رحل عن عالمنا الفنان الكبير صلاح السعدني. أو كما كان يطلق عليه "عمدة الدراما المصرية" تاركاً الساحة فارغة من اللقب ومن صاحب الإبداع، ومن نوع مهم من الممثلين لم يفصل عوالم الفن عن عوالم السياسة، ولم يتبرأ من القرية لمصلحة المدينة.
لمحة من البدايات
بدأ الفنان الراحل رحلته مع التمثيل في أوائل الستينيات في مسلسل "الضياع" عام 1960 من إخراج الأستاذ محمد فاضل، تبعه بمسلسل "الضحية" 1964 مع المخرج الكبير نور الدمرداش في دور "الأخرس" فكان من أوائل الذين مثلوا تلك الأدوار باقتدار واختلاف، معتمداً على لغة الجسد والعيون والحركة، فأثبت من بداياته أنه فنان عن حق.
كانت انطلاقته للسينما من خلال أفلام مهمة أثبت من خلالها أنه ممثل مبدع، مثل "الأرض" و"أغنية على الممر" و"الرصاصة لا تزال في جيبي".
كانت تلك البداية القوية طريق انطلاقته للسينما، حيث شارك في أفلام مهمة في دخلت في الوجدان المصري والعربي، وفي تاريخ السينما، مثل فيلم "الأرض" عام 1970 من إخراج الكبير يوسف شاهين، تلاه بفيلم "أغنية على الممر" و"الرصاصة لا تزال في جيبي".
لكن حين عاد السعدني الى الدراما التلفزيونية عاد أقوى من بداياته، مثلما ظهر في إحدى علامات الدراما المصرية ومسلسل "أبنائي الأعزاء شكراً"، والذي يعتبر نقطة التحول والإنطلاقة الحقيقية إلى النجومية في مشوار صلاح السعدني.
تلك الأدوار جعلت منه فناناً، فاستطاع أن يعبر قلوب المشاهدين دون حاجز ودون تصنّع، لكن الحظ عاكسه من جانب آخر، وهو انتماؤه إلى أسرة لها توجه سياسي ناصري.
عاقبه السادات لحبه لعبد الناصر
فأخوه هو الكاتب الكبير محمود السعدني، والذي قال عنه في كتابه المضحكون: "إن صلاح السعدني ممثل موهوب، ولا بد أن يشق طريقه إلى القمة يوماً، ولقد ورث صلاح السعدني عداء كل السينمائيين بسببي، وأسدلوا عليه ستاراً من الإهمال والنسيان انتقاماً مني، ورغم ذلك ستجده معبود الشباب بين شلة المُضحكين، وهو أكثرهم فرصة لقدرته على الإضحاك والقيام بأي دور آخر".
وقد صدق الكاتب الكبير محمود السعدني، ففي بداية السبعينيات، وتحديداً أيار/ مايو 1972 تعرض محمود السعدني للاعتقال. ففي خلال ندوة في الجامعة، وجّه السعدني النقد للرئيس أنور السادات، وكانت تلك نقطة كبيرة وفاصلة في مشواره الفني، هو وعدد من الفنانين.
صدر قرار في شباط/ فبراير 1973 شمل الفنان صلاح السعدني، والفنانة محسنة توفيق، والكاتب والقاص يوسف إدريس، وعدداً كبيراً من الفنانين والصحافيين بمنعهم من العمل ونقلهم إلى هيئة الاستعلامات. فأدى ذلك القرار لتوقفه أو منعه بطريقة غير مباشرة عن العمل لسنوات.
عاد السعدني لمواصلة المشوار في نهاية السبعينيات، وحقق بالفعل نجاحاً كبيراً، حتى تم اعتقاله ومنعه من العمل مرة أخرى على خلفية اعتقال شقيقه الكاتب الساخر محمود السعدني.
صداقة العمر مع عادل الإمام
ربطته بالزعيم عادل إمام صداقة قوية، بدأت بمسرح الجامعة، فقد كان كلاهما من طلاب كلية الزراعة في جامعة القاهرة، وفي نفس الوقت منتميان إلى مسرح الجامعة في فريقها. وبعد التخرج من كلية الزراعة في العام 1967، تقدما للعمل في وزارة الزراعة وتم فصلهما معاً في أول يوم عمل.
في 1972 تعرّض للاعتقال بعد ندوة وجّه فيها النقد للسادات، وفي 1973 صدر قرار بمنعه من العمل هو والفنانة محسنة توفيق، والكاتب يوسف إدريس وغيرهم من الفنانين والصحافيين، فأدى ذلك لتوقفه عن العمل لسنوات
قدما معاً عدداً من المسرحيات في مسرح الجامعة خلال مسيرتهما الطلابية، ثم انطلقا سوياً في نفس التوقيت. فشارك عادل مع فؤاد المهندس في مسرحية "أنا وهو وهي"، بينما شارك السعدني في مسرحية "لوكاندة الفردوس" مع أمين الهنيدي، وانطلقا بعد ذلك كل في مشواره، لكن لم تتوقف الصداقة.
