعب معيّن، هو الشعب الإسرائيلي، الذي انحدر من نسل الأسباط الاثني عشر، وهم أبناء النبي يعقوب/إسرائيل عليه السلام.
من المعروف أن الأديان تنقسم إلى نوعين متمايزين، أولهما تبشيري يروّج لنفسه باعتباره ديناً عالمياً، يصلح للأعراق والأجناس كافة في كل مكان حول العالم، وثانيهما منغلق يرفض التبشير ويفضّل التقوقع داخل حيّز جغرافي أو عرقي محدد
هذا التماهي بين العرقية والدين، يظهر -بشكل واضح- في المعتقدات اليهودية التقليدية التي تنظر إلى بني إسرائيل على كونهم شعب الله المختار، وتحيط بهم العناية الربانية، أما باقي الشعوب الإنسانية فمجرد "غوييم" (بمعنى أغيار)، وأقل مكانةً ومنزلةً. كذلك يظهر هذا التماهي في التشريعات اليهودية، التي أكدت على أن الدين اليهودي إنما ينتقل بالوراثة من الأم إلى أبنائها.
برغم ذلك، فإن مراجعة تاريخ اليهود من شأنه أن يقدّم بعض الحالات التي انتشرت فيها اليهودية خارج العرق الإسرائيلي، وذلك لبعض الأهداف السياسية أو الديموغرافية. بحسب ما هو معروف، فإن مملكة بني إسرائيل قد انقسمت في القرن العاشر قبل الميلاد، إلى مملكتين منفصلتين، الأولى شمالية تُعرف بإسرائيل ويسكن فيها عشرة من الأسباط، والثانية جنوبية تُسمّى يهوذا، ويسكن فيها سبطان فحسب، هما سبطا يهوذا وبنيامين.
في 722ق.م، قام الأشوريون بتدمير مملكة إسرائيل، أما مملكة يهوذا فقد ظلت صامدةً حتى سنة 586ق.م، عندما تم القضاء عليها بواسطة الجيوش البابلية، وفي الحالتين قام الغازي المنتصر -الأشوري/البابلي- بسبي الشعب المهزوم، ونقله ليسكن في مناطق مختلفة من أرض العراق، الأمر الذي نقل اليهودية إلى بلاد الرافدين وبلاد فارس.
إذا كان شعب يهوذا قد قُدّر له أن يعود مرةً أخرى إلى فلسطين في عهد العاهل الفارسي كورش الأول، فإن شعب إسرائيل قد تعرض للشتات والضياع، وقد عُرف هؤلاء المشتتون باسم الأسباط العشرة المفقودين.
بحسب المعتقد اليهودي فإن الأسباط العشرة قد تفرقوا في أنحاء متفرقة من آسيا وإفريقيا وأوروبا، واندمجوا في الكثير من المجتمعات، ومن المُرجح أنهم قد تخلوا -بعض الشيء- عن التعاليم الصارمة التي تمنعهم من التزاوج مع الشعوب الأخرى، ونتج عن تلك التغيرات الديموغرافية المهمة، أن اليهودية عرفت طريقها إلى أماكن جديدة عن طريق المصاهرة، وإلى شعوب لا تنحدر من نسل يعقوب.
من المعروف أن اليهودية دين من الأديان المنغلقة، غير التبشيرية، والتي اختُصّ بها شعب معيّن، هو الشعب الإسرائيلي.
على سبيل المثال، من المعروف أن الكثير من الإسرائيليين قد رحلوا إلى مصر بعد السبي البابلي، وأنهم سكنوا في الصعيد، ثم رحلوا -عبر النيل- إلى بلاد الحبشة، وهناك اختلطوا بالسكان الأفارقة الوثنيين، ونشروا الدين اليهودي في تلك المنطقة، الأمر الذي نتج عنه ما يُعرف الآن باسم يهود الفلاشا.
الباحث المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري، ذكر في كتابه "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، أن يهود الفلاشا حاولوا أن ينسبوا أنفسهم عرقياً إلى بني إسرائيل، عندما روّجوا لقصة أسطورية تقول إن ملكة سبأ كانت تسكن في الحبشة، وإنها "سافرت إلى القدس واعتنقت اليهودية بتأثير ملكها سليمان وأنجبت منه منليك الذي عاد يوماً لزيارة أبيه فأكرم وفادته وأمر بعض رجال حاشيته وبلاطه الملكي بمرافقة الأمير عند عودته".
في حالات أخرى، عُرف الانتشار اليهودي ببعده السياسي الواضح، ومن ذلك ما وقع في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، عندما انتشرت اليهودية في جنوب شبه الجزيرة العربية، على يد الملك الحميري يوسف ذي نواس، الذي قام بحملة شهيرة على اليمن، أجبر خلالها المسيحيين على التحول إلى اليهودية.
في السياق نفسه، كانت السياسة عاملاً مهماً في نشر اليهودية وسط بعض القبائل التركية في القرن التاسع الميلادي، ونقصد هنا، قبائل الخزر، التي كانت تعيش في مناطق جنوب القوقاز وشمال أذربيجان وأرمينيا.
بحسب ما يذكر المؤرخ البريطاني دوغلاس دنلوب، في كتابه "تاريخ يهود الخزر"، ففي بدايات القرن التاسع الميلادي، ومع الضغوط الكبيرة التي تعرضت لها مملكة الخزر من جانب القوتين المتاخمتين لحدودها، وهما الدولة العباسية والإمبراطورية البيزنطية، اعتنق الخزر اليهودية كنوع من أنواع التمايز وتحقيق الاستقلال الديني-السياسي عن جيرانهم من المسلمين والمسيحيين، وفي بدايات القرن العاشر الميلادي، دخل الخزر في عدد من المعارك الطاحنة ضد الروس، وانتهت تلك المعارك بتدمير مملكة الخزر، وفقدانها الشطر الأكبر من أراضيها، ليهاجر الكثير من اليهود الخزريين إلى شرق القارة الأوروبية وغربها، ولينحدر من نسلهم اليهود المعروفون الآن بالأشكيناز، والذين يمثلون الأغلبية الغالبة من يهود العالم المعاصر.
البوذية، إرساليات أشوكا والتأثير اليوناني
بحسب ما هو معروف، فإن الإسكندر المقدوني تمكّن من اجتياح مناطق واسعة من العالم القديم في القرن الرابع قبل الميلاد، إذ وصلت جيوشه إلى شبه القارة الهندية، بعدما حطمت الإمبراطورية الفارسية واستولت على المستعمرات التابعة لها في منطقة الشرق الأدنى.
في أعقاب ذلك الاجتياح، ظهرت أسرة حاكمة جديدة في الهند، هي الأسرة المعروفة باسم أسرة موريا، والتي حكمت شبه القارة الهندية لمدة تقترب من مئة وخمسين عاماً. أعظم ملوك هذه الأسرة كان الملك أشوكا، الذي حكم في الفترة الواقعة بين عامي 273 و232 ق.م، ويعدّ أحد أهم ملوك الهند وأكثرهم تأثيراً عبر التاريخ، كما ارتبط اسمه بنشر الديانة البوذية، وتحويلها إلى ديانة تبشيرية عالمية، بعد أن قام بنشرها خارج حدود موطنها الأصلي في الهند.
التاوية الصينية والشنتوية اليابانية، تصلحان للاستخدام كنموذجين للأديان غير التبشيرية.
لفهم النقطة الأخيرة، ينبغي الرجوع إلى تاريخ ظهور البوذية في القرن السادس قبل الميلاد، إذ تتفق المصادر على أن تلك الفترة شهدت دعوة المصلح سيدهارتا غوتاما -وهو نفسه الذي سيُعرف في ما بعد باسم بوذا- إلى مذهب ديني جديد، بهدف إصلاح النفس والوصول إلى الحقيقة. هذا المذهب كان في بدايته مجرد حركة إصلاحية داخل الدين الهندوسي الذي كان يعتنقه سكان الهند في تلك الفترة، وبحسب ما يذكر داميان كيون في كتابه "البوذية: مقدمة قصيرة جداً"، فإن بوذا نظّم طلابه على شكل جماعة مُرتبة، وشجعهم على تعليم الناس أصول مذهبه، فكان مما قاله لهم: "اذهبوا أيها الرهبان وتجوَّلوا من أجل خير ورفاهية الناس"، ولكن على الرغم من ذلك ظلت البوذية فرعاً من الهندوسية، ولم تتمكن من تحقيق الانفصال الكامل عنها.
في عصر أشوكا، اختلف الأمر بشكل كامل، ذلك أن هذا الإمبراطور الذي ندم كثيراً على الكثير من المذابح الدموية التي اقترفها في سبيل توطيد مركزه السياسي، تأثر كثيراً بالنزعة الروحية التي تميّز البوذية، ومن جهة أخرى فإن أصداء محاولة الإسكندر المقدوني توحيد العالمين الشرقي والغربي، في وحدة سياسية-ثقافية واحدة، كانت لا تزال تتردد في ذهن أشوكا، الأمر الذي حدا بالعاهل الهندي إلى اعتناق البوذية، والعمل على نشرها لتصبح ديناً عالمياً، يؤمن به الناس في شتى أنحاء المعمورة.
أشوكا ذكر جانباً من مجهوداته في نشر البوذية، وذلك في شكل مراسيم دوّنها على بعض النصب الحجرية التي توزعت في مختلف أنحاء الهند، وعُرفت باسم أحجار أشوكا، وقد جاء في بعضها أن الكثير من العرقيات قد اعتنقت البوذية في مناطق حكمه. وبحسب ما يذكر الباحث السوري فراس السواح، في كتابه "موسوعة تاريخ الأديان"، فإن أشوكا بعث العديد من الإرساليات البوذية التبشيرية إلى خارج الهند، الأمر الذي أسهم في نشر تلك الديانة -على نطاق واسع- في كل من سريلانكا، ومينامار، وبورما، والتيبت، كما حدا بها -أي البوذية- لتصبح من الأديان المهمة في كل من الصين، واليابان، وكوريا، وفيتنام.
الجهود التبشيرية التي بذلها أشوكا لم تقتصر على الأقاليم المجاورة للهند، بل تعدت ذلك لتصل إلى معظم أنحاء العالم، إذ قام العاهل الهندي بإرسال بعثاته البوذية إلى كل من سوريا ومصر واليونان، وحققت تلك البعثات حظوظاً متفاوتةً من النجاح والتأثير، إلى درجة ظهور نوع مخصوص من الفلسفة يُعرف باسم البوذية الإغريقية، وهو النوع الذي انتشر بشكل كبير على سواحل البحر المتوسط.
المؤرخ الأميركي ويل ديورانت، في موسوعته الشهيرة "قصة الحضارة"، وصف إسهام أشوكا في تحويل البوذية لتصبح ديناً تبشيرياً عالمياً، ومما قاله في ذلك: "...في القرنين التاليين لموته، انتشرت البوذية في أرجاء الهند، وبدأت غزوها لآسيا غزواً لا تراق فيه الدماء؛ فإذا رأيت إلى يومنا هذا، وجه غوتاما -بوذا- الهادئ يأمر الناس من سيلان إلى اليابان، بأن يعامل بعضهم بعضاً بالحسنى، وأن يحبّوا السلام، فاعلم أنه مما أدى إلى ذلك أن حاكماً، وإن شئت قل قديساً، كُتب له يوماً أن يتربع على عرش الهند".
الهندوسية، سافاركار وهندوتفا
كما هو معروف، فإن الديانة الهندوسية هي ثالث أكبر ديانة في العالم من حيث الانتشار، إذ يزيد عدد معتنقيها عن مليار نسمة، وتؤمن بمجموعة من الكتب المقدسة، تم تدوينها على فترات متباعدة من التاريخ القديم، ومن أهم تلك الكتب "الفيدا"، و"الأوبانيشاد"، و"الماهباهاراتا"، و"الرامايانا". من الشائع النظر إلى الهندوسية على كونها ديانةً عرقيةً-جغرافيةً، وترتبط بشبه القارة الهندية على وجه الخصوص، فكل من يعيش على الأراضي الهندية هو هندوسي بالتبعية، إلا إذا أعلن عن اعتناقه أحد الأديان المخالفة كالإسلام أو المسيحية أو اليهودية. من هنا نستطيع أن نتفهم سبب ابتعاد الهندوسية التقليدية عن التبشير، لا سيما خارج حدود شبه القارة الهندية.
على الرغم مما سبق، فإن القراءة المتأنية في تاريخ تطور الهندوسية في القرون الأخيرة على وجه التحديد، قد تكشف عن تغيّر واضح في موقف تلك الديانة من التبشير، الأمر الذي أشارت إليه كيم نوت، في كتابها "الهندوسية: مقدمة قصيرة جداً"، عندما تحدثت عن نشر الهندوسية خارج الهند، مع التجّار والعمال الذين تم توظيفهم في مختلف قارات العالم. على سبيل المثال، تذكر نوت، أن التجار الهندوس قد نشروا الهندوسية في كل من بورما وماليزيا، كما أن الهنود الذين عملوا لحساب الإمبراطورية البريطانية في مشاريع مدّ خطوط السكك الحديدية في القارة الإفريقية، قد أوجدوا تجمعات هندوسيةً مهمةً في كل من موريشيوس وكينيا وأوغندا وتنزانيا ومالاوي.
التبشير الهندوسي ظهر بشكل أكثر وضوحاً، مع تأسيس بعض المنظمات الهندية القومية اليمينية، ومنها على سبيل المثال، حركة "آريا ساماج"، التي تأسست في مدينة بومباي في 1875
أما في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، فقد هاجر الكثير من الهندوس إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي تكرر أيضاً مع هجرة مئات الآلاف من الهنود إلى الخليج العربي في وقت لاحق، وتؤكد نوت أن الأغلبية الغالبة من هؤلاء المهاجرين قد تمكنت من نقل الكثير من القيم الهندوسية إلى المجتمعات الجديدة، وأن تلك القيم تظهر بشكل واضح ومعلن في أثناء ممارسة الطقوس والمشاركة في الاحتفالات الدينية.
التبشير الهندوسي ظهر بشكل أكثر وضوحاً، مع تأسيس بعض المنظمات الهندية القومية اليمينية، ومنها على سبيل المثال، حركة "آريا ساماج"، التي تأسست في مدينة بومباي في 1875، والتي دعت بشكل واضح إلى انفتاح الهندوسية على التبشير، والتركيز على الهنود الذين تحولوا إلى اعتناق الإسلام أو المسيحية، في محاولة لردّهم مرةً أخرى إلى المعتقدات الهندوسية التي آمن بها أجدادهم منذ قرون بعيدة.
في السياق نفسه، كان المفكر الهندي اليميني فيناياك دامودار سافاركار، واحداً من أهم المفكرين الذين دعوا صراحةً للتبشير الهندوسي بمعناه الأيديولوجي الواسع، وذلك في سنة 1923، في أثناء السعي إلى تحقيق الاستقلال الهندي عن الإمبراطورية البريطانية، وذلك عندما نشر كتابه المهم "هندوتفا: من الهندوسي؟"، والذي جاء فيه: "المسلمون والمسيحيون هم ذريَّة هذه الأمة الهندوسية قبل أن يتحولوا إلى ديانات أخرى... عليهم أن يعتنقوا الثقافة الهندوسية، وألا ينظروا إلى الهند باعتبارها وطناً فقط، بل أرضاً مقدَّسةً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع