الجميع هنا حولي يبحث عن السفر، عن أي موطئ قدمٍ خارج البقعة الجغرافية التي اعتادوا على تسميتها "وطن"، الحديث هنا كله عن السفر، عمّن باع بيته أو أرضه أو مدّخراته لأجل "فرصةٍ" في السفر إلى بلادٍ تُعطي العامل فيها قوت يومه على الأقل.
"مدخراتنا وبيوتنا وأراضينا سنضطر يوماً ما لبيعها من أجل عملية جراحية أو ربما لنأكل ونعيش، لذا فالأفضل أن نستثمرها في السفر"... هذا منطقُ العديد من أصدقائي وأقاربي الذين يعانون يومياً لتأمين وجبة الغداء، أما غداً، فيخلق الله ما لا تعلمون.
قد نستفيق فلا نجد طبيباً
يُحدّثني صديقي اسماعيل، وهو طبيب أسنان تخرّج حديثاً، عن نيته السفر بعد إنهاء فترة الاختصاص، لكنه يُبقي على القليل من الأمل في أن تتحسّن أوضاعه المادية، بأن يحصل على فرصة عملٍ مُحترمة أو يتحسّن الوضع الاقتصادي في سوريا بشكلٍ عام، حينها لن يضطر للسفر وسيبقى هنا، ورغم أنني أحترم رغبته في البقاء في بلده ومسقط رأسه وإلى جانب أهله وذويه وأصدقائه ومحيطه الاجتماعيّ، غير أنني لم أعد أرى أنّ المشكلة الوحيدة في هذا البلد اقتصادية أو معيشية، مُشكلتي أنني أرى سارق بلدي كلّ يوم "يتمختر" بمظاهر الترف والثراء دون أن أستطيع أنا، أو أي أحدٍ في هذه البلاد، ليس محاسبته فقط، إنما المطالبة بذلك أو مجرّد الحديث في الأمر أو التلميح له من قريب أو بعيد.
"مدخراتنا وبيوتنا وأراضينا سنضطر يوماً ما لبيعها من أجل عملية جراحية أو ربما لنأكل ونعيش، لذا فالأفضل أن نستثمرها في السفر"... هذا منطقُ العديد من أصدقائي وأقاربي الذين يعانون يومياً لتأمين وجبة الغداء، أما غداً، فيخلق الله ما لا تعلمون
سبعون بالمئة وربما أكثر من الأطباء الذين أعرفهم يبدؤون دراسة اللغة الألمانية فور تخرّجهم من كلية الطب، ومنهم من يبدأ بدراستها خلال سنوات الجامعة، كما حدّثني صديقي الممرّض في أحد المشافي الحكومية، أنّ سويّة الخدمات الطبية قد انخفضت بشكلٍ كبير بسبب تركيز معظم الأطباء المقيمين على دراسة الألمانية وفحوصات اللغة ومقابلات السفارة في الأردن أو لبنان، وما يتطلّبه ذلك من استصدار الأوراق والوثائق وجوازات السفر، يُضاف إليها صُعوبات السفر لكونهم "سوريين"، وتشديد الإجراءات عليهم، حيث تُلاحقهم "سوريّتهم" حتى آخر لحظةٍ من رحلة الهرب منها. كلّ ذلك سرق تركيز الكثير من الأطباء، وهم لا يُلامون على ذلك.
وعلى نحوٍ أبعد من ذلك، تُعاني بلادنا من نقصٍ حادٍّ في أطباء التخدير، حيث عَنوَن أحد أطباء التخدير -وهو صديقي على فيسبوك- صورته مع جواز السفر في المطار: "آخر طبيب تخدير، يطفّي جهاز التخدير ويسكّر الأوكسجين ويطلع"، ومن خلال مشاهداتي وحديثي مع أصدقائي من الأطباء الذين يعملون في مختلف المدن السورية، فإنّ أغلب أطباء التخدير الموجودين (على ندرتهم) إما تقدموا في السنّ أو يُجهّزون أوراق السفر بسبب الاختناق الاقتصادي وانقطاع الأمل في الحل، والأسئلة التي تنقر رأسي مراراً وتكراراً، ماذا لو احتاج أحدنا إلى عملية جراحية إسعافية في مكانٍ ما من هذه البلاد، وتعذّر العثور على طبيب تخدير قريب؟ أفضّل عدم إجابة دماغي على أسئلته، فأُشعل له سيجارةً لينسى، وتتلاشى أسئلته مثل دخانها، لكنّ سرطاناً سينمو في مكانٍ آخر… تباً إنها لا تتلاشى.
لا تتلاشى تساؤلات دماغي إنما تعود بعد انتهاء رزمة "ورق الشام" بطريقةٍ أكثر دقة وخطورة، ليذكرني أنه في ظلّ النقص الحاصل يتزايد الضغط النفسيّ والجسديّ على أطباء التخدير، وبالنظر إلى مدى الدقة والخطورة في عملهم، أتساءل، أو يتساءل "دماغي": ألن يزيد ذلك من معدل الأخطاء الطبية التي لن تميّز بين غنيٍّ أو فقير؟
هذا ما ذكرني بإحدى أيام الجامعة، حين كان أستاذ مادة التخدير والإنعاش في كلية الطب، يشرح المحاضرة لنا وهو مُغمض العينين، ويُخبرنا أنه بذلك يريح عينيه من النقص الحاد في النوم، فهو لم ينم منذ عدة أيام بسبب كثرة العمليات الإسعافية التي تأتيه ليلاً، وتتطلّب منه بعدها مُلازمة المريض في العناية المشددّة، وأخبرنا أنه بعد ملازمة مريضته ستاً وعشرين ساعة لصيقة، تحسّنَت وتورّد خداها، ثم قال بابتسامةٍ يعلوها التعب: "هنا أحسستُ أن كل التعب قد ذهب"، لكنّ دماغي "زَوَرَ" أستاذي واستهزأ برومانسيته، فحين تُحرم أجسادنا من النوم سيتملكها الإعياء والتعب ونفقد التركيز، وقوانين وفيزيولوجيا الجسد لا تأبه كثيراً لمواساة الذات وكلامنا الأدبيّ، وعليه مرةً أخرى يُطاردني التساؤل ذاته الذي أهرب منه: هل يمكن أن تكون نجاتنا فردية؟ هل يُمكن أن نبقى نتعامل مع كل الانهيارات وفق قانون "حوالينا ولا علينا"؟.
لا أستطيع أن أرى "نجاتنا الفردية" ممكنةً لمن يعيش داخل هذه البلاد على الأقل، وسينقلب المثل الشعبيّ إلى "حوالينا يعني علينا، وبنصّ بيتنا"
الفقر وأدوات طبية مميتة
من جهةٍ أخرى، تُخبرني صديقتي بشرى، وهي طبيبةٌ تعمل في حي بابا عمر الحمصي، عن مريضةٍ راجعتها تريد معرفة سعر "السيخ" (قضيبٌ معدنيّ يُصنع ويُغلف بطريقة عقيمة ليُستخدم في الجراحة العظمية لمساعدة الكسر على الاندمال وتصحيح وضعيته)، فأجابتها أنها لا تستطيع خدمتها فهو ليس من اختصاصها، ونصحتها بمراجعة شركات محدّدة لشرائها، غير أنها صدَمَتْها بردها: "أنا لا أريد أن أشتري، أُريد أن أبيع".
صمتت صديقتي مستغربةً لترد المريضة على صمتها: "يوجد في قدمي سيخٌ وضعه لي الطبيب بعد أن كُسرَت قبل خمس سنوات، والآن أريد استخراجه وبيعه"، هنا أكّدَت لها أنّ ذلك غير ممكنٍ من الناحية الطبية والأخلاقية والقانونية، إذ تُصنع الأسياخ أو السفافيد (جمع سفود) من مواد بطريقة خاصةٍ وبظروفٍ خاصة، بحيث تكون عقيمة مئة بالمئة، ولا يمكن استخراجها وتعقيمها وإعادة استخدامه في مريضٍ آخر، دون تعريض حياته للخطر، وأكّدت لها أنها لم تسمع بذلك من قبل، لكنّ ردّ المُراجِعة كان صادماً أكثر: "ولكنني أعرف الكثير من الأشخاص الذين استخرجوه بعملية جراحية ومن ثم قاموا ببيعه".
هنا لم تُصدق بشرى كلامها، وسارعت لسؤال زميلنا، وهو طبيب جراحة عظمية، وكان جوابه أنّ هذا الفعل غير ممكن علمياً وطبياً وأخلاقياً، وسيؤدي حتماً إلى مشاكل خطيرة، وأخبرنا أنّ عمليات إعادة استخدام تلك الأسياخ تتم بالاتفاق بين شركات التجهيزات الطبية وبعض الأطباء.
تأكلني الأسئلة ويكبر في داخلي إحساسٌ بانعدام الأمان، فهل نُدرك حقاً خطورة هذا الأمر؟ هل يُعقل أن تُكسر ساقي يوماً ثم يُزرع فيها قضيبٌ معدني مُستعمل يسبب إنتاناً في عظامي، ينتهي بعواقب وخيمة، قد يكون موتي أو موتك.
ومن منا يمكن أن يأمن على نفسه بألّا يكون ضحية إنسان مُحتاج وطبيب يقبل أن يعرّض حياة إنسانٍ آخر للخطر مقابل بعض المال؟ بالتأكيد لا يُمكن أن يكون الوضع الاقتصادي المُنهار مُبرّراً لهذه التصرفات، ولكن الحقيقة أنّ الفقر إذا تفاقم وأزمن واستشرى قد يدفعنا إلى سلوكيات مُفاجئة لتأمين لقمة العيش.
والنتيجة التي وصلتُ إليها، أنني لا أستطيع أن أكون آمناً لوحدي في هذه البلاد، فحتى لو تجاوزتُ الضائقة الاقتصادية وحصلتُ على عملٍ يكفيني ويزيد (وهو صعب جداً)، فالأغلبية العُظمى من الناس لن تفعل، وستستمرّ حالتها المعيشية بالتردّي إلى ما لا قاع له، هنا لا يمكننا ضمان أفعال أي إنسانٍ لا يقدر على إطعام أطفاله.
لا أستطيع أن أكون آمناً لوحدي في هذه البلاد، فحتى لو تجاوزتُ الضائقة الاقتصادية وحصلتُ على عملٍ يكفيني، فالأغلبية العُظمى من الناس لن تفعل، وستستمرّ حالتها المعيشية بالتردّي إلى ما لا قاع له، هنا لا يمكننا ضمان أفعال أي إنسانٍ لا يقدر على إطعام أطفاله
أطفال بلا اهتمام
وعليه لا أستطيع تخيل ما قد يكون عليه حال أطفالٍ لا يتلقون الرعاية والاهتمام والتعليم الكافي، لأنّ الأب والأم مُنشغلان في أكثر من عملٍ لتأمين لقمة الطعام، وماذا عن لقمة الاهتمام؟ ولقمة التعاطف؟ ولقمة "ماذا حدث معك اليوم في المدرسة؟" هل أزعجك أحد؟ هذا إذا بقي مدرسة ولم ينصرف الطفل عنها ليساعد والديه في أعمالهما الإضافية الصعبة، كما يحدثُ مع أحد أقاربي في ريف جبلة، حيث يضطرّ طفلهم، صاحب الخمسة عشر ربيعاً، للتغيب عن مدرسته لمساعدة والديه في شمّاعة حمضيات، وغيره من ترك المدرسة ليختصر على نفسه الطريق الذي سلكه أهله في الدراسة والعمل الوظيفيّ الذي لم يعد يكفيهم راتبه الشهريّ أكثر من بضعة أيام.
ما أراه قد يكون مبالغاً به وقد يكون رؤيةً للواقع كما هو، بكل سوريالية وفجاجةٍ، غير أنّ المجتمع الذي يُهمل أطفاله وتُترك تربيتهم لما يلاقونه من مصادفات قد تكون جيدةً وداعمةً فيكملون حياتهم بشكل مقبول، وقد تكون سيئةً وقاسية ومدمرة، فينجرفون إلى العبث والبؤس والجريمة والاضطراب النفسيّ، وهذا ما لا يمكننا التحكم بآثاره المدمرة على الجميع دون استثناء، هنا لا أستطيع أن أرى "نجاتنا الفردية" ممكنةً لمن يعيش داخل هذه البلاد على الأقل، وسينقلب المثل الشعبيّ إلى "حوالينا يعني علينا، وبنصّ بيتنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع