"لن أعود لزيارة أي ضريح، لا خير بمكان تهان فيه كرامة المرأة"، بهذه الجملة عبّرت الطالبة البغدادية همسة عامر (23 عاماً) عن حنقها من تجربة زيارة العتبات الدينية.
تقول لرصيف22: "كانت زميلتي في الجامعة من محافظة كربلاء، تطلب مني بشكل مُلح على مدى عامين أن أزورها في محافظتها، بعد أن نشأت علاقة عائلية مذ استقبال عائلتي لها والاعتناء بها خلال فترة إقامتها الدراسية في بغداد، لذا لبّينا دعوتها في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وذهبنا إلى كربلاء".
وتلفت النظر إلى أن أحد الطقوس المتعارف عليها في العراق؛ أخذُ الضيوف في جولة سياحية للتعرف على معالم المدينة، ونظراً لأن كربلاء تعد من المحافظات ذات الطابع الديني وفيها الكثير من المراقد المقدسة التي يزورها الناس، كان لا بد من زيارة أحد هذه الأماكن بطبيعة الحال.
انبهار... في البداية
تصف همسة انطباعها الأول في زيارتها الأولى لضريح الإمام الحسين ابن الإمام علي الخليفة الرابع، بقولها: "انبهرت بعظمة المكان، وبالقبة الذهبية التي ترتفع فوقها سارية ومئذنتان ذهبيتان، وبالطريق الطويل المشيد بالنخيل والذي ينتهي بقبة أبو الفضل العباس، هو شعور غريب من إبداع المكان وإتقان الحرف النادرة".
لكن هذا الشعور لن يلبث أن يزول مع الوصول للحاجز الأمني، تقول: "وهذه الحواجز طبيعية، فقد اعتادها العراقيون في الجامعات والأماكن العامة لتفتيش الحقائب بسبب الأوضاع الأمنية. وهي حواجز حديدية مقسمة، وطوابير من النساء، وكلما كثر عددهن صاحت إحداهن بالصلوات والهتافات".
ودهشة من التفتيش
تقول همسة: "قبل أن يصل لي دور التفتيش، شاهدت فتاة مُنعت من الدخول إلى الضريح لأنها لم تكن ترتدي عباءة الرأس، وهي عباءة سوداء اللون تغطي جميع أنحاء الجسم، تشتهر بلبسها النساء في محافظات النجف وكربلاء. ورغم أن ملابس الفتاة كانت محتشمة، وكانت ترتدي الحجاب، منعتها المفتشة من الدخول وزجرتها بلهجتها (اطلعي منين ما إجيتي لو تموتين ما تدخلين دون عباة الراس) متجاهلة توسلاتها".
زائرة: "ما إن انتهت المفتشة من حقيبتي حتى بدأَت بتدقيق بشرتي، ثم طرحت سؤالاً غريباً عن كون بشرتي لامعة، وعما إذا كنت أضع مساحيق تجميل، قبل أن تحضر مناديل مبللة وتحاول أن تمسح وجهي، وحين منعتها طردتني"
تقول إنها شكرت الحظ لأنها استعارت عباءة الرأس من زميلتها، لكن حين وصل دورها في التفتيش، قالت لها الموظفة بصوت مستفز: "افتحي جنطتش ليش صافنه بوجهي"، وبعد أن فتحت السحاب الأول سحبت الحقيبة من يد همسة وبدأت تحقق في أغراضها الشخصية، وتلقي بمعطر الفم وطلاء الأظافر وما لا يعجبها من محتويات الحقيبة.
تقول: "ما إن انتهت من جولة الأسئلة والتحقيقات الشخصية، حتى بدأت بتدقيق بشرتي وفحص ملامحي، ثم ابتعدت قليلاً لتلقي نظرة استطلاعيه أخيرة، ولترفع حاجبها وتقترب مني وتطرح سؤالاً غريباً عن كون بشرتي لامعة، وعما إذا كنتُ أضع مساحيق تجميل، قبل أن تنادي زميلتها لتحضر مناديل مبللة وتحاول أن تمسح وجهي بها، وحين منعتها من ذلك، طردتني".
السياحة الدينية ليست "سياحية"
يقول الباحث الأثري والمرشد السياحي عامر عبد الرزاق لرصيف22: "السياحة الدينية ذات أهمية اقتصادية كبرى في العراق، من حيث المشاركة في الناتج المحلي الإجمالي، فأحد أهم عناصر نجاح سياسة أي دولة هو الاهتمام بجانبها السياحي واختيار القائمين وأصحاب القرار بتمعن، إذ يجب أن يتمتع هؤلاء بأساليب تراعي التنوع الثقافي وسلوكيات عالية المستوى".
لكن، هل يستطيع العراق اليوم وبكل ما لديه من مراكز دينية مهمة أن يستقطب السياح والسائحات تحديداً، لاستراجاع مكانته كبلد عريق، ويزخر بالسياحة الدينية؟
يصف عبد الرزاق القائمات على تفتيش النساء في "المراقد الدينية" بالقول: "غالبيتهن للأسف لا يتمتعن بالثقافة اللازمة لاستقبال الزائرات، وأساليبهن جافة"، مشيراً إلى أنه شهد الكثير من الشكاوى بحق الموظفات/ المفتشات في القواطع الأمنية.
يضيف: "يتدخلن في قضايا شخصية مثل التزين وغيره، كثير من النساء بطبيعتهن جميلات ولا يضعن مساحيق التجميل، لكننا نجد الموظفة مصرّة على وجود المساحيق حتى يصل بها الأمر لأن تدعك(تمسح) وجه السائحة بالقوة، البعض منهن يقبلن تصرفها، لأن معظم السائحات يقصدن هذه المرافق من أماكن بعيدة". متسائلاً إن كانت هناك لائحة قوانين، تكون مرجعية تطبق بأسلوب متناسب مع هذه الأماكن. وإلى وجود حاجة ماسة لتدريب الموظفات على أساليب الاستقبال، ولضرورة المحاسبة اللاحقة.
تقول مديرة إحدى المنظمات في النجف إنه كلما جاء تصرف الموظفة أكثر تشدداً مع السائحات، كسبت رضا المسؤولين عنها، ورفعة بين زميلاتها على اعتبارها تدافع عن معايير الشرف والعفة
تقول مديرة إحدى المنظمات التنموية في "النجف الأشرف" والتي فضلت عدم ذكر اسمها: "أصحاب القرار في العتبة العلوية في النجف أو في مسجد الكوفة على معرفة بما يدور في قواطع تفتيش النساء، لوجود كاميرات مراقبة، ويكافئون كل من كان أسلوبها حاداً مع الزائرات، وكلما جاء تصرف الموظفة أكثر تشدداً، كسبت رضا المسؤولين عنها أولاً، ورفعة بين زميلاتها ثانياً، على اعتبارها تدافع عن معايير الشرف والعفة في اللباس".
وتؤكد في حديثها لرصيف22 أن منظمتها رصدت شكاوى من الكثيرات، حتى إن إحدى السيدات بلغت أن المفتشة لمست مناطقها الخاصة بحجة أن الزائرة تخبئ فيها مواداً ممنوعة.
تقول: "بعد ورود العديد من الشكاوى لمنظمتي وللكثير من المنظمات المهتمة بتطوير المرأة، قدمنا أكثر من طلب إلى العتبة العلوية في النجف لبرامج تدريب الموظفات مجاناً، إلا أن مطالباتنا ذهبت سدى، وهذا خير دليل على أن العتبات ترغب بالحفاظ على أسلوبها والإبقاء على التعامل الهمجي مع النساء، ولا نية لديهم في التغيير".
"العتبات"... نفوذ فوق القانون
لا توجد مادة قانونية في الدستور العراقي تمنع أي شخص من الدخول الى المواقع الدينية سواء "الأضرحة" أو "المراقد" بحسب الخبيرة القانونية زينب التي فضلت عدم ذكر كنيتها، تقول: "العتبات في الوقت الحالي هي السلطة الأعلى، والمساس بها هو فتح جبهة حرب لا تغلق، ولا أحد يستطيع انتقاد تصرفاتهن في العلن".
نرى في كل مرقد صوراً معلقة قريبة من موقع الضريح، فيها رسوم مضمونها حجاب المرأة الشريفة، وحجاب المرأة من أهل النار، ونسمع هتافات تحريضية للرجال مضمونها أن من تخرج المرأة من داره وهي تضع العطر فهو "ديوث"
وتقارن بين التعامل الذي يحظى به الرجال في العتبات، تقول: "التفرقة واضحة في التعامل، ففي طابور الرجال لا يوجد هذا التعصب، ومنهم من يضع العطر، أو لديه وشم واضح، وليس هناك إلزام بألوان ملابس محددة، والتفتيش يكون أمنياً في الأساس. أما في طابور النساء، فهناك شرط العباءة السوداء، ومن لا تمتلكها تُمنع من الدخول، كما نرى في كل مرقد صوراً معلقة قريبة من موقع الضريح، فيها رسوم مضمونها حجاب المرأة الشريفة وحجاب المرأة من أهل النار، وهتافات تحريضية للرجال مضمونها أن من تخرج إمرأة من داره وهي تضع العطر فهو (ديوث)".
وتختم: "العتبات يمثلون بقوتهم دولة خاصة بهم، ولديهم ميزانيتهم الخاصة، ومشاريعهم وتعليماتهم وتوجيهاتهم، ومن تحاول تقديم شكوى ضدهم توصم بأنها تشجع على الفسق والفجور، أو تحاول المساس بمكان مقدس، لكن حتى هذه اللائحة من القوانين العنصرية تُطبق بتفرقة، فبعض المنتسبين للعتبات يحملون "بطاقات تعريفية" تسمح لمعارفهم من النساء باجتياز الحاجز الأمني دون تفتيش أو محاسبة على العطر والمكياج".
لا نأخذ ضيفاتنا خوفاً من الحرج
تقول نائبة رئيس رابطة المرأة العراقية سهيلة الأعسم لرصيف22: "نتردد في زيارة الأماكن الدينية حين نصطحب معنا ضيفات من الخارج، وقبل الوصول إلى الحاجز الأمني أتمنى ألا تضعنا موظفات التفتيش في موقف مخجل مع ضيفاتنا، فتارة يتذرعن بأن الجوارب خفيفة وغير مناسبة للزيارة ، أو يتعمدن العبث بالحقيبة الشخصية بأسلوب الصياح، وكثرة السؤال والتدقيق عما فيها، ناهيك عن التصرفات غير اللائقة، إذ يضعن مكباً للنفايات ويخيرن الزائرة إما أن ترمي العطور والمكياج في المكب او أن تُحرم من دخول الضريح".
إحدى الشكاوى التي قدمتها الزائرات، كانت من امرأة بلّغت أن المفتشة لمست مناطقها الخاصة بحجة أنها تخبئ فيها مواداً ممنوعة.
وتضيف أنها تواجه ما تواجهه من التزمت برغم أخذها كل الاحتياطات، تقول: "أنا غير محجبة، بل مواكبة للموضة، ولكنني ألبس لكل مقام لباسه، فمن غير المنطقي أن أذهب لزيارة ضريح وأنا أضع مساحيق التجميل، وهذا ليس حالي وحدي بل حال كل النساء".
الموعظة الحسنة؟
هبة وهي أم لفتاة في العشرين، تصف زياراتها للكاظمية والنجف وكربلاء بالـ"مشينة"، تقول لرصيف22: "في الضريح تمسك الموظفات بمنفضة التراب ويضربن النساء على رؤوسهن عند اقترابهن من شباك الضريح".
وتضيف: "في إحدى الزيارات كانت ابنتي بصحبتي، وكانت ترتدي كفين لونهما أسود، فطلبت موظفة التفتيش منها خلعهما، فوجدت طلاء الأظافر الأكريليك، حينها سألت ابنتي إذا كانت في العشرين؟ فأجبتها أنا بنعم، وأنا والدتها هل من أمر ما؟ لتأخذني جانباً وتبدأ بإرشادي وتعليمي كيف أربي ابنتي على الحشمة والموعظة، وما هو رأي السيستاني في الأصباغ والرموش، وأن التبرج رجس من عمل الشيطان وتشجيع منه، وأهدت إلينا كتيباً صغيراً يشرح عذاب جهنم للمتبرجة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 19 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...