شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
العثور على مذكّرات أمي... صفحات من القوّة

العثور على مذكّرات أمي... صفحات من القوّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 22 أبريل 202411:54 ص
Read in English:

Finding my mother's diary: Pages of power and archiving violence

كان لوالدتي دفتر مذكّرات، وكانت تخفيه بحذر شديد، باعتباره شاهداً صامتاً على العواصف التي مرّت بحياتها. هذه المذكّرات، القديمة والمهترئة، بغلافها الجلديّ المخدوش والصفحات التّي اصفرّت بفعل الزّمن، وبعضها تمزّق، كانت أكثر من مجرّد دفترٍ بسطور تكاد لا تنتهي. كانت صديقاً سريّاً، وسط فوضى وعنف العيش مع والدي، الذي كان حضوره مصدر تهديد دائم.

كان الجميع يظنّ أنه دفتر تدوّن فيه ماما بعض الملاحظات من دورات اللّغة الإنكليزية وصفوف الكومبيوتر التي كانت تدرسها حينها، ولكنني كنت أعلم أنه ليس دفتراً عادياً، وكانت مجرّد فكرة أن يكتشف والدي محتواه تملؤني بالخوف.

كانت هذه المذكّرات ملاذاً. سكبت أمي بين سطورها مخاوفها وآمالها وأحلامها. كانت المكان الوحيد الذي تستطيع فيه التحدّث بحرية، المكان الوحيد الذي لا يمكن فيه إسكات صوتها أو الحكم عليه. هنا بين هذه الصفحات، كانت تقول بحرّية إنها لا تقوى على الاستمرار. هنا بين هذه الصفحات، لا وجود لمجتمع القشور، وما من أحد ليقول لها "معليش تحمّلي"، و"المرا ما إلها غير بيت زوجها".

العيش مع أبٍ عنيفٍ يشبه المشي على طبقة هشّة من الجليد، دون أن تعرف أبداً متى ستتشقّق وتغرقك في المياه الجليدية

العثور على المذكّرات

عثرت مؤخراً على دفتر المذكّرات. لقد مرّت سنوات منذ أن رأيته آخر مرة، ومع ذلك فقد شعرت أنّه مألوف للغاية. تذكّرت عندما كنت طفلة، وأمسكت بي أمّي وأنا أختلس النظر الى هذا الدفتر وأقلّب صفحاته. ركضت يومها، وصاحت بي، وانتزعته منّي بقوّة. كان الأمر غريباً. إن رؤية والدتي الحنونة والمحبّة في مثل هذا الغضب أذهل، لا بل أرهب، تلك الفتاة الصّغيرة الفضولية.

اختلف الوضع البارحة، بعد مرور أكثر من 20 عاماً، حملت دفتر المذكّرات بين يديّ، توجّهت نحو غرفة أمي، وسألتها إذا كان بإمكاني الحصول عليه. أومأت برأسها إيجاباً. عدت فوراً إلى غرفتي خوفاً من أن تغيّر رأيها، أغلقت الباب بإحكام، أخذت علبة المناديل من على المنضدة، وجلست على سريري. عندما بدأت القراءة، اجتاحتني المخاوف والذكريات القديمة، المتشابكة مع شعور بالتطفّل. ومع ذلك، كانت هناك أيضاً حاجة ملحة للتواصل مع عالم والدتي، وفهم رحلتها، وربما رحلتي أنا، خصوصاً أن بعض المدوّنات تعود إلى العام 2000! على الرغم من هشاشة هذا الدفتر الصغير، إلا أن قوّة الكلمات الموجودة بداخله استمرّت على مرّ السّنين.

الرجوع بالذاكرة

كلمّا قرأت تاريخ المدوّنات، أتذكّر حوادث العنف التي حدثت خلالها. ما هي إلا لحظات، حتّى خطفتني الذّكريات السيئة، ورحت أستذكر تفاصيل العيش في منزل واحد مع معنِّف. إن العيش مع أبٍ عنيفٍ يشبه المشي على طبقة هشّة من الجليد، دون أن تعرف أبداً متى ستتشقّق وتغرقك في المياه الجليدية. يتحوّل المنزل، الذي ينبغي أن يكون ملاذاً آمناً، إلى ساحة معركة، حيث الهواء مثقل بالتّوتر. منزل تمتصّ جدرانه أصداء الأصوات المرتفعة، والصراخ والبكاء، والكلمات القاسية.

لا يمكن التّنبّؤ بالأيام. يمكن أن يتحوّل الضحك أثناء وجبة العشاء إلى ليلة مليئة بالاضطراب، حيث يرسل كلّ باب موصد موجات صادمة عبر قلبك. تتعلّم قراءة أدنى التغييرات في وجهه، ولهجته، وفكّه الصلب، كمؤشرات على عاصفة وشيكة. تحترف الديبلوماسية وفنّ المسايرة لتفادي الأسوأ وأنت لم تكمل بعد عامك العاشر. الليالي هي الأصعب، حيث تقضيها مستلقياً على السرير وآذانك صاغية، وتستمع إلى صرير ألواح الأرضيّة التي تشير إلى اقترابه. كلّ فورة غضب تحفر ندبات أعمق، ليس على الجلد فقط، بل في الروح، ما يعزّز القلق المستمر الذي يخيّم على كلّ خطوة. يتحوّل المنزل، المليء بالشظايا الحادة للوعود الكاذبة بالتغيير، إلى سجن، قضبانه مصنوعة من الخوف والصمت. ووسط هذه الفوضى، يخيط وجع القلب، الناجم عن حبّ الشخص الذي تخافه أكثر من غيره، نسيجاً معقّداً من المشاعر، معركة مستمرة بين الشوق إلى عاطفته وغريزة الهروب من غضبه.

تذكّرت يوم مزّق ملفّ دخول الجامعة الخاصّ بي، وقرّر أنني لن أدرس. تذكّرت أن الأقسى من ضرباته لي، كانت ضرباته لأمي وإخوتي. تذكّرت كيف كنت أنام لساعات بعد فورات غضبه لتعود أمي، وتوقظني بعد منتصف الليل كي أدرس، تجلس على حافة السّرير، وجهها شاحب وعيناها منتفختان، وتقول وتكرّر إن لا شيء سيخرجنا من هذا الواقع سوى دراستي.

يتحوّل المنزل، المليء بالشظايا الحادة للوعود الكاذبة بالتغيير، إلى سجن، قضبانه مصنوعة من الخوف والصمت. ووسط هذه الفوضى، يخيط وجع القلب، الناجم عن حبّ الشخص الذي تخافه أكثر من غيره، نسيجاً معقّداً من المشاعر

أرشفة العنف

عندما قرأت مذكرّات أمّي، عدت بالتفكير إلى كلّ جرائم قتل النساء في لبنان التي وقعت على مرّ السنوات الماضية، وجميع جرائم النّساء والأمّهات المقتولات، من منال عاصي، إلى رولا يعقوب وغيرهنّ الكثير. هل كتبت هؤلاء النساء كما أمي مذكراتهنّ؟ هل أرشفن عذاباتهنّ؟ هل عثر عليها أولادهن كما فعلت أنا؟ هل ستأخذ المحاكم القضائية بها؟ هل ستنشر يوماً؟ كلّها أسئلة راودتني عندما قرأت مذكّرات أمي النّاجية من العنف.

النجاة

صوت أمّي أعادني إلى أرض الواقع، إلى حقيقتي الصّلبة اليوم. بينما كنت أقلّب بين الصفحات القديمة من المذكّرات، كانت يدي ثابتة، ولم يكن هناك أيّ ارتعاش، وكان نبض قلبي هادئاً. لم أبكِ كما توجّست. خلف الباب كنت أسمعها، وقد اختلطت ضحكاتها مع ضحكات إخوتي في غرفة المعيشة، في المنزل الذي بنيناه معاً بعد أن تركْنا والدي.

أراها اليوم مليئة بالحياة، في تناقض صارخ مع الآلام الخفيّة المنسكبة عبر صفحات المذكّرات. ما زوّدني بإحساس عميق بالسلام، ومنذ ذلك الوقت وأنا أردّد بيني وبين نفسي: "لقد نجونا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image