شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أبواب حديدية تفضي إلى أبواب حديدية

أبواب حديدية تفضي إلى أبواب حديدية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والفئات المهمشة

السبت 13 أبريل 202411:48 ص



لا أستطيع أن أحدّد سبب كرهي للأبواب الحديدية، ولاسيما المسمطة منها. قد يكون من الأفضل أن أقول إنني أخافها بالأحرى، ولعل هذا هو سبب كرهي لها. توجد علاقة وثيقة بين الخوف والكره. يمكنني أن أقول إنني لا أكرهها فقط لأنها ثقيلة وذات صرير حاد وخالية من أي جانب لطيف يمكن أن يلامس الروح، بل هناك ما هو أعمق. إنه شعوري الثابت أنه إذا أغلق عليك باب حديدي فإنه لن يفتح ثانية.

الحديد رمز السجن الذي أكل أعمارنا. أن تقول وراء القضبان يعني أن تقول السجن، ولا حاجة أن تضيف إلى القضبان صفة "الحديدية"، فالقضبان، في الذهن، حديدية دائماً إلى حد يسمح بالاستغناء عن الوصف. ولكن القدر، وكما لو برغبة صادقة في مناكدتي، جعل حياتي مليئة بالحديد وبالأبواب الحديدية.

للأبواب الحديدية، مع ذلك، فضائل أحياناً، فهي تطلق عند فتحها، طقطقة وصريراً حاداً ينبّه السجناء إلى دخول عناصر مفرزة السجن. ولكن لم يستطع صرير الأبواب الحديدية أن يتغلب على دهاء "أبو عيد"، رئيس مفرزة سجن "الشيخ حسن" في دمشق.

كان يتوجب فتح بابين حديديين قبل الوصول إلى باب المهجع، وهكذا كان يسبق الوصولَ إلى باب المهجع ضجيجُ الحديد مرّتين. ولكن أبو عيد استطاع أن يلتفّ على هذا التنبيه، وأن يخدع المساجين، فقد استعان على صوت الصرير بما "لا يرحم ولا نقدر عليه"، نعم، استعان على الصرير بالزمن، أو يمكن القول إنه استخدم الزمن لكتم صوت الصرير.

كان أبو عيد، حين يقرّر غزو المهجع وضبط المخالفات، يبدأ بفتح الباب الحديدي الذي يفصل المفرزة عن ممرّ التنفس. نسمع الطقطقة والصرير ونخفي على الفور كل ما هو ممنوع (كتاب، قلم، ورقة ... الخ) وكل ما يمكن أن يصادره حين يكون مزاجه متعكراً (شطرنج محلي الصنع، ورق لعب أو ما شابه) ونستعد، منتظرين الصوت الثاني، وهو صوت الباب الحديدي الذي يفتح على ممرّ الزنازين الذي ينتهي بباب المهجع.

أن تقول وراء القضبان يعني أن تقول السجن، ولا حاجة أن تضيف إلى القضبان صفة "الحديدية"، فالقضبان، في الذهن، حديدية دائماً إلى حد يسمح بالاستغناء عن الوصف... مجاز

في الغالب يعقب فتح هذين البابين خارج وقت توزيع الطعام، وخارج أوقات التنفس، استدعاء أحد السجناء للتحقيق أو للزيارة، أو جولة تفتيش من المفرزة أو ربما زيارة من أحد ضباط الفرع لتفقد السجن وإلقاء نظرة على "البضاعة" المخزونة فيه.

في تلك الفترة، كان لدى أحد ضباط الفرع هواية تفقد أحوال السجناء، لا لكي يستمع ويستجيب لمطالبهم بل كي يشبعهم نظرات استخفاف وازدراء، وكي يرد على كل كلام نقوله بنظرات الازدراء نفسها، لأنه يرى في كل ما يمكن أن نقوله، أكان شكوى أو مطلب، لا يستحق الرد، وأنه سخافة وتجاوز للحد المسموح لنا، ووقاحة بوصفنا ناكرين للجميل وبوصفنا أعداء، كما قال صراحة حين شعر أن لا تكشيرته الدالة على القرف ولا نظراته المزدرية، جعلتنا نكفّ عن المطالبة بتحسين شروط السجن. ورغم كل شيء، ثابر هذا الضابط على هوايته.

المهم أن دهاء أبو عيد يكمن في أنه يفتح الباب الأول ولا يدخل، بل يعود إلى مكتبه لوقت غير محدّد. وهكذا ننسى أمر التنبيه الأول ونسترخي ونعود إلى الأنشطة الممنوعة. ثم يفتح الباب الحديدي الثاني المفضي إلى ممرّ الزنازين الذي يقود مباشرة إلى باب المهجع، ويكرّر الفعل الأول بأن يعود إلى مكتبه، ونكرّر نحن أيضاً استنفارنا ثم استرخاءنا. وهكذا في لحظة غفلة تامة نفاجأ به على باب المهجع يراقبنا من خلال الطاقة الموجودة في الباب الحديدي للمهجع، ويضبط مخالفاتنا دون أن يترك لنا فرصة للتملص.

في إحدى المرات سمعنا صوت طقطقة وصرير الباب الأول ثم جاء صوت الباب الثاني دون تأخير، أخذنا كل الاحتياطات. ثم بعد جلبة غامضة وزمن قصير يكافئ زمن قطع ممرّ الزنازين الذي لا يتجاوز أربعين متراً، فتح باب المهجع مباشرة دون أي مخاطبة لنا عبر الطاقة الموجودة في الباب، كما يفعل عادة أبو عيد.

وها هو الرجل الذي خلق كي يكون شرطياً، يقف في الباب. لا وجود لخديعة هذه المرة. هناك إذن أمر أكبر من مناكدة المساجين ومصادرة الممنوعات. مسح أبو عيد المهجع بعينين باردتين ثم بالعينين نفسهما مسح الوجوه المتسائلة، قبل أن يقول بنبرة أرادها أن تكون في غاية الجدية: "كل جماعة الرابطة لبرا". (يقصد رابطة العمل الشيوعي في سورية)

نظرنا إلى بعضنا البعض، لا ندري هل في الأمر خير أم شر. وبينما نحن نخرج واحداً إثر الآخر، جاء صوت أحد السجناء اليساريين وهو مسترخ في قعدته: "حركة إفراج، مفهومة، الله ييسر!". قال بتهكم صريح، وأثار بعض الهمهمة والتعليقات المتضاربة في المهجع.

ما أراد قوله هذا الرجل هو تعبير عن تصور شاع عند البعض وهو أن معارضة "الرابطة" لسلطة الأسد شكلية وربما كانت مجرّد مسرحية، ومن الطبيعي بالتالي أن تفرج السلطة عن أعضاء الرابطة قبل غيرهم من المعارضين "الجديين" أمثاله. ولكن هذا حديث سياسي ليس مكانه هنا.

حين خرجنا رأينا في منتصف ممر الزنازين كرسياً يقف بجواره عنصر وفي يده ماكنة حلاقة يدوية (tondeuse)، وكان عدد من عناصر المفرزة متجمعين في نهاية الممرّ. كانت وجوه العناصر جافة وفي الجو ترقب يزيد من ثقل مشهد الممرّ الذي تحده الزنازين من الجانبين بأبوابها الحديدية المسمطة المغلقة.

قال الضابط من خلال تكشيرة الاحتقار المستقرة على فمه: "هكذا إذن يا عرصات، توزعون مناشير تتهجمون فيها على سيادة الرئيس"... مجاز

كان صفوان أول الواصلين منا إلى جوار الكرسي، أجلسه العنصر الحلاق على الكرسي بجلافة وحلق شعره على الصفر، ثم قاده عنصر آخر باتجاه مكان تجمع بقية العناصر. وبعد لحظات كان صراخه وأصوات الجلد تملأ الممرّ. مع هذه الأصوات دخل إلى ممرّ الزنازين الضابط نفسه الذي يهوى تفقد المساجين لإشباعهم بنظرات الاحتقار، وفي يده خيزرانة يضرب بها على جانب ساقه ضربات خفيفة.

ما يجري أمام أعيننا كان أمراً غريباً وغير مألوف. ولم يتفوّه أبو عيد أو أي أحد من العناصر بما يمكن أن يساعدنا على حل هذا اللغز. لم يكن تحقيقاً، ذلك أن أحداً لم يوجه لنا أي سؤال. وإذا كانت هذه عقوبة، فما السبب؟

فقط حين قال الضابط من خلال تكشيرة الاحتقار المستقرة على فمه: "هكذا إذن يا عرصات، توزعون مناشير تتهجمون فيها على سيادة الرئيس"، أدركنا أن الأمر هو عقوبة لكل من هم في السجن بتهمة "الرابطة" بسبب منشور وُزّع في الخارج. الحقيقة أن العقوبة لم تطل الجميع، فربما بسبب كثرة عددنا، أو ربما لأن المبادرة إلى العقوبة كانت من هذا الضابط وحده وليست من رئاسة الفرع، فقد توقفت الحلاقة والجلد بعد تنفيذها على عدد قليل منا، واستبدلت بمحاضرة من الضابط ذي التكشيرة الذي راح يهدّدنا وكأننا نحن من كتب ووزّع المنشور، في حين كنا مقطوعين عن العالم الخارجي.

حين عدنا إلى المهجع مروعين، وقد أدرك الجميع ما جرى لنا، اعتذر صاحب التعليق المتهكم تحت ضغط الشعور بالحرج. والطريف، أنه بعد فترة وجيزة أفرج عن هذا الرجل في سياق حركة إفراجات فردية كانت تتم كل شهر واستمرت حوالي السنة، حتى بات أحد السجناء الظرفاء يتساءل مع انقضاء الشهر: ترى من ستشمله "العادة الشهرية" هذه المرة؟ ولأن تلك "العادة" لم تشمل أحداً من جماعة "الرابطة"، فقد بقينا سنوات طويلة وراء الأبواب الحديدية بعد ذلك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image