شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
محمود عبد العزيز... حين ينام التمثيل خلف أعين لا تنام

محمود عبد العزيز... حين ينام التمثيل خلف أعين لا تنام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 4 يونيو 202003:34 م

"السيارة التويوتا الياباني لا تستطيع منافسة الجنرال موتورز الأمريكاني"...

قالها الممثل حسين فهمي في هجوم حاد منه على منافسه في الوسامة السينمائية، محمود عبد العزيز، ولم يكن يعلم أن سلاح الوسامة هذا ضيّع على منافسه الساحر 10 سنوات في بداياته، قدَّم خلالها أعمالاً وصفها ساخراً ومُحقراً بـ"الملزّقة".

لم يكن صاحب انطلاقة انفجارية كأحمد زكي، كان ابن التجريب والتيه وتواري الوحش بداخله ليُسوَّى على نار هادئة. درس في كلية الزراعة وتخصص أكاديمياً في عالم النحل، الذي شابهه في قلقه ولفّه ودورانه بحثاً عما يريد من جهة الزهور. فقط يمكننا أن نشغل بأثره التمثيلي، واستخداماته البارعة لعينيه وشفتيه وصوته الذي يُلعّبه كآلة طيّعة.

وبتتبع ثلاث شخصيات سينمائية له، نقف مع تقنيات ممثل يدرك ما في جسده من أسرار. ست أعين حيّرتني وأنا أتابع بدقة ثقة "محمود" في قدراته البصرية: عينان لـ"عبد الملك زرزور" في فيلم "إبراهيم الأبيض"، واثنتان أخريان لـ"الشيخ حسني" في فيلم "الكيت كات"، وأخيراً اثنتان للجاسوس الأشهر "رأفت الهجان".

راقب معي عينيه العسليتين البطيئتين، السريعتين عند اللزوم، الضيقتين بما يلائم الحالة المطلوبة. راقبْه وهو يخفض بصره ثم يصعد به يميناً ويساراً في ديناميكية حيوية تتماهى مع الطبيعة وتلوّنها المتقن، كأنّ الممثل الساكن فيه امتدادٌ لنطق عينيه أولاً، ثم يولد النطق لصوته وتقسيماته الشعورية كحية تتسلل إلى حواس المتلقي.

"زرزور"

مَن شاهد فيلم "إبراهيم الأبيض"، عن عالم العشوائيات والمخدرات في مصر، ربما يتفق أن هناك فارقاً ضخماً في التقنيات التمثيلية والخبرات والوعي بالتشخص بين "عبد العزيز" ومشاركيه في العمل، فشخصية "زرزور" التي لعبها "محمود"، تحرَّك فيها بثقل تركَّز في صوته وعينيه وشفتيه بتنويعات مذهلة، بين فتح العينين للتخويف، تضييقهما لصنع غموض وثباتهما لتفحص الآخرين وقراءة ما في نفوسهم.

لم تتعامل الكاميرا مع بقية جسد "زرزور" المحب الولهان بـ"حورية" التي تصغره، يظهر في عينيه الضعف، ولن نبالغ إن قلنا الذل، الذي ألمح إليه كاتب العمل ببيت شعر في تتر الفيلم يقول: "مساكين أهل العشق حتى قبورهم... عليها تراب الذل بين المقابر". وبينما أخفق المؤلف في معرفة صاحب البيت، وهو الأصمعي، راوية العرب وعالم اللغة الشهير، ونسبه إلى ما أسماه "شاعر مجهول"، نجح محمود عبد العزيز في ترجمة معنى البيت الشهير على مدار العمل السينمائي، بجعل الذل الذي يعانيه "زرزور" أمام "حورية"، كائناً حياً مرئياً.

لم يكن صاحب انطلاقة انفجارية، كان ابن التجريب والتيه وتواري الوحش بداخله ليُسوَّى على نار هادئة. درس في كلية الزراعة وتخصص أكاديمياً في عالم النحل، الذي شابهه في قلقه ولفّه ودورانه بحثاً عما يريد من جهة الزهور

يُضطر "زرزور" لقتل "حورية" تحت شعار "أهون عليكي... تهوني عليا"، مُجسداً محاولة بائسة لاستعادة ذاته بأن يختار خسارة عشقه، فلبس وجهاً شبه مشلول، صُبَّ على قالب مخلوط بالندم والضعف والاضطرار والتساؤلات، ساعدته في ذلك نظرات عين درّبها وآمن بسرها، فآمنت به ولبت نداءه وقتما أراد.

عظمة شخصية "زرزور" لا تبدو في كتابتها بقدر ما تبدو في تمثيلها بأداء مسيطَر عليه، يعتمد الدهشة سلاحاً، فهو ليس تاجر مخدرات معتاداً، بل يكاد يرتقي إلى قدرات إله، مالك الحكمة، ينطق بجملة "أنا حييتك تاني"، ثم "وإنّ عذابي هو العذاب الأليم"، في مشهد رتّبه المخرج بأن جعل الشخصية تجلس على ما يُشبه العرش في إضاءة توحي بالجلال والغموض، وتفوقت ترجمة "محمود" لتلك الحالة على المعنى الأصلي المقصود من الكاتب والمخرج معاً، وعلت به إلى مساحات أكثر تطرّفاً مما وصلا إليه.

