لا تزال أفكار المؤامرات تحيط بنا من كل مكان، بداية من كتاب "حكماء بروتوكولات صهيون" الذي يدّعي أنه يفضح مؤامرة يهودية عالمية، مروراً بادّعاء وجود مؤامرة دبّرها اليهود أو الحكومة الأمريكية لاتهام المسلمين ظلماً في هجمات 11 سبتمبر، وصولاً إلى الأحاديث عن أن ثورات الربيع العربي هدفها تفكيك الدول العربية، وأن لقاح الكورونا سيجعل عقولنا تحت السيطرة، ودون نسيان المؤامرات التحكيمية ضد فريقنا المفضل في مباريات كرة القدم.
لا يقتصر انتشار نظريات المؤامرة على الشعوب العربية والإسلامية، ففي أمريكا هناك ملايين يؤمنون بمؤامرة الحكومة لإخفاء ظهور كائنات فضائية، أو بوجود خطة مخابراتية سرية لاغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، أو بالتخلص من مارلين مونرو، وفي فرنسا هناك مَن يعتقدون بوجود مؤامرة سرية لجعل المواطنين المسلمين الأغلبية السكانية في المستقبل حتى يتمكنوا من السيطرة على فرنسا.
نظريات المؤامرة ليست فكرة حديثة أو وليدة القرن العشرين. يخبرنا كتاب "عقول متشككة" لروبرت براذرتون (صدرت ترجمة عربية له عن دار هنداوي)، أن فكرة المؤامرة ارتبطت بداية بظهور اللقاح في القرن الثامن عشر.
مع اكتشاف الفلاح الإنكليزي إدوارد جينر أن البشر المصابين بجدري الأبقار يمتلكون مناعة ضد مرض الجدري، ظهر اللقاح المشتق اسمه بالإنكليزية من الكلمة اللاتينية Vacca والتي تعني "البقر"، ونجح في خفض وفيات الجدري في بريطانيا إلى النصف. ولكن مع إقرار البرلمان البريطاني قوانين اللقاح الإجباري، بدأت حركات معارضة اللقاح بدعوى أنه يحمل سم الأفاعي وإفرازات الخفافيش، وأنه يؤدي إلى نمو قرون لدى البشر وسيجعل مَن يتناولونه يمشون على أربع ويخورون كالأبقار.
وفي مجال السياسة، كانت نظريات المؤامرة حاضرة منذ القِدم، بادعاء قصص كاذبة عن نيرون الذي أحرق روما وجلس يغني على قيثارته، أو بالحديث عن جماعة "المتنورون" السرية التي دبرت قيام الثورة الفرنسية. وفي التاريخ الإسلامي، تحضر شخصية عبد الله بن أبي بن سلول، المتهم بأنه السبب في وجود المنافقين وحادثة الإفك والحرب بين المسلمين واليهود...
ولا يمكن أن نعتبر المؤمنين بنظريات المؤامرة مجموعة من المصابين بالبارانويا (جنون الاضطهاد) في مقابل آخرين عاقلين يتسمون بالإدراك الكامل. فالاعتقاد بوجود شيء خفي خلف ما يبدو أمامك هو اعتقاد بشري طبيعي، بل ربما يكون موروثاً قديماً. فالإنسان الأول الذي كان يفترض وجود ثعبان خلف الصخرة، عاش واستمر بسبب حذره، بينما مَن لم يكن على حذر مات سريعاً ولم ينقل موروثه المطمئن لمَن أتوا بعده. بشكل أو بآخر، كلنا لدينا استعداد للتشكك في ما يبدو ظاهراً أمامنا ولكن بنسب مختلفة.
لماذا نصدق نظريات المؤامرة؟
ربما يبدو السؤال عن سبب تصديق الكثيرين لنظريات المؤامرة بسيطاً، ولكن إجابته مدهشة في تنوعها وشمولها لجوانب عدّة من العمليات العقلية والنفسية للبشر.
أحد هذه الأسباب هو اعتقادنا بأننا نمتلك المعلومات الكافية لتفسير الأشياء على الرغم من أننا لا نعرفها فعلاً، فكثيرون ممَّن تبنّوا نظريات تفجير برجي مركز التجارة يعتقدون أنهم على معرفة بقواعد البناء والإنشاءات، حتى لو كانوا على قدر بسيط من المعرفة الهندسية العلمية، مثلما يعتقد الكثيرون أنهم يعرفون كيف تعمل الدراجة، ولكن في تجربة عملية عندما سُئل الكثيرون عن الجزء الناقص في رسم لدراجة غير مكتملة، لم يستطيعوا معرفته أو معرفة كيفية وضعه بالشكل الصحيح.
في الوقت نفسه، كثيرون ممن رفضوا نظرية وجود مؤامرة وراء انتشار وباء كورونا، لم يعرفوا الكثير عن وباء الإنفلونزا الإسبانية وأوبئة الكوليرا والجدري في القرون السابقة، ولا عن طبيعة الفيروسات وتطورها، ولا عن كيفية عمل المختبرات وكيفية عزلها. هم فقط يقومون باستنتاجات بناء على اعتقادهم بأنهم يعرفون.
بشكل أو بآخر، كلنا لدينا استعداد للتشكك في ما يبدو ظاهراً أمامنا ولكن بنسب مختلفة
أما السبب الثاني، فهو الرغبة الإنسانية في لعب دور المستضعف أو المستهدف، وبالتالي الحصول على تعاطف الآخرين. فالغالبية تتعاطف مع البطل المستضعف في الفيلم السينمائي، ومع الفريق المهزوم في المباريات الرياضية... والأمثلة كثيرة من الموظف الذي يشعر باضطهاد مديره أو زملائه، وصولاً إلى شعوب الدول النامية المعتقدة في تآمر أمريكا وأوروبا ضدها، والمتدينين المعتقدين بوجود حرب مدبرة على دينهم، أو الأفراد المقتنعين بحكومة خفية تسعى للسيطرة عليهم عن طريق اللقاحات أو زرع شرائح إلكترونية داخل أدمغتهم.
كذلك، يساعد الميل إلى تجميع أجزاء متباعدة في بناء هيكل للمؤامرات. فباقتطاع تصريح من هنا ومقطع فيديو من هناك، وإضافة معلومة أو تفسير غير منطقي، يمكن تكوين نظرية تبدو متماسكة عن مؤامرة.
ويميل العقل البشري كثيراً إلى عدم الربط بين السبب والنتيجة. فعلى الرغم من معرفتنا بأن ضغط زر المصعد أكثر من مرة لن يسرع بمجيئه، إلا أننا لا نتوقف عن الضغط المتكرر معتقدين أن ذلك هو ما أتى به. كذلك يضرب بعض المدخنين المثل بجدهم المدخن الذي مات بعمر التسعين عاماً لإقناع أنفسهم بأنهم لن يموتوا من التدخين، على الرغم من وجود دراسات علمية تؤكد العلاقة بين التدخين والإصابة بالأمراض السرطانية وأمراض أخرى.
لا شيء يحدث مصادفة في هذا الكون
يميل الأطفال في سن الرابعة والخامسة إلى الخلط بين الأفعال الإرادية وغير الارادية والمصادفات، فيمنحون الإرادة لكل شيء. يظنّون أن الإنسان يعطس لأنه يريد ذلك، والشمس تشرق لأنها تريد أن تمنحنا الدفء، وعندما ينظرون إلى القمر وهم يتحركون يعتقجون أن القمر هو مَن يريد متابعتهم، ويظل هذا التفكير كامناً لدينا بعد النضوج ويظهر في بعض الأوقات عند الغضب أو السُكر، كمَن يتحدث مع سيارته أو هاتفه المحمول ككائن عاقل له إرادة ويطلب منه أن يعمل أو يتوقف عن إزعاجه، أو كالمعلق الرياضي الذي يقول إن العارضة منعت دخول هدف مؤكد...
قد نعتقد أن ظهور دليل حاسم هو شيء كافٍ لدحض التشكيك المؤامراتي، ولكن التجربة تثبت غير ذلك
مع هذا التفكير الذي يسهل على الشخص الاقتناع بوجود فعل إرادي خلف كل شيء ورفض فكرة وجود مصادفات وأحداث عبثية أو لا إرادة لنا فيها، وعدم الاقتناع بأن حدثاً صغيراً يمكن أن يكون السبب في تغيّرات كبرى، وهو ما يسمى بمبدأ "التوافق في الجسامة"، يصبح من الصعب الاقتناع بأن صفعة من شرطية لبائع يمكن أن تشعل ثورات في المنطقة العربية، أو أن حجاب فتاة يمكن أن يكون السبب في تظاهرات إيران، إذ يظن كثيرون أنه لا بد من وجود إرادة كبرى خلف هذه الأحداث وهي مَن يدبّر "المؤامرات".
وكثيراً ما يستخدم نظرية المؤامرة مَن هم على استعداد لعمل مؤامرة، في عملية إسقاط على الخصوم، كما فعل هتلر الذي اتهم اليهود بالتآمر عليه وعلى ألمانيا، بينما كان هو مَن يخطط للقضاء عليهم وعلى كل خصومه السياسيين في ألمانيا، أو كما نشاهد في مصر بين أنصار النظام الحاكم وخصومه من الإسلاميين، فهم يتبادلون الاتهامات بأن الخصم من مؤامرة أمريكية صهيونية ماسونية.
قد نعتقد أن ظهور دليل حاسم هو شيء كافٍ لدحض التشكيك المؤامراتي، ولكن التجربة تثبت غير ذلك. فمع انتشار شائعات عن كون باراك أوباما غير أمريكي وأنه لم يولد على أرض أمريكا، ووصول نسبة مَن لديهم شكوك في الأمرإلى 45% من الأمريكيين، نشر الرئيس الأمريكي السابق شهادة ميلاده فتراجعت النسبة إلى 33%، ولكن بعد عدة شهور عادت إلى 41%، أي إلى نسبة قريبة لما كانت عليه، وذلك بعد موجة جديدة من التشكيك في الوثيقة الرسمية.
يشبه ذلك ما شاهدناه بعد ثورة 25 يناير في مصر من وصف الملحن عمرو مصطفى لفيديوهات دهس المتظاهرين بأنها فوتوشوب، أو عندما ينكر مشجع الفريق اصطدام الكرة بيد المدافع الواضح على الشاشة حتى لا تُحتسب ضربة جزاء ضد فريقه.
نظريات المؤامرة تعتمد على ما نمارسه جميعاً وهو "التحيز التأكيدي"، والذي يعني بحثنا عن معلومات تؤكد صحة وجهة نظرنا، وهو شيء طبيعي إلى حد كبير، ولكن لا بد لكل إنسان من بعض التشكك في قناعاته، فقد يكون ما يؤمن به غير صحيح كما يعتقد وعليه أن يبحث عن الحقيقة لا عن إثبات صحة وجهة نظره مهما كانت.
يحلل كتاب "عقول متشككة" أفكار أصحاب نظرية المؤامرة بدلاً من السخرية منهم أو اعتبارهم مجموعة من غريبي الأطوار... وأول خطوات التعامل مع أي ظاهرة هو فهمها وتحليلها بشكل علمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...