أعاد رحيل النجم المصري صلاح السعدني إلى الأذهان دورَه الأسطوري في المسلسل الشهير "ليالي الحلمية"، الذي لعب فيه دور البطولة مع صديقه النجم يحيى الفخراني. تشارَك السعدني والفخراني البطولة في أجزاء المسلسل الخمسة الأولى، واعتذرا عن المشاركة في جزئه السادس والأخير سنة 2016، الذي لم يقترب ولا حتى لماماً من نجاح الأجزاء الأولى من العمل، وذلك بسبب غياب أبطاله الرئيسيين ووفاة مؤلف العمل أسامة أنور عكاشة الذي يعود إليه الفضل في نجاح المسلسل وشعبيته. كان عملاً اجتماعياً رصيناً في قالب تاريخي، يحكي قصة حب وخصومة انتقلت من جيل إلى آخر، بدأت في عهد الملك فاروق واستمرت إلى زمن الرئيس حسني مبارك.
جيل الثمانينيات والتسعينيات يتذكر "ليالي الحلمية" جيداً، وتبقى أحداثه وشخصياته محفورةً في ذاكرته الجماعية، وتحديداً المقدمة التي غناها المطرب محمد الحلو وكتب كلماتها الشاعر الراحل سيد حجاب. فبمجرد أن يسمع أبناء هذا الجيل لحن البداية وكلمات "ومنين بيجي الشجن، من اختلاف الزمن"، حتى تعود بهم الذاكرة إلى حيّ الحلمية الأرستقراطي في القاهرة، الذي تدور أحداث المسلسل في قصوره الفاخرة قبل أن يصبح حيّاً شعبياً لا يليق بأشهر سكانه، سليم باشا البدري (يحيى الفخراني) وزوجته وحبيبة عمره "نازك هانم السلحدار" (صفيّة العمري).
في إحدى مقابلاتها الإذاعية، تقول العمري: "الله يسامحك يا نازك، هي السبب يلي مش مخلّيني أعرف اشتغل". فكل دور قدّمته صفيّة العمري من يومها كانت تتم مقارنته تلقائياً بشخصية "نازك السلحدار"، ليصبح "ليالي الحلمية" مزيجاً من النقمة والنعمة على كل من شارك فيه من ممثلين، فقد خلّدهم جميعاً ومن دون استثناء، ولكنه جعل خياراتهم الفنية أصعب بكثير بعده.
جيل الثمانينيات والتسعينيات يتذكر "ليالي الحلمية" جيداً، وتبقى أحداثه وشخصياته محفورةً في ذاكرته الجماعية، وتحديداً المقدمة التي غناها المطرب محمد الحلو وكتب كلماتها الشاعر الراحل سيد حجاب
يعود هذا النجاح الباهر إلى أسباب عدة، منها طبعاً قوة النص والإخراج، ومنها أن الإنتاج المصري في حينها لم يكن بهذه الغزارة، أي أن الكثير من الممثلين كانوا متفرغين كلياً لليالي الحلمية في أثناء التصوير، ولم يكونوا مجبرين على تقسيم وقتهم وعطائهم الفني على مجموعة أعمال يتم تصويرها في آن واحد للعرض في الموسم الرمضاني.
وضعوا عصارة موهبتهم في "ليالي الحلمية"، وعندما عُرض الجزء الأول منه سنة 1987، كان عبارةً عن 18 حلقةً فقط ولم تكن "لعنة الثلاثين حلقة" قد بدأت، بحيث يجب على المخرج المماطلة في أي مسلسل لتغطية أيام شهر رمضان كاملةً، حتى لو لم يكن النص يتحمل الاستمرار على مدى ثلاثين حلقة. في ما يلي شرح سريع عن أحداث المسلسل، أملاً في أن يشجّع المشاهد الشاب -المشاهد في العام 2024- على العودة إلى أشهر دراما اجتماعية عرفها الوطن العربي، وألهمت تجارب دراميةً مشابهةً في سورية ولبنان والعراق، ومصر أيضاً، لم ترتقِ أي منها إلى مستوى "ليالي الحلمية".
في الحلمية وُلدت الصراعات ولم تمت
في حي الحلمية الراقي يبدأ المسلسل، مع عودة سليم باشا البدري من رحلة صيد مع رفاقه "الباشوات" في أثناء الحرب العالمية الثانية، ليجد زوجته نازك السلحدار في انتظاره، غاضبةً وتشكو من غيابه المتكرر عنها وعن المنزل. تكتشف نازك أن الباشا متزوج في السرّ من امرأة فقيرة وبسيطة، أنجبت له طفلاً اسمه علي (ممدوح عبد العليم)، قبل أن تفارق الحياة. ترفض نازك تربية الطفل لأنه ابن امرأة من العامة فيرسله والده للعيش في الحيّ الشعبي مع خالته أنيسة (فردوس عبد الحميد)، وزوجها توفيق البدري (حسن يوسف)، ابن عم الباشا ومدير أحد مصانعه.
يتطور الخلاف بين نازك وسليم وينتهي بطلاق عاصف، فتقرر الانتقام منه وتتزوج من خصمه اللدود العمدة سليمان غانم (صلاح السعدني)، وهو رجل بسيط ولكنه مقتدر مادياً، يريد الثأر من آل البدري بسبب ظلم كبير تعرّض له والده عبد التوّاب على يد والد سليم البدري. يبقى هذا الظلم -الذي أدى إلى اعتقال عبد التوّاب وحرق أرضه الزراعية- حاضراً في مخيلة "العمدة" حتى النهاية، وتكون كل أفعاله رداً عاطفياً عليه وانتقاماً لأبيه "من ابن البدري". وفي حديث له بعد وفاة السعدني، قال الفخراني إن دور "العمدة سليمان غانم" لم يكن مقرراً لصلاح السعدني بل للفنان الراحل سعيد صالح الذي اعتذر عنه "لحسن الحظ" بسبب ارتباطه بعمل مسرحي.
الجانب الآخر من الحلمية
نازك هانم لا تطيق العيش مع "العمدة"، وتعيّره دائماً بأنه "فلّاح"، فتشمئز من لباسه وطريقة أكله ولكنها تنجب منه طفلةً تُدعى "زهرة"، لعبت دورها الفنانة آثار الحكيم في الجزأين الأول والثاني قبل استبدالها بالفنانة إلهام شاهين. تتبرأ نازك السلحدار من زهرة وترسلها للعيش في ملجأ للأيتام، برغم أنها بنت عائلة محترمة ومعروفة، في وقت يكبر فيه "علي البدري" بعيداً عن أبيه، قبل أن تولد علاقة حب بينه وبين "زهرة". الجميع يعارض علاقتهما، ابتداءً من العمدة نفسه بعد أن أعاد "البنت زهرة" إلى داره، ولكنه سرعان ما يستثمر فيها لكي يغيظ خصمه اللدود.
أعاد رحيل النجم المصري صلاح السعدني، إلى الأذهان دوره الأسطوري في المسلسل الشهير "ليالي الحلمية"، الذي لعب فيه دور البطولة مع صديقه النجم يحيى الفخراني.
في الأجزاء المتقدمة من العمل، تتبلور علاقة زهرة وعلي، ولكنها لا تنتهي بالزواج، وتتزوج أمها مرات عدة للانتقام من سليم البدري. وهو بدوره يتزوج مراراً قبل أن تطاله القرارات الاشتراكية في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، ويرتبط براقصة تُدعى "حمدية" (الفنانة لوسي) تدمن "الحشيش" بعد أن يتركها لغدرات الزمن. وتكون "حمدية" قد جاءت إلى الحلمية مع "أبلتها" الراقصة سماسم (سهير المرشدي)، وهي عالمة تتوب وتتزوج من زينهم السماحي (سيد عبد الكريم)، وهو رجل شهم من الفتوة وشقيق الشهيد البطل طه السماحي (عبد العزيز مخيون). خط المقهى والحيّ الشعبي يأخذ المشاهد إلى جانب آخر من الحياة في القاهرة، إلى مجتمع البسطاء الذين يعيشون بجوار قصور الحلمية ويعملون في مصانع البدري ويؤيدون اشتراكية عبد الناصر لما فيها من وعود برّاقة للعمال والفلاحين.
صراع العجائز
أما عن الخلاف بين العمدة والباشا فيأخذ أشكالاً مختلفةً في المسلسل؛ تارةً يكون عبر الأولاد والزيجات وأحياناً في السياسة، حيث يتنافسان على المقاعد النيابية، يكبران معاً ويصبحان مسنَّين، ولا تنتهي المناكفة بينهما. في المشهد الأخير من الجزء الرابع، يقرر أولاد نازك الحجر عليها بعد زواجها من "عيّل صغير" طامع في ثروتها. تخرج نازك إلى شرفة منزلها حزينةً شاحبةً، بيضاء الشَّعر، فيتبعها سليم الباشا متسائلاً عن حزنها. ويُعدّ هذا المشهد من المشاهد الكلاسيكية في الدراما المصرية لقدرته على إبكاء المشاهدين وإضحاكهم في ثوانٍ:
نازك: "عشان خاطري يا سليم... وحياة العِشرة والملح والسنين الطويلة، والحب يللي كان بيننا في يوم من الأيام، ولسا موجود".
سليم: "نازك، ما تحلفنيش بأي حاجة، إنتي بتؤمري وأنا حنفّذ على طول".
تبكي نازك وتحاول تقبيل يده متوسلةً: "ما ترمونيش في دار العجزة. أنا حتحكّم في نفسي ومش رح أفكّر أتجوز ثاني، أنا حعيش وسط أولادي، وسطكم كلكم لحد ما موت".
يرفع يحيى الفخراني عكّازه ويقول: "شوفي يا نازك. إنتي عارفة ده إيه؟ ده العكاز يللي حنستند عليه لما نكبر، ورجلينا ما تقدرش تشيلنا. اعتبريني أنا عكازك يللي مش ممكن يتخلى عنك إلا لو رميتيه إنتي. اطّمني... طول ما أنا عايش ما فيش مخلوق في الدنيا حيقدر يحرّكك من بيتك".
يعود النجاح الباهر للمسلسل إلى أسباب عدة، منها طبعاً قوة النص والإخراج، ومنها أن الإنتاج المصري في حينها لم يكن بهذه الغزارة، أي أن الكثير من الممثلين كانوا متفرغين كلياً لـ"ليالي الحلمية" في أثناء التصوير
في قلب هذا المشهد المؤثر، يدخل عليهم فجأةً العمدة العجوز، المنحني بسبب تقدّمه في السنّ وهو يصرخ: "باسم الله وما شاء الله. الله أكبر. إيه يلي بتنيّلو ديه؟ إيه يلي يتهببو ديه؟ بتوتوتو وبتقولو إيه؟ إنت ناسي إنو الوليّة دي زيّ ما كانت مراتك كانت مراتي، وزيّ ما خلّفت منها، أنا خلّفت منها. ما فيش أسرار بينكم من ورايا!".
يتقدّم منه الفخراني بغضب: "أنا ما شفت برود بالشكل ده"!
العمدة: "وأنا ما شفت دم أصقع من دم حضرتك".
سليم: "سليمان... ما تخلّنيش أقلل عقلي ويللي ما عملتوش فيك السنين كلها أعملو دي الوقتي".
يردّ العمدة بانفعال: "أنا حاضربك بأمّ رأس العصا دي على أمّ رأسك وأفضح أهلك... بس الدسك... الدسك...".
سليمان...
سليم...
وينتهي المشهد مع موسيقى البداية والنهاية، ورنين ضحكة نازك السلحدار على خلاف زوجيها اللذين شابا ولم يشب لا خلافهما ولا حبهما لها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...