من المعروف، أن الأديان الإبراهيمية قد عرفت تأويلات متباينة لمفهوم الغفران، فبينما عدّته بعضها وسيلة لازمة للتخلص من بعض الخطايا الموروثة عن الأسلاف، فإن البعض الآخر منها قد ربطه بسيرورة الحياة الإنسانية فعمل على اللجوء إليه بهدف الحفاظ على يقظة الضمير الإنساني. شعائر الغفران تجلت في الكثير من طقوس التطهير الشائعة، والتي اختلفت من دين إلى آخر بحسب الأصول والمعتقدات الحاكمة في كل حالة.
اليهودية: يوم كيبور والعجل المقدس
مما لا شك فيه، أن فكرة الغفران، قد شغلت حيزاً كبيراً في الفكر اليهودي الجمعي، الأمر الذي يمكن رصده من خلال الكثير من القصص الواردة في العهد القديم، والتي ورد فيها أن يهوه -إله بني إسرائيل- قد صفح عن العديد من الأنبياء والملوك بعد أن اقترفوا الآثام والمعاصي.
رغم ذلك، تبقى الذكريات المرتبطة بيوم كيبور -الذي يُعرف أيضاً بيوم الغفران، أو يوم التوبة، أو سبت الأسبات- صاحبة الاتصال الأكبر بفكرة الغفران والتوبة في المعتقد اليهودي.
يوم كيبور هو اليوم العاشر من شهر تشريه -الشهر الأول في التقويم اليهودي- ويُعدّ أهم الأيام المقدسة عند اليهود على الإطلاق، وقد وردت قصة هذا العيد في سفر الخروج، إذ جاء في هذا السفر أن النبي موسى لما صعد إلى جبل سيناء لاستلام الشريعة من يهوه، ومرت عدة أيام دون أن ينزل، فإن الشعب الإسرائيلي قد نفذ صبره، و"اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ".
بحسب التوراة، فإن هارون قد استجاب للشعب، وصنع لهم العجل الذهبي. ولما نزل موسى ورأى بني إسرائيل وقد اجتمعوا حول العجل، فإنه قد غضب غضباً شديداً وكسر ما معه من ألواح الشريعة "ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعماً، وذراه على وجه الماء...."، ووجه اللوم لأخيه هارون، وأمر المخلصين من بني لاوي بأن يقتلوا إخوانهم الذين عبدوا العجل، فقُتل نحو ثلاثة آلاف رجل، وبعدها قال موسى لشعبه "أنتم قد أخطأتم خطية عظيمة، فأصعد الآن إلى الرب لعلي أكفر خطيتكم". وصعد بالفعل للجبل مرة أخرى، وتشفع لدى يهوه حتى قبل توبة بني إسرائيل، وأمرهم عندئذ بإحياء يوم كيبور ليكون علامة أبدية على طلبهم الغفران والتوبة منه، وفي ذلك، يذكر الإصحاح السادس عشر من سفر اللاويين "وَيَكُونُ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً، أَنَّكُمْ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ، وَكُلَّ عَمَل لاَ تَعْمَلُونَ: الْوَطَنِيُّ وَالْغَرِيبُ النَّازِلُ فِي وَسَطِكُمْ أَنَّهُ فِي هذَا الْيَوْمِ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ لِتَطْهِيرِكُمْ. مِنْ جَمِيعِ خَطَايَاكُمْ أَمَامَ الرَّبِّ تَطْهُرُونَ".
فكرة الغفران، قد شغلت حيزاً كبيراً في الفكر اليهودي الجمعي، الأمر الذي يمكن رصده من خلال الكثير من القصص الواردة في العهد القديم
بحسب ما يذكر الحاخام اليهودي روبن فايرستون في كتابه "ذرية إبراهيم"، فإن استعادة ذكرى الغفران في يوم كيبور تتم من خلال مجموعة كبيرة من الطقوس والشعائر الصارمة، التي يلتزم بأدائها اليهود المتدينون في كل عام، إذ يُنظر للفترة الممتدة ما بين يوم روش هاشناه -يوم رأس السنة عند اليهود- ويوم كيبور على كونها فترة "محاسبة النفس بدقة. نسعى لتذكير أنفسنا بمجالات فشلنا في السنة الماضية، فشلنا مع الآخرين، وفشلنا مع أنفسنا، وفشلنا مع الله، والقصد من محاسبة النفس بشدة هو مساعدتنا على الشعور بالندم على الأذى الذي ارتكبناه، وردنا إلى الطريق المستقيم لنتمكن من تحسين أنفسنا، ونعمل بشكل أفضل في السنة المقبلة....".
بحسب فايرستون، فإن اليهود يقومون بالصيام لمدة تزيد عن الأربع وعشرين ساعة، وذلك في الفترة الواقعة ما بين غروب شمس اليوم الذي يسبق يوم كيبور، وحتى بعد غروب شمس يوم كيبور نفسه، وفي هذا الصوم يمتنع اليهودي عن الطعام والشراب والجماع ولبس الأحذية الجلدية، ويعمل على إظهار الذل للإله، كما أنه يؤدي العديد من الصلوات ويقدم أنواع مخصوصة من القرابين.
أيضاً، يشهد هذا اليوم بعض الطقوس الخاصة التي تتم تأديتها في الهيكل، ومنها "التفوه باسم الله الذي لا يُنطق، وذلك من قِبل أقدس شخص في الأمة الكاهن الأعظم، في أقدس مكان على الأرض، وهو المحراب الداخلي للهيكل"، وفي أثناء ذلك يسجد اليهود على وجوههم في فناء وساحة الهيكل.
في السياق نفسه، ظهرت بعض العادات المستحدثة التي ارتبطت بيوم كيبور، ومنها على سبيل المثال الرقص في الحقول، وجلد النفس، كما يقوم اليهودي المتدين بشراء دجاجة ليرفعها فوق رأسه ويتلو بعض الأجزاء المخصوصة من التلمود، ويعتقد أن هذا الطقس كفيل بنقل الذنوب والخطايا من نفسه إلى الدجاجة، ثم يقوم بذبحها بعدها.
المسيحية: الخطيئة الأصلية والفداء الإلهي
إذا كانت فكرة التوبة والغفران قد شغلت حيزاً كبيراً في النسق اليهودي، فإن حضورها في النسق المسيحي كان أكبر وأكثر رسوخاً وعمقاً، ذلك أن القاعدة الأساس التي بُنيت عليها المسيحية تتمثل بالمقام الأول في الاعتقاد بوجود ارتباط وثيق بين الخطيئة الأصلية والفداء، الأمر الذي تبدو معه فكرة الغفران، وكأنها المنبع الذي خرجت منه جميع العقائد المسيحية.
بحسب ما هو معروف في العقائد المسيحية، فإن الله لما خلق آدم وحواء، أسكنهما جنة عدن وأمرهما أن يأكلا من جميع الأشجار، إلا شجرة واحدة، هي شجرة معرفة الخير والشر. ويذكر الإصحاح الثالث من سفر التكوين كيف وقعت الخطيئة الأولى من جانب أدم وحواء "وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلَهُ فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقّاً قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟»، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلَّا تَمُوتَا». فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ".
بحسب المعتقد المسيحي، فإن تلك الخطيئة كانت سبباً في طرد آدم وحواء من الجنة، كما أنها كانت سبباً في فرض الموت على بني الإنسان، ولما كان الله يريد أن يغفر تلك الخطيئة المتوارثة في أعقاب آدم وأبنائه -دون أن يخل بقوانينه الحازمة- فإنه تجسد بنفسه في هيئةٍ ناسوتيةٍ/بشريةٍ، وضحى بنفسه على الصليب من أجل خلاص جميع المؤمنين به.
هذا المعتقد ورد في الكثير من مقاطع العهد الجديد، ومنها على سبيل المثال، ما ورد في الإصحاح الثالث من إنجيل يوحنا "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ"، وما ورد في الرسالة إلى أهل كورنثوس "المَسيحَ ماتَ مِنْ أجلِ خَطايانا".
المفكر المسيحي المعاصر عوض سمعان، عمل على شرح تلك المسألة في كتابه فلسفة الغفران بقوله: "لو كان في الجائز أن تقل عدالة الله وقداسته عن رحمته ومحبته اللتين لا حد لهما، فإن من مستلزمات الكمال الذي يتصف به، أن لا يتساهل في شيء من مطالب عدالته وقداسته، وبما أنه لا يستطيع سواه إيفاء مطالب هذه وتلك، إذن لا سبيل للخلاص من الخطيئة ونتائجها إلا بقيامه بافتدائنا بنفسه".
على الرغم من إيمان المسلمين بالكثير من التفاصيل الواردة في العهد القديم بخصوص قصة خروج آدم وحواء من الجنة فإن الإسلام لم يعرف مفهوم الخطيئة الأصلية الذي بُني عليه الإيمان المسيحي
وهكذا، يمكن القول إن فكرة الغفران كانت شديدة الاتصال بالمعتقد المسيحي، إلى الحد الذي لا يمكن معه فصلها عن المسيحية، الأمر الذي يظهر بوضوح في تفاصيل السردية المسيحية عن تعذيب يسوع قبل وفاته، وما تم التأكيد عليه في تلك السردية من تكثيف الحديث عن آلام المسيح على الصليب، وما سبق ذلك من جلده وضربه ووضع تاج الشوك على رأسه، وكلها من المشاهد التي تعمق من الإحساس بأهمية الفداء والتطهير ودورهما المهم في تحقيق المغفرة الكاملة لبني الإنسان.
أيضاً، مما يتصل بمفهوم الغفران في المُعتقد المسيحي، المسألة المعروفة بصكوك الغفران، إذ بحسب ما يذكر ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة"، فإنه وفي بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، وبموجب الاعتقاد السائد بأن الكنيسة الكاثوليكية تمتلك الحق في غفران الذنوب، تم طباعة عدد من الصكوك التي تُمنح مقابل مبالغ مالية كبيرة، وتم الترويج لكون تلك الصكوك قادرة على تحقيق التوبة الكاملة لصاحبها.
في السياق نفسه، تبدو فكرة الغفران في الشعائر المسيحية، حاضرةً –بقوةٍ- من خلال سر الاعتراف، والذي يقوم فيه المسيحي -الكاثوليكي والأرثوذكسي- بالذهاب للكنيسة ليعترف بأخطائه وذنوبه أمام الكاهن، ليتم غفرانها جميعاً.
بحسب ما هو شائع، فأن الكهنة قد ورثوا هذا السر من تلاميذ المسيح، وأن هؤلاء التلاميذ قد امتلكوا القدرة على غفران الذنوب بموجب ما ورد في الإصحاح السادس عشر من إنجيل متى، عندما قال لهم يسوع "كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السموات".
الإسلام: عاشوراء وطقوس التطهير
على الرغم من إيمان المسلمين بالكثير من التفاصيل الواردة في العهد القديم بخصوص قصة خروج آدم وحواء من الجنة، فإن الإسلام لم يعرف مفهوم الخطيئة الأصلية الذي بُني عليه الإيمان المسيحي، إذ يؤكد القرآن الكريم في الآية رقم سبعة وثلاثين من سورة البقرة على أن الغفران الإلهي قد وقع في الجنة، قبل النزول إلى الأرض "فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".
الكثير من الاختلافات دارت حول تحديد تلك الكلمات المُشار إليها في الآية، وفي ذلك يذكر شمس الدين القرطبي المتوفى 671ه في تفسيره "واختلف أهل التأويل في الكلمات فقال بعضهم هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين... وقال البعض إنها قوله سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، وقالت طائفة رأى مكتوباً على ساق العرش "محمد رسول الله" فتشفع بذلك فهي الكلمات....".
يذهب المُعتقد الإسلامي إلى أن جميع الخطايا والذنوب التي تلتصق بالفرد، إنما يكتسبها بنفسه في الحياة الدنيا، فهو غير مسؤولٍ عن أي خطيئةٍ متوارثةٍ من أسلافه الغابرين، بل يولد كالصفحة البيضاء الخالية من أي دنس. وفي ذلك يذكر النبي بحسب ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه...."، وفي السياق نفسه، يؤكد القرآن الكريم على أن جميع الذنوب يمكن أن تُغتفر، وبحسب ما ورد في الآية رقم 48 من سورة النساء "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ..."،
وقد حددت النصوص الإسلامية -القرآن والحديث الشريف- الكثير من الأعمال الصالحة القادرة على غفران الذنوب والخطايا، ومن أهمها الحج، إذ ورد عن النبي قوله "منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ"، وذلك بحسب ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم.
مسألة التوبة والغفران شغلت مكاناً مهماً في التراث الإسلامي، إلى الحد الذي دفع بابن قدامة المقدسي المتوفى 620ه، لتصنيف كتاباً كاملاً في تلك المسألة
مسألة التوبة والغفران كانت إحدى النقاط التي لعبت دوراً مهماً في تقسيم الفرق الإسلامية، إذ ساد الخلاف في القرون الأولى من الهجرة حول حكم مرتكب الكبيرة الذي مات دون أن يتوب عنها، وأنقسم المسلمون في تلك المسألة إلى ثلاث مذاهب، الأول، وهو الذي يمثله أهل السنة والجماعة، ممن يرون أن مصير مرتكب الكبيرة الذي لم يتب، يكون مرهوناً بمشيئة الله عز وجل "...فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة...."، وذلك بحسب ما يذكر ابن رجب الحنبلي المتوفى 795ه، في كتابه جامع العلوم والحكم، والمذهب الثاني، وتمثله فرق الخوارج المختلفة، ومنها المُحكّمة والأزارقة والنجدات، والذي ينقل عنهم أبو الحسن الأشعري المتوفى 324ه، في كتابه مقالات الإسلاميين، قولهم "إن كل كبيرة كفر... وإن كل مرتكب معصية كبيرة -دون أن يتوب عنها قبل وفاته- ففي النار خالداً مخلداً". أما المذهب الثالث، فهو المذهب المعتزلي، والذي ينقل عبد الكريم الشهرستاني المتوفى 548ه، قول أصحابه في تلك المسألة في كتابه الملل والنحل، إذ يذكر أن واصل بن عطاء -مؤسس المذهب المعتزلي- قد قال "أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر....".
مسألة التوبة والغفران شغلت مكاناً مهماً في التراث الإسلامي، إلى الحد الذي دفع بابن قدامة المقدسي المتوفى 620ه، لتصنيف كتاباً كاملاً في تلك المسألة، وهو ذلك الذي سماه بكتاب التوابين، والذي ذكر فيه قصص توبة العشرات من الأنبياء والملوك والصحابة والتابعين.
وإذا كانت مسألة الغفران، لم تحظ بحضورٍ قَويٍّ -من الناحية الطقسية الشعائرية- في المِخيال السني التقليدي، فإننا نجدها حاضرةً -بقوةٍ- في المِخيال الشيعي الإمامي، وذلك من خلال استحضار ذكرى كربلاء في العاشر من محرم في كل عام. الشيعة الذين يستعيدون ذكرى مُصاب الحسين بن علي في هذا التوقيت، يمارسون الكثير من الشعائر الحسيَّة التي يظهر فيها الجانب العنيف، والدموي في بعض الأحيان، وتقف على رأسها شعيرةُ التطبير، وهي عبارة عن إدماء مقدمةِ الرأس باستعمال سيفٍ أو سكين. كذلك مواكب الزنجيل، وهي مسيراتٌ حاشدةٌ يستخدم فيها الشيعة أداةً ذاتَ مقبضٍ خشبي موصولةً بمجموعةٍ من السلاسل الحديدية، يضربون بها ظهورهم. وأحياناً أخرى، يتم إحياء شعيرة المشي على الجمر، حيث يلتزم المحتفلون بالسير على قطعٍ من الجمر الملتهب.
العديد من الباحثين يفسرون الحالة التي تعتري المشاركين في تلك الطقوس، على أنها نابعةٌ في المقام الأول من اعتقادهم بتقصير أجدادهم الأوائل في نصرةِ الحسين حينما لجأ لشيعته في الكوفة. فهي إذاً أحد أشكال التكفير عن الذنوبِ والخطايا القديمة، وفيها نزعةٌ تطهيريةٌ خلاصية تقترب كثيراً من نزعاتٍ مشابهةٍ وقعت في الأديان والثقافاتِ القديمة التي ظهرت في بلاد الرافدين تحديداً، ولعلَّ من أقدم الشواهدِ التي تدلُّ على ارتباط الشعائر الحسينية بالنزعة الخلاصية أن واحدةً من أقدم الجماعاتِ الشيعية المعروفة تاريخياً، وهي جماعة التوابين، أقدمت دونَ تحضيرٍ مناسب أو إعدادٍ جيد، على الدخول في معركةٍ خاسرة في "عين الوردة" عام 65هـ، ضدَّ القوات الأموية، فقُتل معظم رجالها في ساحة القتال، وتحملوا الآلام الجسديةَ، عن طيب خاطرٍ بدلاً من الفرار والنجاة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...