في مساء ليلة صيفية هادئة، تعالت أصوات الزغاريد، لتكسر حاجز الصمت في القرية معلنة عن خطبة إنجي، الابنة الثالثة في ترتيب فتيات محفظة القرآن الكريم للسيدة سوسن حلمي.
انتهى الحفل، وتذكرت سوسن أنها على موعد مع تجهيز عروس للمرة الثالثة، ولكن الوضع الآن مختلف؛ فالأسعار تخطت حاجز الجنون، في قريتها ومدينتها، ودولتها بالكامل، فتوقفت الزغاريد وخيّم الصمت على المكان مرة أخرى.
في صباح اليوم التالي، توجهت سوسن إلى التاجر الذي اعتادت شراء الأدوات المنزلية منه بالقسط في المرتين السابقتين.
تقول سوسن لرصيف22 إن عملية الشراء بالتقسيط كانت تتم عن طريق دفع مبلغ من المال، وتقسيط الباقي على دفعات معلومة، مع زيادة بسيطة تتناسب مع طول المدة، ولم يكن هناك مشكلة في ذلك، لأنها كانت تأخذ كل ما تحتاجه وتدفع ثمنه بالتقسيط المريح.
"بطلنا تقسيط"
"بطلت تقسيط، البضاعة أحسن من الفلوس"، كانت هذه هي الكلمات التي تلقتها سوسن من تاجر الأدوات المنزلية، وكان وقعها عليها صادماً، فأخذت تتنقل بين المحال التجارية باحثة عن تاجر آخر لا يزال يبيع بالتقسيط لكنها لم تجد.
سوسن والأمهات اللواتي بصدد تزويج بناتهن، والفتيات اللواتي يعملن على تجهيز متطلبات الزواج بأنفسهن في الأقاليم أصبحن في مأزق مع ارتفاع الأسعار واختفاء خدمات التقسيط المباشر.
توجهت سوسن إلى التاجر الذي اعتادت شراء الأدوات المنزلية منه بالتقسيط لتجهيز ابنتها، لكنه أجابها بالقول: "بطلت تقسيط، البضاعة أحسن من الفلوس" فأخذت تتنقل بين المحال التجارية باحثة عن تاجر آخر لا يزال يبيع بالتقسيط ولم تجد
كان التعويم الأول للجنيه المصري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وبعد أقل من عام ظهرت أول شركة تقسيط استهلاكي قدمت خدمتها للمواطنين وسهلت عمليات التقسيط والاقتراض باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
"تساهيل"، و"فاليو"، و"حالاً"، و"تنمية" هي من الشركات التي تقدم التمويل الاستهلاكي المباشر، والتي أصبح لها نشاط واسع، وفروع عديدة تستقطب الباحثين عن حلم تجهيز منزل الزوجية، والراغبين في الحصول على حاجتهم الآن والدفع لاحقًا، وبالتقسيط على مدد مختلفة.
عندما أخبرت سوسن المحيطين بها بعدم عثورها على محال تقسط الأجهزة التي تريدها بتقسيط مباشر، اقترح عليها البعض التقدم لشراء كل ما تحتاج عن طريق "تساهيل"، هذا المكتب الذي يمكن من خلاله إقراضها مبلغاً من المال يمكنها من شراء أجهزة كهربائية أو أدوات منزلية، وتسديد قيمة القرض على أقساط معلومة، وبفائدة معلومة. وهي من الشركات التي تعمل في مجال التمويل المباشر، وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتنتشر فروعها في جميع محافظات مصر بواقع 511 فرعاً.
هل التمويل الاستهلاكي هو البديل؟
سوسن كانت قاب قوسين أو أدنى من إتمام عملية القسط، لكن ترددها النابع من شكها بأنها عملية "ربا" جعلها تتراجع، لكن في المقابل إيمان لم تتراجع كما سوسن، وهي فتاة في أواخر العشرينات، من إحدى قرى محافظة الشرقية.
إيمان كانت على علم دائم بأن لا أحد سيقوم على جهاز زواجها غيرها، ومن ثم خرجت إلى العمل باكراً، وادخرت القسم الأكبر من راتبها لشراء جهازها، وتزوجت بالفعل في تموز/ يونيو 2023.
أستاذ اقتصاد: "جمل من نوع اشتري اللي محتاجه وادفع بعدين تدفع المواطنين إلى الإقدام على عمليات التقسيط لسهولتها مقارنة بالبنوك، قبل أن يتورطوا لاحقاً في عدم إمكانية السداد".
وقفت العروس حائرة ماذا تفعل براتبها الذي لن يفيد بشيء، ومن ثم قررت شراء ما تبقى بالقسط عن طريق تطبيق "فاليو". وعقب الزفاف بشهر واحد، حملت "إيمان" وكانت المفاجأة أن الشركة التي تعمل بها تخلت عنها بسبب الحمل.
اضطرت حينها لإبلاغ والدها الذي وعدها منذ أيلول/ سبتمبر الماضي بأنه سيقوم بتسديد بقية الأقساط، لكنها تلقت اتصالاً من الشركة تخبرها فيه بأنهم لم يتلقوا أي مبالغ منذ تشرين أول/ أكتوبر الماضي، ولم يبق أمامها من خيار سوى الدفع أو الحبس بعد أن تخلى والدها عنها للمرة الثانية، وتركها بدين مضاعف، وطفل يحول دون قبولها لأي عمل يمكنها من خلاله سداد الأقساط المتأخرة.
أما شيماء وهي فتاة عشرينية من قرية "نزلة حسين" في الصعيد فلم تلتق شريك حياتها بعد، لكنها أرادت الاستعداد حتى لا تتعثر خطواتها إذا ما وجدت الشريك المناسب، خاصة في ظل الارتفاع الشديد في الأسعار.
استخدمت شيماء "فاليو" وحصلت على جهازين بالتقسيط، هما الثلاجة والميكرويف، كان ذلك في كانون الأول/ ديسمبر 2023، فدفعت القسط الأول والثاني، غير أن خصماً غير متوقع من راتبها حال دون سداد القسط الثالث مما دفعها للاقتراض من إحدى زميلاتها.
ومع هذا فهي سعيدة بقرارها لأن الاجهزة التي قامت بشرائها ارتفع ثمنها بشكل تجاوز قيمتها بالأقساط مجتمعة، إلا أنها لا تدري كيف ستدفع القسط إن تعرضت لعملية خصم كبيرة من راتبها مرة أخرى.
"قسّط بصورة البطاقة"
اتساع مجال شركات التقسيط في القرى والمدن في المحافظات، جعل من السهل على الكثيرين الإقبال عليها والحصول على أموال وقروض من خلالها، خاصة وأنها تمنح شروطاً ميسرة، على عكس المعوقات الكبيرة التي يتعرض لها الشخص إن قرر الحصول على قرض من أحد البنوك، أو شراء أجهزة من شركات يصل فيها معدل الفائدة إلى 47%".
"اشتري اللي محتاجه وادفع بعدين"، و"قسط بصورة البطاقة"، هي من الجمل التي تُستخدم للدعاية في هذا المجال، يقول أستاذ الاقتصاد في الأكادمية العربية للنقل علي الإدراسي إن تردد مثل هذه الكلمات الرنانة يدفع الأشخاص إلى الإقدام على عمليات التقسيط، نظراً لسهولتها وعدم تعقيد عمليات الحصول عليها كما في حالة البنوك.
وينوه إلى وجود قانون ينظم عمل شركات التمويل الاستهلاكي، لكن في المقابل لا بد من وجود وعي لدى المواطن بحقوقه القانونية وبحاجته، بحيث لا يقدم على شراء أشياء ليس في حاجة لها، ويورطه ذلك في عمليات تقسيط لفترات طويلة لا تتناسب مع دخله الحالي أو المستقبلي، "إذا ما اعتبرنا أن التضخم يأكل دخول الأفراد ويقلل من القيمة الفعلية لها" بحسب كلماته.
انتعاش هذا السوق أدى إلى ظهور شركات الوساطة، التي تعمل على التوسط بين العميل وشركات التقسيط، من خلال تسجيل الأفراد وإتمام عملية الحصول على القرض وتسييل الحد الممنوح للعميل، مقابل الحصول على نسبة متفق عليها
فيما تقول أسماء، وهي إحدى موظفات "تساهيل" في مدينة بنها، إنه يكفي للحصول على قرض مالي، وتمويل مباشر، بطاقة شخصية وضامنين اثنين، ولا شيء أكثر من ذلك في حال القروض المالية الصغيرة.
وتضيف لرصيف22: "يمكن تعقيد الشروط أكثر في حال كان المبلغ أكثر من 50 ألف جنيه مصري (1040 دولار)، والشرط الإضافي هو إثبات دخل ثابت للحاصل على القرض، أو أحد الضامنين، ويكفي أن يكون هذا الإثبات في صورة مؤهل عالٍ مدون على البطاقة الشخصية".
مؤكدة أن عدم السداد يضع صاحب القرض أو الضامنين في حال اختفاء الحاصل على القرض تحت طائلة المساءلة القانونية.
ثم يظهر الوسطاء
انتعاش سوق برامج التقسيط، أدى إلى دخول آخرين على نفس النهج، ولكن بصورة مختلفة، فظهرت شركات تعمل في مجال الوساطة، أي أنها تتوسط بين العميل وشركات التقسيط نفسها من خلال تسجيل الأفراد وإتمام عملية الحصول على القرض و(تسييل الحد الممنوح للعميل)، والحصول على نسبة مقابل ذلك.
علي عمر هو أحد العاملين في هذه الشركات، يقول لرصيف22: "هناك ما هو أكثر من ذلك، فالأشخاص الذين ترفض الشركات قبولهم ومنحهم قروضاً، تقوم هذه الشركة بإجراء عملية شراء وهمية لهم لجهاز كهربائي مثلاً، ويدفع العميل قيمة هذا الجهاز بالقسط، فيأخد المبلغ كاملاً من الشركة، فيما يعرف باسم عملية (تسييل الأجهزة)، ويتم ذلك مقابل نسبة عمولة أيضاً".
وأزمة الغارمات
يقول الخبير الاقتصادي الدكتور شريف الدمرداش إن هناك قاعدة اقتصادية تقول "عندما يظهر الاحتياج يظهر السوق"، وهذه المقولة تفسر الانتشار الواسع لشركات التقسيط والإقراض المباشر للأفراد الذين يعانون من الارتفاع الجنوني للأسعار ومحدودية الدخل.
ويضيف لرصيف22: "امتناع التجار عن التقسيط أمر طبيعي في ظل تضارب الأسعار وعدم ثبات سعر الصرف، لذا اتجه المواطنون إلى الشركات التي تعمل في النهاية تحت رقابة الدولة، وتحدد نسبة فوائدها من خلال سوق المال، وسعر الفائدة المعلن من البنك المركزي".
الحبس مدة أقصاها يوم وأكثرها ثلاث سنوات هي عقوبة الأشخاص الذين يقومون بالاقتراض المباشر ويتخلفون عن السداد بحسب القانون المصري.
مشيراً إلى أن مشكلة الاقتراض هذه تسببت بأزمة السيدات الغارمات اللاتي تمتلئ بهن السجون، نظراً لحاجتهن لقضاء أمر مستعجل، ومن ثم تظهر أزمة عدم القدرة على الوفاء بفعل التضحم وثبات الدخول.
يقول: "لا يعرف هؤلاء كيفية الوفاء بالدين، وطالما هناك احتياج سيظل هذا السوق القائم، وستظل أزماته تطفو على السطح بفعل المقترضين الذين تحولوا إلى انتحارين يدفعون بأنفسهم إلى السجون في حالة عدم السداد".
من جهته يوضح المحامي في الاستئناف العالي ومجلس الدولة إبراهيم كمال أن "الحبس مدة أقصاها يوم وأكثرها ثلاث سنوات" هي عقوبة الأشخاص الذين يقومون بالاقتراض المباشر ويتخلفون عن السداد.
يقول: "عمليات الاقتراض واحدة، سواء كانت للأشخاص أو الشركات أو البنوك، فالجميع أمام القانون سواء، بل إن ما يميز الاقتراض من الأشخاص عن الشركات، أنه بلا فوائد ومن الممكن أن يمنح المقرض فرصة للمقترض لسداد الديون، أما الشركات فلا ترحم، وإذا ما تخلف المواطن عن سداد قسط واحد يمكن أن تحيل الشركة الأمر برمته للقضاء".
وبحسب تقرير صادر عن الهيئة العامة للرقابة المالية. فقد ارتفعت قيمة حجم التمويل الاستهلاكي في مصر للعام 2023 بنسبة 60%، لتصل إلى 47.3 مليار جنيه (حوالي مليار دولار) مقابل 29.8 مليار جنيه (620 مليون دولار) خلال عام 2022.
وقد منحت الرقابة المالية، رخصة التمويل الاستهلاكي لنحو 45 شركة لديهم ما يصل إلى 7790 ألف عميل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع