منذ سنوات تلجأ المنصات وبعض المحطات الفضائية لأعمال معربة سواء تلك المقتبسة عن أعمال أجنبية بعد القيام بإعدادها، أو تلك المستنسخة بشكل كامل، بغض النظر عن ملاءمتها لبيئتنا أو حتى لمورثنا الثقافي وعاداتنا، وهي حين تفعل ذلك تحد من وجود كتاب وبالتالي من وجود نصوص عربية أصيلة ذات بعد اجتماعي أو تاريخي أو حتى سياسي. وللأسف باتت تلك النوعية من الأعمال المقتبسة أو المستنسخة على غربتها تمتلك جمهوراً يتابعها ويرغب بها، والأسوأ من ذلك أنها أصبحت بدورها جذابة لمنتجيها، بحيث أغلقت الباب أمام غيرها من الأعمال الدرامية مهما كان نوعها أو مستواها.
وبات السؤال المتداول لدى البعض: هل فعلاً هناك أزمة نصوص وكتّاب، أم أن الأزمة هي أزمة إنتاج وعرض وطلب؟ فالواقع يؤكد على أن الوطن العربي ما زال لديه العديد من الكتاب القادرين على تقديم محتوى يحترم عقل المشاهد وموروثه الثقافي والاجتماعي، أمثال الكاتب المصري وليد يوسف والكاتب محمد حلمي هلال، وغيرهم العشرات، سواءً في مصر أو سوريا، جالسون هؤلاء الكتاب في بيوتهم ينتظرون فرصة برغم كل النجاحات التي سبق وسجلوها في ملفهم الفني. ولكن يبدو أن المشكلة تكمن ربما في التقاعس والاستسهال أو ربما في الرغبة الحقيقية في عولمة الدراما وجعلها تشبه بعضها بعضاً.
برغم كل ما سبق، يبقى هناك بصيص نور وأمل بين الحين والآخر في بعض الأعمال الدرامية وخاصة الاجتماعية منها التي تقترب من الشارع فتطرح قضاياه وتعالج مشكلاته الاجتماعية أو على الأقل تحاول الإضاءة عليها؛ فبعد عرض مسلسل "للإيجار" الذي كتبه العام الماضي عمرو الدالي وحقق نجاحاً كبيراً، يقدم لنا اليوم المخرج هاني كمال رائعته "وبينا ميعاد"، العمل الذي قام بكتابته وإخراجه٫ وتبنته إنتاجياً "المتحدة للخدمات الإعلامية"، وهو عمل من بطولة نخبة من الفنانين، أمثال شيرين رضا وصبري فواز والمطرب مدحت صالح وبسمة ونادي رشاد ووفاء صادق ومحمد سلمان، إلى جانب مجموعة من الشباب، نذكر منهم: داليا شوقي، أسامة الهادي، خالد أنور، آية سليم، يوسف الكدواني، يوسف إبراهيم، تسميم مطر، وغيرهم، وبمشاركة الطفلين محمد العزازي وكنزي رماح.
بعض هؤلاء الشباب سبق أن شاهدنا تجارب لهم، وبعضهم الآخر ربما هي تجربته الأولى. وبرغم أن العمل تقليدي في الشكل وعاد لنموذج الـ30 حلقة الذي كنا نشتكي منه، إلا أنه استطاع أن يثبت أن الدراما الناجحة مهما كان شكلها وعدد حلقاتها يمكن أن تجذب الجمهور الذي ما زال ذواقاً ولكنه في أغلب الأحيان مغلوب على أمره، تحكمه رغبات شركات الإنتاج التي باتت اليوم موضع ريبة وشك في كل ما تقدمه.
برغم أن العمل تقليدي في الشكل وعاد لنموذج الـ30 حلقة الذي كنا نشتكي منه، إلا أنه استطاع أن يثبت أن الدراما الناجحة مهما كان شكلها وعدد حلقاتها يمكن أن تجذب الجمهور الذي ما زال ذواقاً
مسلسل "وبينا ميعاد" الذي انتهى عرضه منذ أيام على إحدى القنوات المصرية وحصد نسبة مشاهدة عالية، يعود في موضوعه إلى العائلة المصرية ليطرح قضاياها القديمة المستجدة، مركزاً على علاقة الآباء بالأبناء والعكس، واختار لشريحته الطبقة المتوسطة على اعتبارها طبقة لا تنتمي إلى الفقراء بالمفهوم المجتمعي، ولا إلى طبقة الأغنياء والأثرياء بنفس المفهوم، لذاك نراها طبقة اجتماعية متصالحة مع نفسها ومتخبطة مع محيطها في ذات الوقت، تحاول التماسك والتمسك بقيمها على الرغم من ظروفها الصعبة. والحقيقة أن العمل بشكله العام يعكس صورة تلك الطبقة في أغلب المجتمعات العربية وليس فقط المصرية، وهذا بحد ذاته يعتبر نقطة قوة العمل وقدرته في الوقت عينه على ملامسة وجدان الجمهور العربي وليس فقط المصري، وسيكون من الأعمال التي ستحتفظ بها ذاكرتنا لوقت طويل، كتلك التي كان يكتبها أسامة أنور عكاشة في فترة التسعينيات على سبيل المثال.
تدور أحداث "وبينا ميعاد" في إطار كوميدي درامي تشويقي حول عائلتين، هما عائلة حسن الذي يلعب بطولته باقتدار الفنان صبري فواز وهو رجل أرمل وأب لأربعة شباب بينهم طفل صغير، ويقوم الأب بدور الأم والأب فيصاحب أبناءه من جهة ويدعمهم مادياً ونفسياً من جهة أخرى، لكنه برغم ذلك لا يحقق التوازن المطلوب ولا حتى التربية الناجحة. وعلى المقلب الآخر هناك عائلة نادية التي تلعب بطولتها بصورة جميلة ومفاجئة ومغايرة عن كل أدوارها السابقة الفنانة شيرين رضا.
نادية في الواقع مطلقة ولديها أربع بنات بينهن أيضاً طفلة صغيرة، لكنها تبدو كأم قاسية ومتسلطة، لدرجة تشكلت فجوة بينها وبين بناتها، وخلفت تلك الفجوة نوعاً من عدم الثقة وحتى عدم الصدق داخل الأسرة. ويشاء القدر أن تصبح نادية مديرة حسن في العمل، وتظهر بصورتها المتعسفة والمكروهة من المحيطين حولها. ولا يكتفي كاتب العمل بالعائلتين كالعمود الفقري للعمل، بل يضم لهما عائلات وقصصاً درامية أخرى من خلال ربط مباشر وغير مباشر ببعض الأحداث.
في مسلسل "وبينا ميعاد" تتلمس شخصيات العمل طريقها، فهي تعيش ظروفاً تبدو استثنائية في غياب أحد الوالدين، ولكنها في الوقت عينه تبدو مشابهة لحياة عشرات العائلات العربية
في مسلسل "وبينا ميعاد" تتلمس شخصيات العمل طريقها، فهي تعيش ظروفاً تبدو استثنائية في غياب أحد الوالدين، ولكنها في الوقت عينه تبدو مشابهة لحياة عشرات العائلات العربية. ويحاول الكاتب أن يسبر دواخلها ويوضح أسبابها، والأهم من كل ذلك أن يتكلم بلسانها وبثقافتها وبدرجة وعيها، فيلون شخصياته ويكسبها بعداً اجتماعياً وإنسانياً بطريقة ذكية، كما شخصية حسن الأب التي لعبها صبري فواز، وشخصية رمزي الخال والأب الذي لعب دوره مدحت صالح العائد للتمثيل بقوة، وشخصية ناديا سيدة الأعمال والأم القوية التي هي ذات قلب أبيض في نفس الوقت. بل أكثر من ذلك استطاع أن يدخل إلى عوالم كل هؤلاء الشباب والفتية فتحدث بلسانهم وعبر عن مشاكلهم وربما أحاسيسهم، وكل ذلك عبر سيناريو وحوار رشيق ومناسب لكل شخصية بذاتها، إلى جانب إدارته الممتازة للممثلين صغيرهم قبل كبيرهم، لدرجه جعلنا نحب شخصياته ونصدقها ونتعاطف معها ونحرن على غيابهم ونفتقدها بعد أن أصبحت جزءاً من حياتنا.
عن العمل يقول هاني كمال إن فكرته جاءت من المنتج إبراهيم حمودة، بينما اختار عنوانه يسري الفخراني، ويعتبر مسلسل "وبينا ميعاد" سابع عمل درامي يجمع الثنائي هاني كمال وإبراهيم حمودة، وكان من أهم تلك الأعمال مسلسل "أبو العروسة" الذي وصل إلى ثلاثة أجزاء.
ويبدو أن هاني كمال وعبر مسيرته الفنية يؤكد بالفعل وليس فقط بالقول أن لديه مشروعاً وقضية يريد أن يطرحها، ولكنه صاحب حظ كبير لأنه وجد المنبر المناسب لمشروعه عبر شركة إنتاج وقنوات فضائية تبنته وآمنت به واستساغت تجربة نجاحه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...