شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
صلاح السعدني…

صلاح السعدني… "الصعلوك" و"العمدة" برائحة الريف والسياسة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 24 أكتوبر 202005:08 م

عندما فتح الصبي صلاح السعدني عينيه على الدنيا في أربعينيات القرن الماضي، كانت عائلته قد استقرت في حي الجيزة دون أن تقطع حبل الود مع قريتها الصغيرة في محافظة المنوفية.

تعلق السعدني بشوارع القاهرة ومقاهيها، التي كانت أشبه بصالونات ثقافية وانغمس في إيقاع الحياة الصاخبة، ولم يعرف الكثير عن طين الأرض ورائحته، لكن الأصول الريفية ظلت تلاحقه طوال مشواره الفني، وكانت هي السمة المشتركة بين غالبية أدواره المميزة في الدراما التليفزيونية.

التحق بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، ربما ليصبح مهندساً زراعياً في صحارى الوادي الجديد، كما قال شقيقه محمود السعدني في كتابه "المضحكون". لكن الأحوال تبدلت حينما التقى رفيق دربه عادل إمام.

جسّد ابن البلد الجدع، والحرفي الفنان، الذي لم يستطع مجاراة التغيرات التي شهدها المجتمع وأفقدته هويته وثقافته الأصيلة، فانصرف إلى جلسات السهر والحشيش لينسى همومه

يقول السعدني في أحد الحوارات: "عندما قابلت الفنان عادل إمام، ووجدت بداخله هذا الحب الشديد للفن، اشتركت معه في فرقة التمثيل بكلية الزراعة، أقنعني أن الفن هو مستقبلي، ثم دعا مسرح التلفزيون خريجي المعاهد والكليات، فتقدمت إليه، وبدأنا مرحلة جديدة، وقطعنا أولى خطواتنا في الفن، والحقيقة التي لا يمكن أن أنكرها أنه لولا عادل إمام ربما كنت حالياً في السجن أو زعيماً سياسياً، لا أعلم. ولكن الغالب أنني كنت في السجن".


"الأبكم"

في مطلع الستينيات، حدث التعرف بين المصريين والتلفزيون، وانصب الاهتمام على متابعة كل جديد يظهر على هذه الشاشة الصغيرة، وقد كانت بداية صلاح السعدني من خلال مسلسل "الضحية"، الذي أصبح واحدًا من أنجح المسلسلات في ذلك الوقت. ويعتبر الجزء الأول من ثلاثية أخرجها نور الدمرداش، مقتبسة عن خماسية الساقية للأديب الراحل عبد المنعم الصاوي. لعب السعدني دور الأبكم "أبو المكارم"، الذي يشهد على الجرائم التي تحدث في القرية، بقلب يعتصره الألم، عاجزًا عن رد الظلم حتى عن أقرب الناس إلى نفسه.

كان الدور محورياً في الأجزاء الثلاثة، فارتبط المشاهدون بالشاب الريفي الطيب، الذي نجح في إقناعهم بأنه لا يستطيع الكلام، معتمدًا على التحكم بمهارة في تعبيرات وجهه وصرخاته المستغيثة.

"صعلوك القرية"

وما إن وطئت قدما السعدني أعتاب السينما بحثًا عن أدوار متنوعة يثبت من خلالها موهبته، حتى التقى المخرج يوسف شاهين، الذي منحه دوراً في سرديته السينمائية عن الفلاح والريف المصري "الأرض" سنة 1970.

يجسد السعدني شخصية "علواني" صعلوك القرية الذي لا يملك أرضًا ولا مالاً، لكنه لا يتأخر عن مساعدة الرجال في وقت الشدة.

لم يكن هذا آخر تعاون بينه وبين شاهين، لكن عدم تفرغه لفيلم "المهاجر" كان السبب في نشوب الخلاف بينهما، فقد فضل السعدني تقديم دور "حسن أرابيسك" على كل شيء، ورأى أن علاقته المهنية بـ"الأستاذ" لا يمكن أن تستمر على أي حال بسبب تباين طباعيهما.

لم يستطع ثبيت قدميه فنيًا، لتلقيه ضربة قوية من رأس النظام.

المهم أن انطلاقة الممثل الشاب كانت مبشرة بعد المشاركة في عدة مسلسلات وأفلام مهمة ومسرحيات أيضًا، لكنه لم يستطع ثبيت قدميه فنيًا، لتلقيه ضربة قوية من رأس النظام أرجعته خطوات عديدة للوراء، وأخرته خمس سنوات عن باقي زملائه.

يقول السعدني عن فترة السبعينيات المظلمة: "كان السادات قد وصل إلى الحكم وقام بما سماه "ثورة التصحيح"، فسجن عدداً من رموز النظام الناصري والمعارضين لطريقته في الحكم، وألقي القبض على شقيقي محمود السعدني عام 1972... وعقب عرض فيلم "أغنية على الممر" أقامت جامعة القاهرة ندوة لأبطال العمل، وذهبت وتحدثت عن السادات، بعدها بأيام استدعتني مباحث أمن الدولة وتم التحقيق معي. ثم نشرت قائمة على صفحات الجرائد الرسمية تضم 46 صحافياً تم رفدهم من الاتحاد الاشتراكي ومنعهم من العمل في أي نشاط فني أو ثقافي، ومن بين الفنانين كنت أنا ومحسنة توفيق. لم أجد أمامي سوى بعض أفلام المقاولات".

العمدة

حينما عاد صلاح السعدني إلى ممارسة عمله الذي يحبه، كانت صناعة الدراما التلفزيونية قد بدأت تزدهر. في هذا الوقت، كان السيناريست أسامة أنور عكاشة يتقدم بخطوات ثابتة نحو المرتبة الأولى في كتابة المسلسلات المدوية النجاح. فتقاطعت سبلهما، وكان لعكاشة الفضل في أن ترتبط صورة السعدني في الأذهان بالجلباب ذي الكمين الواسعين.

كان التعاون الأول بينهما في مسلسل "أبواب المدينة" سنة 1981، الذي لعب فيه السعدني دور البطولة إلى جانب النجمين محمود المليجي وعبد المنعم إبراهيم. تركز أحداثه على أبناء الريف الذي يأتون إلى المدينة طلبًا للعلم والعمل محملين بالكثير من الأحلام والطموحات، إلا أنهم يعيشون في حالة من الحيرة بين التمسك بأصلهم والانخراط في المجتمع الجديد.

يجسد السعدني شخصية "أمين" طالب الطب التائه بين ابنة عمه القروية، التي يغازلها في إجازة صيف وزميلته الجامعية التي يرى أنها تناسب مستقبله في المدينة، من دون أن يقدر على مصارحة أي منهما بالحقيقة.

كانت شخصية الشاب الذي يهاب المواجهة والصدام مع الآخرين قد لعبها السعدني في المسلسل الشهير "أبنائي الأعزاء.. شكرًا". لكن تباين تفاصيل الشخصيتين ساعده على تأديتهما بأسلوبين مختلفين؛ فجاء "أمين" مهزوزاً ومرتبكاُ في كل قراراته، أما الابن الأوسط لـ"بابا عبده" فكان سلبياً لكنه خفيف الظل.

"وأنا يوم ما أعمل عمدة، هعمل اللي عمله صلاح منصور! لو مكنتش هعمل عمدة تاني فلن أقدم هذا الدور"، هكذا قال صلاح السعدني لابن شقيقه أكرم، عندما تم ترشيحه لدوره الأشهر على الإطلاق العمدة "سليمان غانم" في مسلسل "ليالي الحلمية"، أحد أهم إبداعات الثنائي أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ. كان قلقًا من الدور الذي ترشح له أكثر من ممثل قبله، ويرتبط دوماً بأداء وهيئة الممثل صلاح منصور في فيلم "الزوج الثانية". لكن كان ذلك بمثابة التحدي الذي دفعه لتقديم الشخصية الريفية ببراعة لا تنسى.

لعب السعدني دور الأبكم "أبو المكارم"، الذي يشهد على الجرائم التي تحدث في القرية، بقلب يعتصره الألم، عاجزًا عن رد الظلم حتى عن أقرب الناس إلى نفسه

لم يكتف السعدني بارتداء الجلباب والعباءة ووضع الشال على الكتف والطربوش على الرأس والإمساك بالعصا. تخطى الأمر إلى إتقان اللهجة التي يعرفها جيدًا من أدواره السابقة، ودوائر الأهل والمعارف.

كان الأهم إضافة روح للنص، وصبغة خاصة تمزج بين الجدية الشديدة، وحس الفكاهة الذي يتمتع به، فأصبحت طلته على الشاشة الصغيرة مصدر بهجة دائمة، وبات الجمهور متورطًا في حب الشخصية، يحفظ لزماتها ويستمتع بحركاتها العفوية.

وبخبرة تمثيلية استوعب تركيبة "سليمان غانم" ورحلته على مدار الأجزاء الخمسة، ووازن بين رزانة الرجل الذي جاء إلى الحلمية واضعاً خطة للانتقام من ابن "البدري" المتسبب في موت أبيه في السجن، ثم شيئاً فشيئاً انخرط في أزماته ومشاريعه الشخصية دون أن ينسى عدوه اللدود، وحالة الهذيان التي أصابت الشخصية مع وصولها إلى مرحلة الشيخوخة وزودت من جرعة الكوميديا.

أبدع في ثوب الفلاح

كل من يعرف صلاح السعدني عن قرب ينبهر بثقافته الموسوعية، ومكتبته العامرة بأهم الإنتاجات الفكرية في المجالات المختلفة.

وبعد "ليالي الحلمية" أصبح في مكانة تسمح له بأن يختار بتأنٍ القضايا التي يرغب في تناولها على الشاشة الصغيرة. الأمر الذي حاول أن يطبقه أيضًا في السينما، لكن هذه لم ترض طموحه بشكل كبير، فابتعد عنها تدريجياً، مكتفيًا بعدد من الأفلام الجيدة فنياً، وركز على استثمار موهبته في التلفزيون الذي عرف قيمته الحقيقية.

حرص السعدني على تنوع أدواره في هذه المرحلة، وكان أغلبها يناقش فكرة التمسك بالجذور والأصالة. فجسد الشخصية الشهيرة "حسن النعماني" في مسلسل "أرابيسك"، ابن البلد الجدع، والحرفي الفنان، الذي لم يستطع مجاراة التغيرات التي شهدها المجتمع وأفقدته هويته وثقافته الأصيلة، فانصرف إلى جلسات السهر والحشيش لينسى همومه. ولعب دور الأب المحب الخائف على أولاده من الأفكار والقيم الغربية في "رجل في زمن العولمة"، وقبلها كان الصعيدي "نصر وهدان القط" معلم التاريخ العاشق للحضارة المصرية الذي يتصدى لتجار الآثار في "حلم الجنوبي".

ظل للريف وحقوله الخضراء مكانة مهمة في مسيرة الفنان الكبير، فهو لا يتوقف عن صولاته وجولاته في زي الفلاح، ولا يمل الجمهور من اختياراته المتنوعة في هذا القالب. فيلعب دور العمدة الظالم الذي يتحالف مع اللصوص ضد أهل قريته في "وجع البعاد". وبدور الدجال الذي يسرق أهل بلدته ويصعد إلى قمة المجتمع في "سيرة سعيد الزواني". ثم يكون الحج عبد القادر عوف في مسلسل "الناس في كفر عسكر" الذي يقف بالمرصاد لمن يحاولون اغتصاب أرضه.

قدم صلاح السعدني أكثر من 150 مسلسلاً تلفزيونياً، لكن لم يتخط أي دور نجاح العمدة "سليمان غانم" المحفور في الوجدان. قد يجد البعض أن هذا عيب، إنما السعدني ينظر للأمر بمنطق مختلف، يقول: "الفنانين الكبار سواء في مصر أو في الخارج لديهم ما يمكن أن نطلق عليه دور العمر. فأنتوني كوين مثلاً قدم مئات الأدوار ولكنك بمجرد أن تذكر اسمه تتذكر على الفور دور عمره "زوربا اليوناني"، ومحمود المليجي قدم عشرات الأدوار ولكن يبقى دور العمر له في فيلم "الأرض". وأنا أعتبر سليمان غانم هو دور العمر بالنسبة إلي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image