الحلم الأول: شامة لن تزول
ذات صباح، عدتُ من كابوس، ألهث كمن ركض في ماراثون. شاهدتُ نفسي وأنا أقف على قمة جبل، ومطلوب أن أنزل لأواصل سيري. رميتُ بنظري لأسفل، فوجدت منحدرات وطرقاً وتعرّجات متحركة. شخص قبلي حاول النزول فسحبته تلك التعرّجات، وما استطاع الخروج. الأدهى أنها جعلته يقفز لأعلى، فيرى المشهد من فوق، وتحته هوّة عظيمة، فيصرخ خوفاً من السقوط.
أنا على القمة مرعوبة، ماذا أفعل؟ لا وقت للتفكير، لا بد من القفز، والخياران محفوفان بالمخاطر، إما السقوط على تلك التعرّجات والقفز المرتعب، أو البقاء في مكاني.
شخصٌ أكثر جرأة من الأول، يضحك وكأنه اكتشف مغامرة جديدة، ينظر لفزعي متهكماً، يسخر مني سرّاً، قفز بيسر واستمتع بالتعرّجات التي جعلته يشاهد المناظر من كل زاوية، الأنهار، الجبال، قمم الثلوج، والأزهار المتفرقة. كلما قفز من منحنى لآخر، لم يسقط كأنه مدرّب على الحركات البهلوانية. أنا مدهوشة، كيف يفعل ذلك بسهولة كأنه يتنفس؟ كيف لا يسقط؟
الوقت يمضي ولم يعد أمامي سوى القفز، نبضات قلبي تتسارع من الرعب، أتقدّم خطوة وأتراجع أخرى. أغمضتُ عيني وقرّرت القفز، وخيالي يرسم مشهداً لفتاة تتأرجح في الهواء، ثم تسقط وتلقى مصرعها على الفور.
قفزتُ إلى أول منحدر، وما إن تأرجحت في الهواء حتى تلقفتني يد مجهولة، لا أعلم كيف بزغت لي من العدم، ظلت ممسكة بي، تدخلت في اللحظات الحاسمة لتمنعني من السقوط وتضبط قفزتي، حتى نزلت في المكان المناسب قبل أن أسقط من الجبل. رعتني تلك اليد حتى وصلت إلى آخر منحدر يقترب من الأرض، ومنه قفزت لأسفل. استيقظت وقلبي في سباق، نجوتُ من حلم غريب، لكن الأغرب كان وجود آثار أصابع على جسدي!
بعد شهر من تلك الرؤيا، واجهت حادثاً صعباً. بينما كنت عائدة من سفر في الأتوبيس، اصطدم في سيارة مجاورة، اصطدم رأسي بقوة إلى الأمام، وانقلب جسدي مع الركاب على الطريق. في اللحظة التي حُشرت فيها بين الأريكة والكرسي، كنت أفكر وأنا في هذا الوضع: ما الذي يسيل من رأسي؟ إذ شعرت بشيء ساخن يسيل منه. لم أستطع حتى أن أتحسّسه لأعرف بنفسي، فيديّ أسفل جسدي، وجسدي كله مقلوبٌ. فكرت أنها دماء أو ربما بنزين، وفي كلتا الحالتين الأمر سيء، رأسي ينزف أو السيارة ستنفجر. أدركت أنه الموت الذي غمز لي ثم اختفى، لكنه ترك شامة على كتفي قبل الرحيل.
أدركت أنه الموت الذي غمز لي ثم اختفى، لكنه ترك شامة على كتفي قبل الرحيل... مجاز
لم أتوقف عن ربط تلك الرؤيا بالحادث منذ هدأت وبدأ رأسي في إنتاج الأفكار. الجبل هو الحادث، والرعب من القفز هو مواجهته، واليد التي تلقفتني هي يد الله، وآثار الأصابع على جسدي "جرح الكتف"، والرجل الذي رأيته يقفز في المنام بسعادة، كان جاري في المقعد الأمامي الذي نزف وحملته سيارة الإسعاف. يبدو أنه ذاك المغامر الذي لم يهب الموت، فقفز من أعلى الجبل.
اليقظة الأولى: عينان تنظران إليِّ في أسى
ذات نظرة خاطفة وقفت أمام المرآة. المفاجأة صعقتني؛ لم أظهر بملامحي الشابة، لست الثلاثينية ذات الجسد البدين نسبياً والبشرة البيضاء. لكنني وجدت طفلة العشر سنوات، رفيعة وقصيرة، بوجه خالٍ إلا من عينين صغيرتين تنظران نحوي بسؤال حائر: لماذا؟ من هول الصدمة، بحثت عن كلمات ولم أجد، كأن عقلي تم مسحه.
بدأت أمارس حركات عشوائية، أحرك يداً، قدماً، ألفّ حول نفسي، أقفز، أجري، كانت تفعل مثلي بدقة، وبنفس الإيقاع. وأنا لا زلت مدهوشة، من تلك الطفلة؟ ولماذا تقلدني؟ أين هيئتي الشابة؟ الوقت يمرّ، ولا تزال طفلة المرآة تبكي بحرقة إذا لم أنظر إليها، نحيبها يملأ غرفتي.
اليوم أصبح شهراً، والشهر جلب عاماً. ولا زالت طفلة المرآه لم تكبر، كانت تبكي بحرقة إن قرّرت عدم النظر إليها، أسمع صوت نحيبها وأنا في غرفتي.
وذات يوم، اختفت ساعة الحائط، واختفت معها تلك الطفلة، بقيت فقط عيناها الساقطتان على الأسفلت، تنظران إليِّ في أسى، كأنهما لمحتا التجاعيد ترقص على خديِّ.
الحلم الثاني: التحول إلى ثلاجة
عشتُ متجاهلةً جسدي، أراه مجرّد آلة مؤقتة. أهملته كثيراً. لم أحتقره فحسب، بل تعاملت معه بلامبالاة، لم أدلّـله بالزينة أو المساحيق. رأيته علبة طينية، ستفنى بالزمن، تتحول إلى تراب في حضن الأرض. يقال إن للجسد شهوات كالجوع والعطش والجنس، لكن جسدي بلا شهوة. قد أتناول الطعام، ويكفيني قطعة خبز وكوب ماء. أما الجنس، فلا يثيره أي رجل. حلمت ذات يوم أنني تحولت إلى ثلاجة. منذ ذاك اليوم وأنا باردة، لا أشعر بشيء. يتقدّم العرسان، الوسيم وذو النسب والمنصب، ولكن لا أحد يستطيع إثارة شعوري. أفكر كثيراً أنني روح هائمة، طيف عابر، لكنه ثقيل، لا يستطيع الطيران. ثمة شيء ناقص، وأنا على يقين أنني سأجده.
اليقظة الثانية: طفل أنيق هارب من ضجيج الفوضى
الموت طفل نائم جوار الملائكة
هارب من ضجيج الفوضى
أبواق السيارات
السباب في الشوارع
الركض خلف الحياة هنا وهناك.
أفاق بغتة على صوت العدم
يستغيث به أن يعيده إلى هيبته المفقودة
مقابل تحديق طويل في عينه الثالثة.
الموت طفل نائم جوار الملائكة، هارب من ضجيج الفوضى
*****
الموت بابا نويل
لأجساد التماثيل
المتحجرة
الجامدة
الراكدة
الساكنة
التي مات فيها التحرر
يوزعه هدايا أبدية
بعدما حول السماء مطاراً لأرواحها
*****
الموت مطرب أبكم لجمهور أصم
والحياة وسطهما تحاول أن تشب
لكن رجليها مبتورة
مهما عاشت ألف سنة
الأقدام الصناعية
أبدا، لن تكسب الماراثون.
سأقع في غرام عصفور حر مثلي بلا قيود ولا شروط، سنملأ العالم بالحب والعصافير الصغيرة... مجاز
الحياة الأولى أو ربما اللا نهائية
السماء أقرب من أنامل كفي. لا أحتاج إلى النظر لأعلى. كلما رأيت سوراً أو شرفة، حتى لا يتهمني الناس بالجنون، وهم أصلاً كلهم مجانين، لأنهم لا يصدقون الأحلام التي تتحول إلى واقع بين ليلة وضحاها. فأنا، مثلاً، سأرتفع وأفرد ذراعيّ، وستتحولان إلى جناحين، فأطير. يأكلني الفضول لأرى الصدمة تسيطر على ملامحهم عندما يعلمون بتحولي إلى عصفورة. ربما اعتقدوا أنني رسولة أو علامة من علامات الساعة، أعجوبة من أعاجيب آخر الزمان.
ماذا يعني أن أحلق في السماء؟ يعني أن أجوب كل شبر فيها، ربما أرى الملائكة، وأرواح جدي وجدتي وأصدقائي. سأتلصّص على كل بيت لأرى ما يفعله ساكنوه. سأعيش ألف حياة بسهولة، سأتحرّر، سأخرج من جسدي الذي يشبه علبة ثقاب بالية أو كتلة أسمنتية متحجّرة، سأتحقق من ذاتي الحقيقية، سأتخفّف من ثقل الأرض، وسأتعالى على العالم بقبحه وفساده، لأهرب يومياً إلى عش صغير فوق شجرة بعيدة في جزيرة منسية. سأقع في غرام عصفور حر مثلي بلا قيود ولا شروط، سنملأ العالم بالحب والعصافير الصغيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع