عرفت الثقافة الإسلامية الجمعية حضوراً مهماً لفكرة المُخلص الموعود. وردت العشرات من الأحاديث النبوية التي بشرت بهذا المخلص الذي سيلعب دوراً محورياً في ملاحم نهاية الزمان؛ من أشهر تلك الأحاديث: "لَتُمْلَأَنَّ الأرضُ ظلماً وعدواناً، ثُمَّ لَيَخْرُجَنَّ رجلٌ مِنْ أهلِ بيتِي، حتَّى يملأَها قِسْطاً وعدلاً، كما مُلئَتْ ظلماً وعدواناً". لم يحدد أهل السنة والجماعة شخص هذا المخلص، واكتفوا بتسميته بالمهدي المنتظر. أما الشيعة الإمامية الاثني عشرية فحددوه في شخص الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن العسكري، الذي اختفى عن الأنظار سنة 329 هـ.
لم يختص الإسلام وحده بفكرة المخلص الموعود، بل شاعت تلك الفكرة في العديد من الأديان والملل، ويعود السبب الأهم في ذلك إلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي عانى فيها المتدينون من الظلم والاضطهاد في الكثير من العصور. نلقي الضوء في هذا المقال على تلك الفكرة، لنرى كيف ظهر المخلص في ثقافات الزرادشتيين والهندوس والبوذيين، فضلاً عن اليهود والمسيحيين.
سوشيانت في الزرادشتية
لا نعرف الكثير من المعلومات حول بدايات الدين الزرادشتي. يذهب بعض الباحثين إلى أن الظهور الأول للزرادشتية وقع في بداية الألف الأول قبل الميلاد، فيما يرى آخرون أن البداية الحقيقية لهذا الدين تأخرت للقرن السابع الميلادي.
لم يختص الإسلام وحده بفكرة المخلص الموعود، بل شاعت تلك الفكرة في العديد من الأديان والملل، ويعود السبب الأهم في ذلك إلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي عانى فيها المتدينون من الظلم والاضطهاد في الكثير من العصور
بحسب المعلومات المتوافرة لدينا، عاش زرادشت -مؤسس ذلك الدين- في شمالي شرق إيران، ونقل تعاليمه الدينية من خلال الأناشيد المعروفة باسم الغاثا. تتحدث النصوص الزرادشتية عن الصراع الدائم بين قوى النور والظلام، وأن هناك إلهين للعالم، أولهما أهورمزدا (إله الخير)، وثانيهما أهريمان (إله الشرّ).
يؤمن الزرادشتيون أن هناك أربع دورات للحياة، في كل منها يقع الصراع بين الخير والشر. في الدورة الرابعة سيظهر ثلاثة من المخلصين بشكل متتابع، كل منهم يسمى سوشيانت -بمعنى جالب المنفعة-، وسوف يفصل بين كل منهم والذي يليه ألف سنة كاملة.
تؤكد السردية الزرادشتية أن المخلصين الثلاثة سيظهرون بجوار بحيرة هامون الواقعة شرقي إيران، وأن ولادتهم ستقع بطريقة إعجازية فريدة بحيث يتناسلوا روحياً من صلب زرادشت. سيقع ذلك الحمل المقدس عندما تذهب العذراء الموعودة إلى بحيرة هامون في فصل الربيع لتستحم فيها. عندها ستنتقل إليها نطفة زرادشت الموجودة في البحيرة منذ قرون. يولد سوشيانت بعدها من تلك النطفة. وفي سن الثلاثين يُبعث هذا المولود ليخلص العالم من الظلم والجور.
تحدثت بعض المصادر الإسلامية عن صورة أخرى من صور المخلص الموعود عند الزرادشتية. على سبيل المثال يذكر أبو الفتح الشهرستاني المتوفى 548هـ في كتابه الملل والنحل "... ومما أخبر به زرادشت في زندوستا، قال: سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه أشيزريكا ومعناها الرجل العالم بالدين والعدل، ثم يظهر في زمانه بلياره فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة، ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا على أهل العالم ويحيي العدل ويميت الجور، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأولى، وينقاد له الملوك وتتيسر له الأمور، وينصر الدين الحق ويحصل في زمانه الأمن والدعة وسكون الفتن وزوال المحن". تمكن المسلمون من اجتياح بلاد فارس في النصف الأول من القرن السابع الميلادي. ومن المُحتمل أن تلك الفترة شهدت وقوع بعض التأثيرات المتبادلة بين مفهومي سوشيانت الزرادشتي والمهدي المنتظر الإسلامي.
كالكي في الهندوسية
تنتشر الهندوسية في شبه القارة الهندية، ويعتنقها ما يقرب من المليار نسمة. ترجع بدايات الدين الهندوسي إلى مرحلة موغلة في القدم. ومن المعروف أن الهندوسية تطورت كثيراً عبر القرون. الأمر الذي أتاح الفرصة لظهور العديد من الفرق والجماعات والطوائف التي خرجت من رحمها.
تتحدث بعض النصوص الهندوسية عن تقسيم التاريخ البشري لأربعة أطوار متمايزة. يُسمى الطور الرابع بكالي يوغا، والذي يعني العهد الأسود. يؤمن الهندوس أن الظلم سيسيطر على العالم في هذا العهد، وأن الخير سينزوي جانباً في تلك الفترة مفسحاً الطريق لهيمنة الشر.
يعتقد الهندوس أن القضاء على الشر والظلم سيتحقق من خلال الإله فيشنو. بحسب المعتقدات الهندوسية فإن هناك ثالوثاً إلهياً مقدساً يتكون من براهما الخالق، وشيفا المدمر، وفيشنو الحافظ.
تذكر الكتب الهندوسية أن فيشنو أعتاد أن يعود إلى الدنيا في صورة الأفاتار/التجسدات. وأنه يقوم مع كل تجسد بإنقاذ العالم بشكل ما. كان الأفاتار كريشنا هو أشهر تلك التجسدات السابقة، وينظر له الهندوس على كونه المنقذ الذي حفظ العالم فيما قبل.
يعتقد الهندوس أن الأفاتار العاشر لفيشنو سيُسمى كالكي، وهو التجسد العاشر -والأخير- لفيشنو، وسيولد من عذراء في آخر الزمان بعد أن تستبد قوى الشر بالدنيا في العهد الأسود. سيأتي كالكي حاملاً سيفه اللامع، وممتطياً حصانه الأبيض ليقضي على قوى الشر وليقتل الشيطان ليسترد العالم بهائه وجماله.
مايتريا في البوذية
ظهرت البوذية في شمالي شرق الهند في القرن السادس قبل الميلاد بوصفها أحد المذاهب المنبثقة عن الهندوسية. بعد ذلك شقت البوذية طريقها باعتبارها منظومة دينية مستقلة. يعتقد البوذيون أن سيدهارتا جوتاما -والذي اشتهر ببوذا بمعنى المتنور- هو المخلص الموعود الذي أُرسل إليهم ليدلهم على طريق الخلاص. آمن الكثيرون بأن بوذا كان الأفاتار الجديد للإله فيشنو. في ذلك المعنى ورد في بعض التقاليد البوذية "إن هذا الصبي -بوذا- هو مخلص العالم أجمع من القلق والاضطراب والشك... أن الصبي هذا يحكم العالم وهو مخلص الأحياء. جاء ينقذ الفقراء من أحمالهم الثقيلة ويساعد التعساء".
يؤمن البوذيون برجوع بوذا مرة أخرى إلى الأرض في صورة مايتريا. والذي يعني اسمه بوذا الذي لم يأت بعد أو بوذا المستقبلي. يسود الاعتقاد بأن مايتريا يعيش في السماء. ووفقاً للتقاليد البوذية التي تحدثت عن آخر الزمان فإن حرباً كبرى ستندلع بين البشر. ستنجو فئة قليلة من الناس، ومنهم سيخرج مايتريا الذي سيصل إلى الكمال من خلال ممارسة تعاليم النيرفانا، وهي الطقوس التي تحرر صاحبها من المعاناة وتوصله إلى الصفاء الروحي الكامل.
المسيا في اليهودية
يؤمن اليهود بأن هناك مخلصاً موعوداً سوف يظهر لنجدتهم في آخر الزمان. يُعرف هذا المخلص باسم المشيح/المسيح/المسيا. يشير هذا الاسم إلى من تم مسحه بزيت الزيتون دلالة على تكريسه كاهناً أو ملكاً.
في بعض الأحيان استُخدم لفظ "المسيا" للإشارة إلى بعض الملوك غير اليهوديين، والذين لعبوا أدواراً مهمة في حركة التاريخ الإسرائيلي؛ على سبيل المثال ورد في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر أشعيا: "هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ...". وصف الملك الفارسي كورش العظيم في هذا النص بأنه المسيح؛ الأمر الذي يمكن تفسيره بالدور المهم الذي لعبه هذا الملك عندما أطلق سراح اليهود المسبيين في بابل، وسمح لهم بالعودة إلى أورشليم لإعادة بناء الهيكل المقدس. أيضاً وردت الإشارة إلى المخلص المنتظر في بعض مواضع الكتاب المقدس بأسماء أخرى. من ذلك اسم شيلون الذي جاء في الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين "لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ".
يتفق اليهود على بعض صفات المخلص المنتظر، ومنها أنه يخرج من صُلب الملك داود، وأنه سيحكم الشعب اليهودي ويُوَحِّد أسباط إسرائيل بعد أن عانوا من الفرقة والشتات لقرون طويلة
في القرن الثاني عشر الميلادي، وضع الحبر اليهودي موسى بن ميمون مجموعة من الأصول الإيمانية التي يلزم على كل يهودي أن يعتنقها. أحد تلك الأصول تحدث عن المسيا المخلص، وجاء فيه: "أنا اعتقد بإيمان كبير بمجيء المسيَّا، حتى لو كان قد تأخّر حدوث ذلك، إلاّ أني سأنتظر قدومه كل يوم".
يتفق اليهود على بعض صفات المخلص المنتظر، ومنها أنه يخرج من صُلب الملك داود، وأنه سيحكم الشعب اليهودي ويُوَحِّد أسباط إسرائيل بعد أن عانوا من الفرقة والشتات لقرون طويلة. يعتقد اليهود أن المخلص سوف يبدأ العصر المسياني -نسبة للمسيا- والذي سيسود فيه العدل والسلام والحرية.
يسوع الناصري في المسيحية
آمن المسيحيون بأن يسوع الناصري هو المنقذ المخلص الذي أنتظره اليهود على مر القرون. واعتقدوا بأن يسوع الذي صعد إلى السماء بعد قيامته من الموت سوف يعود مرة أخرى إلى الأرض في آخر الزمان. يُطلق على ذلك الاعتقاد الاسم اليوناني باروسيا والذي يعني المجيء الثاني للمسيح أو الظهور الثاني للمسيح. وردت الإشارة إلى تلك العودة في الإصحاح الخامس والعشرين من إنجيل متى "وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ...". تتحدث التقاليد المسيحية عن نهاية العالم التي تُعرف باسم هرمجدون.
يسبق هرمجدون فترة من الضيق والمعاناة التي ستصيب المؤمنين بالمسيح. عُرفت تلك الفترة بحسب ما ورد في الإصحاح الرابع والعشرين من إنجيل متى، بمبتدأ الأوجاع، إذ وصفها المسيح لتلاميذه بقوله: "...وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوب وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلُّهَا، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ. وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ".
يذكر الأنبا بيشوي في كتابه "المسيح مشتهى الأجيال" أن الكثير من اليهود سيؤمنون بالمسيح في تلك الفترة. في الوقت نفسه، سيظهر الوحش المعروف باسم "ضد المسيح" أو "إنسان الخطيئة" -وهو الذي يقابل المسيح الدجال في المُعتقد الإسلامي- سيثير الوحش الفتنة بين المؤمنين فيرتد الكثير منهم عن إيمانه الصحيح. في هذ السياق سينزل من السماء النبيّان أخنوخ وإيليا –وهما بحسب المعتقد المسيحي قد رُفعا إلى السماء ولم يموتا بعد- وسيعملان على قتال الوحش، وسيموتان في أثناء هذا القتال.
تحين نهاية كل ذلك عندما يظهر المسيح مرة أخرى ويقضي على الوحش وبعدها يحين موعد يوم الدينونة. تؤمن أغلبية الطوائف المسيحية بأن الدينونة ستشهد قيامة الأموات ومحاسبتهم على ما اقترفوه في الحياة الدنيا، أما شهود يهوه فإنهم يؤمنون بأن الدينونة ستستمر لمدة ألف عام كاملة على الأرض، وأن الأخيار والمؤمنين سيعيشون خلال تلك الفترة في سلام وأمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...