كمّ الجمل التي نطق بها "زرزور" والتي انتشرت في أعمال "كوميكس" كثيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا ترجع لكفاءة الكتابة ووهجها، بقدر ما تُرَدُّ لكفاءة أداء ممثل، يطغى حضوره الصوتي والشكلي على ما سواه من عناصر العمل، فجملة "الإنسان ضعيف" لم تُنطق كما كُتبت، بل نطقها الممثل "الإنسان دعييف"، كأن جهاز النطق لديه يعرف أنه يُحيي جملة عادية وينفخ فيها الروح.

"الشيخ حسني"

لا يُغرينا هنا الأداء الحركي لجسد محمود عبد العزيز وهو يمشي كأعمى تقليدي متحسّساً الحيطان والطرق، بل جاء تقديمه شخصية "الشيخ حسني" في فيلم "الكيت كات" معتمداً على بروز ذقنه ومدّها مرفوعة قليلاً للأمام بأنَفَة، كأنها حاسة إضافية، فضلاً عن تركيزه في حركة حاجبَيْه بشكل كرتوني، كأنهما قرنا استشعار يحددان مسار الحساسية والتعبير والتأثير، مستخدماً طبقة صوت الحكائين، وهو يمط شفتيه بين ثانية وأخرى، ليضيف لنطق جُمله ضمةً خفية تسمح بنحت الشخصية في الأذن والقلب، قبل نحتها في عين التلقي السينمائي.

هذه ليست توجيهات مخرج، فقد اكتفى داوود عبد السيد بما يريد أن يقوله في تصوير المشهد، ونحت ظلاً أكبر حجماً من جسد "الشيخ حسني"، للإيحاء بأنه يحلم بأن يكون عكس واقعه الضرير، لكن "الساحر"، وهو اللقب الأشهر والأدق لوصف محمود عبد العزيز، كان في جرابه الكثير ليقدمه، متناطحاً ومتعالياً على تقنيات المخرج وتصوراته، وهذا يرجع إلى فطرة لا تستعمل عقلها بقدر ما تستعمل حاسة الحلول في عالم آخر يتخلّق في خياله، وربما تخرج عن إرادته وإدارته هو شخصياً.

بعد ترشيحه لمسلسل "رأفت الهجان" حاول عادل إمام الحصول على الدور ونجح بالفعل وتم استبعاد محمود عبد العزيز، فما كان منه إلا اللجوء لمبارك حين التقاه في المملكة السعودية، فحكى له شاكياً، ونال وعداً بأن دور الجاسوس رأفت الهجان سيكون له، وقد كان

"رأفت الهجان"

عمله الأشهر، الذي عرض لأول مرة عام 1987، وبعد ترشيح "محمود" حاول عادل إمام الحصول على الدور ونجح بالفعل وتم استبعاد "عبد العزيز"، فما كان منه إلا اللجوء للرئيس الأسبق مبارك حين التقاه في المملكة السعودية، فحكى له شاكياً، ونال وعداً بأن دور الجاسوس رأفت الهجان سيكون له، وقد كان.

ورغم عدم الشبه بين رأفت الهجان الحقيقي ورأفت الهجان الذي رأيناه في محمود عبد العزيز شكلاً وتكويناً جسمانياً، فقد صار من غير المعقول تصور رأفت الهجان إلا باستدعاء صورة محمود عبد العزيز. وهذه حالة صدق فني نادرة لا تحدث إلا بقدرة ممثل يعرف أبواب الدخول والخروج جيداً، لا يضل ولا يشقى في تحديد مساراته.

في مشهد التحقيق مع "الهجّان"، يحاول محمود عبد العزيز أن يرسخ لغموض شخصية الجاسوس في بداياته، قبيل مرحلة التقاطه من رجل المخابرات الذي حضر لكشف هويته، إذ كانت الشخصية الحقيقية ماهرة في التخفي والتزوير والحيل والتمثيل، وكان المطلوب من الممثل أن يوحي بحالة تشرد وصعلكة وصلتها الشخصية في الزنازين وفي سوق الحياة الواسع، وفي ذات الوقت الحفاظ على يقظة العقل المراوغ لجاسوس محتمل، فركز على بطء عينيه الواسعتين ليمتلك المحققين الحاضرين بكل ما أوتي البطء من قوة سيطرة وثقل على النفس، فهو يعلم أن أزمة المتهم أمام المحقق تكمن في ضعف مواجهة العين بالعين، لكنه لبس رداء الصلابة بقيادة عينين كسولتين، كقطة تمكر مكرها في نعاس مزيف، وهي أشد يقظة ممن يهاجمها، فقبض الممثل بداخله على لقطة تمثيل الغفوة المنتبهة، المستعدة للمراوغة، بطول نفس لا ينقطع، فيما لم يفقد الروح المصرية المائلة لاصطناع الفَهْلوة والمزاح، والتي لا تفلت خيوطها منه لحظة واحدة.

هذه المشاهد الثلاثة تقول بغير شك إن "السيارة التويوتا الياباني سحقت الجينيرال موتورز الأمريكاني"، فالتمثيل موهبة لا وسامة، والتمثيل مهنة تدريب وخبرة عين ترى ما لا يراه الناس، لا وراثة جينات شعر لامع وقوام ممشوق وعينين براقتين لا روح فيهما.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image