شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هذه المقالة لا تؤمن بنظرية المؤامرة، بل بالمؤامرة ذاتها

هذه المقالة لا تؤمن بنظرية المؤامرة، بل بالمؤامرة ذاتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 19 فبراير 202002:52 م

تحتوي هذه المادة على سرد للعديد من الأحداث من فيلم الجوكر قد تحرق التشويق فيه، لذا وجب التنويه والتوصية بحفظ المادة لقراءتها بعد مشاهدة الفيلم، حيث يمكن تفسير خيبات الأمل التي قد يشعر فيها المشاهد للفيلم وتضارب المشاعر الحاصل مع نهايته!

الجوكر.. مؤامرة أم نظرية؟

منحت الأكاديمية جائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل للعام 2020 للنجم يواكيم فينيكس، فهل منحتها للجوكر كجائزة ترضية، اعترافاً منها بعبثية عدم اتخاذ قرارات شجاعة في هذه الحياة؟ أم أن هذا التكريم جاء ليثني على الدور الهائل الذي لعبه الجوكر في عملية خلط الأوراق الدائمة التي تمارسها سينما الثورة-الفوضى، حيث أي فعل معارض أو ثائر ناتج عن اضطراب نفسي؟ وعلى الرغم من أن خطاب فينيكس لتسلم الجائزة، وقبله الخطاب الناري الذي حمل الكثير من النقد الذاتي الناقم على الرجل الأبيض، في حفل جوائز الأكاديمية البريطانية للفيلم BAFTA، ينطق بروح الجوكر على أرض الواقع، وينضح بالكثير من المعارضة للسائد، لكن يبقى السؤال الأهم: من يا ترى الأقوى والأكثر تأثيراً: "الجوكر" الذي فاقت إيراداته المليار دولار أم حامل الفيروس الذي مثل دوره؟!

من المفيد القول إن هذه المقالة لا تؤمن بنظرية المؤامرة، بل بالمؤامرة ذاتها! لكنها ليست تلك المؤامرة التي يسوّق لها على أنها خلف كل زاوية، وتحت أي حجر يرمى في البحيرة، لتتوسع دوائر التأثير على السطح بشكل ارتدادي، ويختفي الحجر في عمق البحيرة، ويبقى من الموضوع سؤال: من كان وراء تلك الرمية؟ لينشغل الجميع به وينسون البحيرة ومآلات ضفافها.

من غرق ومن يمكن أن يغرق؟ والأهم، من تمكن من الهرب أولاً؟! الغوص في نوعية السؤال-الوهم الذي يمكن تحريف مساراته والتلاعب بها لكسب الوقت، هو ببساطة ما يريده محركو المؤامرة إن وجدوا، وفي حال عدم وجودهم فهم إذن أولئك المستفيدون من تداعيات الأحداث اللاحقة لبداية الغوص في الرمال المتحركة لهذه المؤامرة-النظرية، وكل ذلك لخدمة الإله الجديد-القديم، السر، المتحكم، القادر، العارف والذي لا يتوانى عن التهام أبنائه البررة من أذكياء القوم كل يوم، ليصنع منهم عرّافين جدد فوق سفينة نوح الحياة التي لم ترسُ بعد كما يبدو: إنه النظام العالمي (السيستم).

بضحكة مَرَضيَة يفتتح يواكيم فينيكس فيلم الجوكر، وبأداء رفيع واحترافي يتنقل عبر البناء الدرامي لشخصية تسحر المشاهد، ليحبس أنفاسه عند بعض المفترقات في السيناريو المحبوك بشكل متقن، بينما تحدّ القطعات المتكررة وتبديل الزوايا أثناء التصوير، من انسيابية الأداء وغوصنا فيه كمشاهدين، في الوقت الذي تملأ فيه الموسيقى بشكل أخاذ هذا الفراغ.

يقوم فيلم الجوكر على نفس النظرية التي تضع الثائر دوماً في موقع المشكوك بسلامته العقلية، فعندما يقوم آرثر بسحب ملف والدته بالقوة من موظف الأرشيف الإداري "الطيب" ويقرأ ما فيه، تبقى قصته العائلية معلقة في قعر الذهن من دون تفسير واضح لاحقاً في سياق الحكاية، فإن صح ما كُتِب في الملف، إذن هو مجرد شخص مختل تعرض للعنف في صغره من أم متوهمة، وما زاد من ألمه وتأثره هو رعايته لها على مدى ثلاثين عاماً. أما إن كان ما ورد في ملف المشفى ملفقاً، وقد أعطيت الأم عقاراً ما، أو تم التأثير عليها تحت الضغط النفسي بسبب ربطها لابنها بالغني وصاحب النفوذ روبرت وين، فذلك فقط يكرس في الأذهان، مرة أخرى، مدى قوة "السيستم"، ويبقي على نفس التصورات الانهزامية في عقل المتلقي، بأن لا حل هنا ولا مهرب من قدرات الأغنياء وقوة تأثيرهم.

بضحكة مَرَضيَة يفتتح يواكيم فينيكس فيلم الجوكر، وبأداء رفيع واحترافي يتنقل عبر البناء الدرامي لشخصية تسحر المشاهد، ليحبس أنفاسه عند بعض المفترقات في السيناريو المحبوك بشكل متقن... هنا تحليل لا يؤمن بنظرية المؤامرة، بل بالمؤامرة ذاتها

وبهذا، فأنت إما عاجز أمام سطوة المنظومة وتشعبها وارتباطاتها، لا حول لك ولا قوة، وممن يتوارثون الهزيمة جيلاً بعد آخر بسبب انتمائك الطبقي، وفي أحسن الأحوال، أنت لم تصل بعد إلى ذاك الصدع لتدخل منه نحو عالم الربح بكونك حلقة في سلسلة البيع وحركة المال، أو أنك مختل ومعاق ذهنياً تم التغرير بك، أوتعرضت لتعنيف ومعاملة سيئة في صغرك، وهذا ما انعكس لاحقاً على وضعك الاجتماعي وخياراتك في العمل، وهو سبب فقرك وتعاستك.

أنت لست ذكياً بما فيه الكفاية بالنسبة لسوق العمل، أنت عدو لنفسك وبالتالي عدو للمجتمع ومتسبب بالفوضى، والتي ستتنتهي مهما كلف الأمر، وأنت ستتنتهي بدورك في مشفى للأمراض العقلية أو السجن، وبالتالي كل المقدمات التي تم عرضها عن الفقر والإرهاق في المدينة الذي قد يكون هو الأمر المحق الذي حرك الناس، يتم التغطية عليه بقصة بطل الحدث، القاتل بدم بارد على الهواء، لنجم عزيز ينقل البسمة لقلوب الناس الآمنين غير المخربين، والذين يجلسون في بيوتهم بسلام ليشاهدوا التلفاز، ويقومون بواجباتهم الطبيعية بالعمل والذهاب إلى السينما لتقضية وقت ممتع كعائلة مثالية، كما نرى أكثر من مرة خلال الفيلم، ويتم تعزيز هذه الصورة في المشهد الأخيرة للعنف في المدينة، عندما يهرب الناس النظيفون الأنيقون من عنف الغوغاء والرعاع في الشارع، ليتم تكريس هذا التقديم بشكل أكثر قسوة، عبر قتل وين في الشارع الخلفي مع زوجته، وأمام طفله، باتمان المستقبل ومنقذ غوثام، كل ذلك، بعد أن قام الجوكر بقتل المقدم التلفزيوني المشهور. وهنا تأتي المفارقة بالاختيار غير البريء أبداً للممثل الذي أدى دور هذا المقدم، أي روبرت دنيرو، العالق في الأذهان غالباً بدور الرجل النظيف، المتمرد شاباً وجالب الضحكة للقلوب كهلاً، بحيث يتلقى المشاهد "الفعل الوحشي" العاري للجوكر على الهواء مباشرة كطلق في رأسه.

يبقى الكثير ليقال في القراءة السينمائية الصرفة للفيلم، غير أن ما وراء الأكمة هو في السيناريو وطريقة عرض الأحداث، حيث يكمن الشيطان في تفاصيل هذه النوعية من الأفلام، وغيرها الكثير، لاسيما على مدى العشرين سنة الأخيرة، في إطار التغيرات الهائلة التي حصلت مع الثورة التكنولوجية والإنترنت، من تقارب للعالم وانكشاف أطرافه وناسه على بعضهم البعض، فكان لابد من الانتقال أيضاً بالماكينة الإعلامية التي تقود العالم، وخاصة الهوليودية السينمائية منها، إلى مرحلة جديدة. أي من التغطية على الأسرار وتمويهها، إلى فضحها وفضح الطبقة السياسية الاقتصادية الحاكمة والمتحكمة بها، ولكن للخروج دوماً بنتيجة تكرس العجز الجماهيري وضعف الأفراد في مواجهة هذا الغول الذي يقود العالم إلى هلاكه، لتبقي على مساحة من الأمل، تشي بإمكانية القفز إلى واحدة من السفن الهائلة التي ستبقى عائمة حال حصول الطوفان الجديد، إن اختار الفرد الخيارات الصحيحة حسب المنظومة، كما نرى بوضوح في فيلم "2012".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard