شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
المؤامرة ونظرياتها العربية

المؤامرة ونظرياتها العربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الاثنين 15 أبريل 202402:02 م

يكتب المؤلف الإنجليزي آرثر سي. كلارك أن هناك احتمالين على وجود كائنات فضائية، إما وجودها أو عدمها، وكلا الاحتمالين سواسية في الرهبة والذعر. سأسارع في تنويهي إلى اختلاف مصطلح "كائنات فضائية" عن نظيره في لغة آرثر الأم، الإنجليزية، Aliens، ألا وهو "الغرباء/الأجانب/الخوارج..." إلخ، من ألفاظ الغيرية "otherness". أنوه أيضاً إلى أن لفظ "الخوارج" هنا لا يتعلق بالتراث الإسلامي، بل هو ترجمة انطباعية لكلمة أجنبية.

حضور "الغرباء" في وعي الإنسان الحديث طاغٍ. في منطقتنا، لم تحظ هذه الكائنات بالأهمية ذاتها في أمريكا الشمالية و، بحد أدنى، في أوروبا. بيدَ أن غياب هذه الكائنات من وعينا الجمعي لم يعيق تقدمنا في تأليف نظريات المؤامرة. في الغرب، يشكل هؤلاء الغرباء عنصراً جوهرياً في تشكيل النظرية، فقادة العالم كائنات فضائية متّشحون بالشكل البشري لكي يوهمونا.

في عالمنا العربي (العربي، الأمازيغي، الكردي، الآشوري، المصري... إلخ)، تنبثق نظرية المؤامرة من ممانعة ضد الاستعمار، ومن ردع الجواسيس والعملاء والماسونية... إلخ. أن ننخرط في الحداثة دون أن نصير جزءاً منها، يُحتَّم علينا التقوقع ضد كل ما هو علماني، فنجزم بأن كل دعاية للتحرّر تستهدف العرب والمسلمين وتنوي تفكيك مجتمعاتنا (المتفككة بالفعل).

في عالمنا العربي، تنبثق نظرية المؤامرة، من ممانعة ضد الاستعمار، ومن ردع الجواسيس والعملاء والماسونية... إلخ، فنجزم بأن كل دعاية للتحرّر تستهدف العرب والمسلمين وتنوي تفكيك مجتمعاتنا (المتفككة بالفعل)

خلف الستار في مدينتي البيضاء، شرق البلاد، النظرة الشائعة إلى العالم كامنة في نظرية المؤامرة. شيوع هذه النظرة ليس مقصوراً علينا، ففي الولايات المتحدة يؤمن الملايين بقوى خفية تثبّط من حرياتهم. الاختلاف كامنٌ في الأعراض والمآلات (كيف تتحوّر الثقافة في مجتمعٍ تحكمه إمبراطورية من جهة، ومجتمع لم يصل بعد إلى طور "الشعب").

لا غرابة في الخبر القائل إن إمبراطوريات الغرب تمارس كولونيالية مستجدة. الغريب، بل المُستغرَب، هو التشديد على البعبع الخفي، وكأننا في حاجة إلى تأويلات غنوصية لتفسير إخفاقاتنا.

*****

أذكر المرة الأولى التي أخبرني بها أقربائي بشأن كوكا كولا وبهلوانيّات "لا محمد لا مكة". أذكر أيضاً ما طرأ من تساؤلات على دماغي البريء: ما مصلحة كوكا كولا هنا، أيعرف معشر الكفّار كيف يقرؤون العربية إذا ما جابهت العلبة مرآة عابرة؟ ثم ما الداعي إلى هذه الأفعال الاستخباراتية إذا بات مكفولاً لهم سبّ محمد والله علانية؟ فجلّ الأطفال حينها عليمون بإعلامٍ يصر على أن شغل الغرب الكافر سبّ الرسول وربه. إذن، لم يسترعِ تشكّكي قراءةً لفلسفةٍ لاحقة، فلسفة من شأنها أن تستكشف مفهوم "إعمال العقل"، الذي وإن صاغه بعض المتشدّدين تباعاً، لن يجرؤ على صياغة هذه الغشية، ويا ليتها كانت غشية صوفية.

ولسوف تتطوّر وتتحوّر هذه "النظريات" إلى ما بعد "لعب العيال". الجوهري فيها محاولات الغرب الحثيثة لاجتثاث قيم الإسلام، فتستبدلها "بالعلمانية" و"الشذوذ" و"الدياثة"، ولا ننسى مآرب إسرائيل الخفية، وكأن بطش الصهاينة في حاجة إلى تأليف ما يذيّل فظائعهم وتشريدهم الفلسطينيين. والغريب أن هذه السرديّات الملتوية لا ترضى بحبكة موحّدة، فإيران ليست عدوّاً حقيقياً لإسرائيل، وإسرائيل صديقة حزب الله وحماس (العدوّيْن) والإمارات، بالتالي، شريكة إسرائيل في ضرب تركيا التي تنكبّ على تقويض العروبة وإنما في الأصل هي العدو الحقيقي لإسرائيل... إلخ.

يسيرٌ عليّ الاستهزاء على هذه الأطروحات وإن كانت صحيحة، فهي لا تقدّم أطروحات في الأساس. ولئن تنوّع مؤلّفو هذه النظريات الممتعة، فخليقٌ بنا تصنيفهم. الأمر شائك، بل عويص. من منّا قادر على رصد منشأ هذه السرديّات؟ فإذا كان أغلب المؤمنين بها من "المواطنين البسطاء" يستمدون خطابها من "مثقفين"، فهذا الخطاب غالباً ما يطوّره هؤلاء البسطاء، فتنتج لدينا أدبيّات بديعة يشيطن فيها التلميذ أستاذه دون وعي.

السرديّات الملتوية لا ترضى بحبكة موحّدة، فإيران ليست عدوّاً حقيقياً لإسرائيل، وإسرائيل صديقة حزب الله وحماس (العدوّيْن) والإمارات، بالتالي، شريكة إسرائيل في ضرب تركيا التي تنكبّ على تقويض العروبة وإنما في الأصل هي العدو الحقيقي لإسرائيل... إلخ

*****

لا تنحو هذه النظريات في الغرب، كما ذكرنا، منحى التأويلات في منطقتنا. على أي حال، هي ليست نظريات، بالمعنى التقني للكلمة. على أن صفة التنظير لا تدحض أو تصدّق على ما يسرده البشر من أفكار وبوح.

 في حوار تلفزيوني، اتُّهِم لاعب كرة القدم الأسبق، ديفيد آيك، بالكسل الفكري. يُعد آيك من أكثر "منظّري" المؤامرات شعبيةً. يرد آيك بغضب أن لا مصداقية في اتهام مؤلف بكسلٍ فكري إذا قام الأخير بكتابة نص يربو على 900 صفحة! وهنا أذكر بشكلٍ عابرٍ ما كتبه الناقد السينمائي، رايموند دورجنات، في معرض حديثه عن الرواية الفرنسية الجديدة، أن البوح بكل شيء عن كل شيء يفضي بنا، يقيناً، إلى معنى ما، بعكس ألّا نبوح بشيءٍ عن أي شيءٍ. وإذ كان ديدن مناصري هذه "الحركة" البوح بكل شيء، فكثير من هذا الكل محض هراء (قد يغدو هذا الطرح نظيراً سطحيّاً لنظرية القرود غير المنتهية).

إذن التباس هذه "السرديات" ليس كامناً في الكسل أو الغباء، فغالباً ما يستنقِص بعض مَن يتبنى أفكاراً ليبرالية وتقدمية من شأن منظّري/مريدي المؤامراتية. يصل الأمر أحياناً للاستخفاف بخلفيتهم الإثنية والجغرافية، كما الحال في الغرب (الجنوب الأمريكي ومن شاخ من البيض في بريطانيا، كمثاليْن). أما في منطقتنا، لا وجود لصراع قائم أصلاً بين من يؤمن بهذه الأفكار ومن يعارضها.

الطريف في الأمر أن واحدة من أصل عشر نظريات مؤامرة قد تصير صحيحةً بالمنهج العلمي، وسترى أنه بكثرتها وتنوعها قد تصيب، ولو جزئياً، بعضاً من واقعٍ معاش. ما ليس طريفاً هو حصر عناصرها في بضعة سطور كهذه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard