شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ألِيس" في مَواخِير المدينة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 27 أبريل 202411:32 ص



في البدء كان الملل.

قالت نورة لنفسها بأن العالم واسع وعجائبي، وأن العمر يمر سريعاً بينما تقبع هي في مدينة صغيرة وهامشية، وتسمع أنين أمها الشاكي طوال الوقت. شكوى محمومة مُتَّصِلة من دوار غامض وصداع، وقد حسمت الفتاة الصغيرة حينها أمرها: "غير أنني أنا، سأنجو".

شكل الحديقة

بدأت قصة "أليس في بلاد العجائب" على هذا النحو أيضاً: لقد شعرت أليس بالملل، أما الظهور العجائبي للأرنب الأبيض فقد جاء تَالِياً مع كل مفاجآته، وكأنه قد قفز من ذهنها هي بالتحديد.

نشر " لويس كارول" قصته الرائعة هذه سنة 1865، مستخدماً هذا الاسم المستعار بدلاً عن اسمه الحقيقي الذي كان يحمل اسم عالم رياضيات مُوَقَّرٍ في جَوْفِه، إذ إن الناس لا يحترمون الحكايات الخيالية، أو أن الرجل الهادئ الغامض كان يلهو، ويستمتع برؤية نفسه مُتحولاً إلى شخصين.

تسألُ أَلِيس نفسها بارتياع في بداية القصة: "ألا توجد نهاية لهذا السقوط؟". طرحت نورة على نفسها مثل هذه الأسئلة أيضاً، لكن ذلك لم يحدث في البداية أبداً، إذ إن أيام سقوطها الأولى كان لها الطعم الحلو اللاذع للمغامرة.

بدأت قصة "أليس في بلاد العجائب" على هذا النحو أيضاً: لقد شعرت أليس بالملل، أما الظهور العجائبي للأرنب الأبيض فقد جاء تَالِياً مع كل مفاجآته، وكأنه قد قفز من ذهنها هي بالتحديد... مجاز

كانت طالبة جامعية عندها، وقد ذهبت للدراسة بمدينة بعيدة عن البيت العائلي، وعاشت في شقة صغيرة مع خمس طالبات من سنها. بدا الفقر محسوساً جداً إذن، ولكن كان يمكن الالتفاف عليه ببعض الحيل. طبخت الفتيات وجباتهن بشكل جماعي، واستلفن قطع الثياب القليلة من بعضهن البعض، وعملن أعمالاً صغيرة، ووفرن كل درهم من المبالغ الصغيرة التي كان يرسلها الأهل، أما الترفيه فكان نزهات طويلة ممتدة على كورنيش المدينة، ورؤية الأضواء المبهرة للفنادق والمطاعم التي لا يدخلنها أبداً مع غُصَّة في الحلق، وقد قرّرت نورة خلال تلك الأيام أنها هي ستدخل.

إننا نحكي قصةً عن مُومس طبعاً، ولكن لا بد من توضيح بعض النقاط: لقد كانت مومس حالمة جداً، ولقد أرادت دائماً أن تدخل العالم المتلألئ، فحصلت على ذلك بالنهاية، دافعة كل الأثمان المطلوبة بالتأكيد.

تَبِعت أرنبها الأبيض/ ذئبها/ أميرها الساحر إلى حفرته بشجاعة ساذجة، وصغرت حجمها وكبرته حتى تتلاءم روحها مع كل وضع جديد من أجل دخول "الحديقة" المغرية، ثم تنبهت هي أيضاً إلى أنها "قد تتلاشى تماماً" بالنهاية، ولكنها لم تتراجع أبداً، ورأت، بعينين مفتوحتين على اتساعهما، كل الأعاجيب في العالم السفلي، ولذلك فقد صار بوسعنا أن نتخيلها كبطلة في قصة خرافية، دون أن نكون قد ارتكبنا أي خطأ كبير.

وإلا فما فائدة الأسماء؟

بدأ أوفيد الروماني كتاب "التحولات" الشهير بالعبارة التالية: "إن هدفي في هذا الكتاب أن أحكي عن الكائنات التي تحولت من أشكالها إلى أشكال أخرى مختلفة". يُمْكِنُ للتحول أن يكون جوهر الأدب إذن، أو جوهر الحياة كلها، وإلا فما الذي يصنعه العالم بنا على مر السنين؟

حملت نورة أسنانها الأمامية في واحد من تحولاتها المتأخرة ذات اعتداء بشع، وشدّت عليها كتميمة حزينة في طريقها إلي البيت، وقد دخلت حياتي خلال تلك الليلة بالتحديد. كانت قد تعرّضت لضرب مُبرح من زبون لها، وربما كان ليقتلها أيضاً. رفعت رأسها إلى النافذة حيث كنت أقف في الصباح الباكر، وهزت رأسها بالتحية، فقد كُنا جارتين، وعندها نزلتُ السلالم بسرعة وساعدتها على الصعود إلى شقتها.

- "تعاركوا بسببك؟"

- "كسروا أسناني أيضاً".

لقد كانت تضحك من كل شيء تقريباً، إلا أنها كانت مُحرجة في العمق. لماذا يضحك الناس غالباً عندما يريدون البكاء؟

كنا قد صعدنا الأدراج صامتتين، وذراعها على كتفي، إذ إن بقية الجيران كانوا يكرهونها، وسرعان ما ستروقهم فرجة كهذه. هاجمتها زوجة أحد السكان بمقلاة زيت حامية منذ مدة، وقالت بأنها ضبطتها تتحرّش بزوجها على السلالم، وطالبها صاحب العمارة بإخلاء البيت ألف مرة، ولكنها لم تذهب، أما هذه "المُعَلِّمة" فقد قرّرت فجأة أن تَهْتَمَّ لأمرها في هواء الصباح الباكر، وربما تَطَور الأمر البغيض لإسداء بعض النصح الهلامي.

- "وأنتِ، لماذا لا تنامين؟"

يتجوّل شقيقي في ذهني متسخاً كمجنون كامل ومتشرّد، وتلمع عيناه بالشرر، ثم كشاعر يائس عاطل يتعاطى حبوباً للاكتئاب، ويسألني ساخراً: " أَلَيْسَ أَنَّنا في بلاد العجائب؟"، وبعدها لا شيء... مجاز

تسأل الشخصيات في قصة أليس بعض الأسئلة الصعبة مثل هذا السؤال أيضاً. تتوجه اليرقانة إلى أَلِيس فجأة بهذه الكلمات مثلاً: "ألا ترغبين في فقدان اسمك؟". ولذلك فكثيراً ما تبدو القصة اللامعة كعبث برمتها، وإلا فما معنى هذا القلق المباغت بشأن الأسماء؟

 غَيَّرَت نورة اسمها عشرات المرات من قبل، أما الذي كان لها في الطفولة فلن تقوله لأحد أبداً، إذ إنها كانت عندها شخصاً آخر. حركت عينيها عندما سألتها عنه في كل اتجاه بعصبية في البداية، ثم قرّرت أن تخبرني باسمها المستعار الأول، ذلك القناع العتيق الأقرب إلى الجِلْدِ.

كانوا ينادونها نورة عندها، قبل عشر سنوات بالتقريب، وكان حبيبها قد تخلى عنها للتو، تماماً بعد أن أَدْخَلَها إلى الحَديقة المُغرية بسرعة مُدوّخة، وكساها ثيابا جميلة جداً، وقال لها كل كلام الحُبِّ الذي في الأفلام، ونام معها مرات كثيرة جداً دون أي احتياطات تقريباً، مُخَلِّفاً في بطنها ثمرة ثقيلة لكل تلك المغامرة. مرحباً أيها العالم الذي يُكَرِّرُ نفسه بإصرار غريب!

تذكري من أنت

قالت الملكة البيضاء لأليس في بداية قصة "أليس عبر المرآة" عبارة طنّانة أخرى: "تذكري دائماً من أنت". لقد كتب لويس كارول قصته الثانية هذه بعد سنوات من نجاح الأولى، ولكنه احتفظ باسمه المستعار لأعماله الأدبية مع ذلك. هذا قناعي ولن تنزعه عني! عدا أنه ربما كان ينسى أحياناً أن "يتذكر" من يكون بالتحديد.

إلا أنه كان يحب ممارسة التذكر في الكتابة غالباً، خلف مكتبه المرتب وهو يُسطر يومياته التي أتلفتها عائلته فيما بعد ولم يقرأها أحد غيرهم، أو أنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء ذلك الأمر الثقيل.

لقد كان شقيقي الأكبر من أخبرني عن هذه الجزئية في الماضي ضاحكاً، عَوْدَةً إلى الضَّحك الذي لا يُشْفِي، وفي حلم تلك الليلة بدا لي ضاحكاً أيضاً، ولكن كان ثمة شيء مخيف، إذ إنني كنت قد اكتشفت نسياني المُريب لملامح أخي.

فتحت عيني عندها في ظلام الغرفة الدامس وشرحت لنفسي بأنني كنت أتوهم، ثم بدأتُ العد العكسي لتَحَوُّلاتِه كما أحفظها: يتجوّل شقيقي في ذهني متسخاً كمجنون كامل ومتشرّد، وتلمع عيناه بالشرر، ثم كشاعر يائس عاطل يتعاطى حبوباً للاكتئاب، ويسألني ساخراً: " أَلَيْسَ أَنَّنا في بلاد العجائب؟"، وبعدها لا شيء.

إننا نحكي قصةً عن مُومس طبعاً، ولكن لا بد من توضيح بعض النقاط: لقد كانت مومس حالمة جداً، ولقد أرادت دائماً أن تدخل العالم المتلألئ، فحصلت على ذلك بالنهاية، دافعة كل الأثمان المطلوبة بالتأكيد... مجاز

تبدو صورته الأولى كـ "شاب عادي" بعيدة جداً، كما لو أنها لم توجد أبداً. سحبتُ الغطاء عن جسدي وفكرت بالشِّعر الذي أضاع عقله كما كنت أسمع منذ طفولتي، وبيوميات لويس كارول المُتْلفة، وبأُسْرَتي التي فرِحت حينما أحرق أخي كتبه وقصائده كلها في فناء المنزل.

كان يضحك عن أسنانه الكبيرة كلها حتى في تلك اللحظات، وكذلك وأنا أفكر به باستماتة وأتنفس هواء الفجر، ثم ألمح نورة التي تَعْرُجُ عائدة إلى البيت.

إلا أننا كنا نحكي  قصةً اعتيادية عن مُومِس ولا مزيد من الخيالات.

أجهضت طفلها قبل عشر سنوات في عيادة سرية، بعد أن باعت الخواتم والأساور التي كان قد أهداها لها أرْنَبُها خلال أشهر من الحب، وعادت إلى الشقة، فطردتها صديقاتها ولَفَظْنَها كشيء قذر. كانت الفضيحة قد صنعت رائحتها الخاصة، ووصلت إلى كل مكان، حتى إلى أمها. قالت لها حين طلبت رقمها على الهاتف بجفاف وحيادية تقريباً: "من أنتِ؟".

وفكرت هي بهذا السؤال في كل الأيام التالية، وهي تحاول أن تجد غرفة تستأجرها، وتبحث عن الرجل الذي تخلى عنها في كل مكان بالمدينة، وتبكي في الشوارع دون حياء كبطلة من فيلم حزين، ثم وهي تخرج للوقوف على الرصيف لأول مرة، مرتدية كعباً عالياً وفستاناً قصيراً جداً من مخلفات أيام "الحديقة". سألها سائق السيارة الأولى التي توقفت إلى جانبها: "ما اسمك؟"، وفهمت هي عندها بأنها قد فقدت اسمها، وبأنها لن تستطيع التحكم بهذا الهبوط السريع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image