من المصادفات الجميلة التي جمعتهما هي مشاركة صلاح السعدني في مسرحية "زهرة الصبار" مع سناء جميل وعبد الرحمن أبو زهرة، وعندما تم تحويلها إلى عمل سينمائي بعنوان "نصف ساعة جواز" من بطولة شادية ورشدي أباظة، شارك عادل إمام أيضاً في نفس الدور الذي قدمه السعدني على المسرح.
شارك صلاح السعدني عادل إمام في فيلم "الغول" في العام 1983، من إخراج سمير سيف وسيناريو الكاتب الكبير وحيد حامد، وقد حصل من خلاله السعدني على جائزة أفضل ممثل دور ثانِ.
ليالي الحلمية، أرابيسك، حلم الجنوبي
كانت المفارقات والمصادفات رفيقته طوال مشواره الفني، ولطالما لعبت لصالحه، فقد تلتها صدفة أخرى حين اعتذر أيضاً الفنان سعيد صالح عن دوره في مسلسل "ليالي الحلمية" 1987 والذي ذهب للسعدني، وليؤرَّخ كأحد اهم أدواره التي خلدت اسمه في تاريخ الدراما، ونال بسببها لقب "عمدة الممثلين" و"عمدة الدراما" و"عمدة التلفزيون"، ذلك اللقب الذي منحه إياه الجمهور المصري بعد تألقه في هذا المسلسل على مدار خمسة أجزاء متتالية.
جمعته بعادل الإمام صداقة عمر مذ كانا طالبين في كلية الزراعة، والطريف أنهما فُصلا سوياً في اليوم الأول من التحاقهما بالعمل في وزارة الزراعة.
عاد صلاح السعدني مرة أخرى إلى الدراما في العام 1994، وهذه المرة من خلال مسلسل "أرابيسك" أحد أهم أعمال صلاح السعدني الدرامية وأحد علامات الدراما المصرية في التسعينيات، والذي كتبه الكاتب الكبير أسامة انور عكاشة خصيصاً لعادل إمام، لكن الأخير اختلف مع صُناع العمل وانسحب، ليذهب الدور بعدها لسعيد صالح، ثم يعتذر هو الآخر، وليستقر في النهاية ويكون من نصيب الفنان السعدني.
وقدم صاحبنا بعدها عدة مسلسلات تعتبر من العلامات الهامة في تاريخ الدراما المصرية والعربية، مثل مسلسل "حلم الجنوبي" في العام 1997، ومسلسل "الأصدقاء" في العام 2002، ومسلسل "رجل في زمن العولمة" لنفس العام، و"الناس في كفر عسكر" في العام 2003، ومسلسل "أرض الرجال" في عام 2005، وكثير من الأعمال الباقية في ذاكرة الدراما المصرية والعربية.
الرجل الذي لم يندم
رغم أن هناك أعمالاً رفضها حين عرضت عليه، وحزن عليها فيما بعد مثلما حدث في فيلم "الدنيا على جناح يمامة" 1988 للمخرج الكبير عاطف الطيب في الدور الذي ذهب بعده للفنان يوسف شعبان. وفيلم "الهروب" 1991 للمخرج عاطف الطيب أيضاً في دور الضابط سالم، والذي جسده بعد اعتذاره الفنان عبد العزيز مخيون وأبدع فيه، وأيضاً فيلم "يوم مر ويوم حلو" وفيلم "المواطن مصري" وكثير من الأعمال غيرها، ولكنه طوال مشواره الفني لم يقدم عملاً يندم عليه أو يخجل منه أو يتبرأ منه.
أبنائي الأعزاء شكراً، ليالي الحلمية، أرابيسك، حلم الجنوبي، الأصدقاء، رجل في زمن العولمة، الناس في كفر عسكر، أرض الرجال، القاصرات... كلها مسلسلات تخلدت في الذاكرة المصرية والعربية للسعدني الذي رحل عن عالمنا للتو
لأن صلاح السعدني ابن الطبقة المتوسطة، ولأنه وجيله من الممثلين والمخرجين وعلى رأسهم نور الشريف وعاطف الطيب ظلوا منشغلين بالمقام الأول بعرض مشاكل الناس وقضاياهم وهمومهم في أعمالهم، دون السعي للشهرة أو المال على حساب العمل، وبالطبع ساعدته خلفيته الناصرية والسياسية والثقافية مع ثقل موهبته واختياراته الفنية على تكريس حبه لمصر وإيمانه بالقومية العربية.
صلاح السعدني موهبة بدأت بمسلسل "الضياع" في العام 1960، وكان آخر أعماله مسلسل "القاصرات" (2013) الذي ترك بصمة قوية لجرأته وقدرته على طرح فكرة غير مسبوقة ومعالجتها فنياً بمنتهى الإبداع دون الوقوع في فخ الوعظ، خلال هذه المدة ظل متربعاً في قلوب المشاهدين في مصر العالم العربي بمحبتهم له، محتفظاً وسيظل بلقب "العمدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون