فجأة، وبدون سابق إنذار، عرف سكان القاهرة أنه تمّ اختيار شعار "هوية بصرية" لمدينتهم، بعد أن رأوه معلقاً بطول البنايات على الطريق الدائري.
وسرعان ما ظهرت "الفضيحة" الماثلة، ليس فقط في رداءة الخط في التصميم، ولا العشوائية في اختيار الملك منتوحتب الثاني، بدون مبرّر مفهوم لاختياره دوناً عن باقي ملوك الدولة المصرية القديمة.
كل ذلك بالنهاية أمور فنية خاضعة للذوق، حتى مع ردائتها، لكنها تظلّ اختيار المصمّم، لكن الذي لا يمكن تفسيره أو تبريره هو السطو على تصميم أجنبي واختياره شعاراً بصرياً لمدينة من أقدم عواصم العالم.
جريمة السطو على تصميم أجنبي لا يمكن اختزالها في إطار الفساد أو الإفلاس الفني فحسب، بل إنها تتجاوز ذلك كله إلى مربع "البجاحة" والاستخفاف الرهيب بالمصريين، فمن البديهي والمنطقي أن وضع تصميم منسوخ في الشوارع والميادين وعرضه على الإنترنت، سوف ينجم عنه لا محالة اكتشاف أصله. هذا استنتاج لا يحتاج إلى عبقري حتى يستوعبه، بديهية لا يطمسها ويغفل عنها سوى الشخص المستخفّ بالمصريين، أو لعله لا يراهم أصلاً!
جريمة السطو على تصميم أجنبي ليمثّل هوية "بصرية للقاهرة"، لا يمكن اختزالها في إطار الفساد أو الإفلاس الفني فحسب، بل إنها تتجاوز ذلك كله إلى مربع "البجاحة" والاستخفاف الرهيب بالمصريين
تلك السقطة، أو لنسمّي الأسماء بحقيقتها، تلك "الفضيحة"، ليست الأولى، حتى نعتبرها حدثاً عابراً لا يستلزم الوقوف أمامه، ولا الثانية حتى نقول إن قانون الصدفة والحظ السيئ لعبا لعبتهما، بل تلك هي ثالث مرّة تتكرّر فيها الفضيحة بذات التفاصيل، وهو ما ينقلها من مربع الحالة الفردية إلى خانة الظاهرة.
جهة حكومية تعلن عن شعار ما، ثم نكتشف أن هذا الشعار مسروق، وأن المسؤولين عنه لم يبذلوا جهداً بسيطاً في تعديله وإخفاء ملامح الجريمة، في استخفاف مدهش واستهتار صارخ بالعمل والمتلقي معاً.
حدثت الأزمة الأولى منذ أقل من عامين، حين سطت المصمّمة غادة والي، على رسومات الفنان الروسي جورج كوراسوف، واستخدمتها في تصميم جدارية بمحطة مترو في القاهرة.
المدهش أنه حين اكتُشف الأمر - وحتما كان سيُكتشف- كان ردّ الفنانة أنها هي والفنان الروسي استوحيا اللوحة من المعابد المصرية القديمة، وعليه فلا جرم عليها! هكذا ببساطة تقنعنا الفنانة أن السطو على لوحة عمرها 27 عاماً ليست جريمة، طالما استوحى الفنان الأصلي لوحته من معابدنا!
وبعد شهرين تقريباً من تلك الفضيحة الفنية، تكرّرت القصة بحذافيرها مع ملصق "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، حين تبيّن أن الملصق الذي صمّمته الفنانة هدير السباعي، مسروق هو الآخر من تصميم لأحد الفنانين الأتراك، ويعود إلى عام 2016.
المؤسف هنا ليس فقط الفساد - وهو بالقطع مؤسف - لكن الأكثر إيلاماً هو ذلك الشعور بالاستخفاف بالمتلقي، ووضع تصور مسبق أنه عليه القبول بما يُقدم له دون بحث أو مراجعة أو وضع رأيه في عين الاعتبار.
ما يحدث في مجال التصميمات الفنية المقدّمة لجهات حكومية ليس بعيداً عما يحدث في مصر قاطبة، الفرق أن هذا القطاع - لسوء حظ لصوصه - معروض ومطروح على الملايين، فجرائمه أكثر عرضة للاكتشاف السريع، لكن ذلك لا يعني أنه القطاع الوحيد الذي استشرت فيه ظاهرة الاستخفاف و"الكروته".
استخفاف يجعل اللصوص لا يبذلون أدنى جهد في إخفاء جريمتهم، أو على الأقل تذويقها وتجميلها، هم ببساطة يرون أن كل هذا الزحام لا أحد.
والحقيقة أنه لا يمكن قراءة ما يحدث في قطاع الفن أو القطاعات الأخرى المسكوت عنها، بدون النظر إلى الصورة الكلية، وكيف تسير الأمور في برّ مصر الآن.
وبالعودة إلى الفضيحة الأخيرة الخاصة شعار الهوية البصرية للقاهرة المسروق، فالقصة في عمقها ليست الشعار، ولا يجب قراءتها من ذلك المنطلق.
هذا الاستخفاف المستشري في البلاد يأتي من قمّتها لقاعدتها، فحينما يقرّر رئيس الجمهورية أن يحبس مقاول "لحد ما يرجع الفلوس"، على حد تعبيره، نكون إزاء اختصار مخلّ بكل الحقوق
الكارثة الحقيقة تكمن في اختيار شعار للقاهرة التاريخية، من دون حتى التفكير في العودة إلى أحد أو خلق حوار مجتمعي حوله.
قرار تاريخي كهذا، يتعلّق بفلسفة المدينة ووجها المُبرَز، لا يمكن أن يتم بقرار فوقي تتخذه الدولة دون التفكير في عرضه على الناس المعنيين أصلاً بهذا الوجه، في سلوك ملئ بالاستخفاف بالناس، واعتبارهم غير موجودين أصلاً.
هذا الاستخفاف المستشري في البلاد يأتي من قمّتها لقاعدتها، فحينما يقرّر رئيس الجمهورية أن يحبس مقاول "لحد ما يرجع الفلوس"، على حد تعبيره، ويعلن ذلك على الهواء مباشرة، فذلك استخفاف، ليس فقط بالقانون الذي يعطي ذلك الحق للنيابة، ويعطي للمتهم الحق بوجود محام عنه، ويعطى الحق للعدالة باتخاذ مجراها ومحاسبة المخطئ والافراج عن البرئ وردّ اعتباره، لكننا إزاء اختصار مخلّ بكل الحقوق وحصرها في قدرة السلطة التنفيذية على اتخاذ قرار منفرد وتنفيذه بالقوة الجبرية.
الأزمة الحقيقية التي تواجهها مصر اليوم، ليس ندرة الكفاءات فقط، ولا الفساد فحسب، بل قبل ذلك كله تأتي "الكروته" والتعامل مع كافة الأمور بخفّة واستسهال، لا يمكن أن ينجم عنهما سوى المزيد من الكوارث والفضائح.
تلك هي الأزمة وهذه هي الكارثة، أما السرقات الفنية وما يصاحبها من وقاحة، فهي لا تعدو كونها عرضاً لمرض نخشى أن يصير عضالاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه