شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ضواحي بيروت الجنوبية... كيف صارت وحدها هي

ضواحي بيروت الجنوبية... كيف صارت وحدها هي "الضاحية"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 9 فبراير 202209:27 ص

في اللغة، الضاحية هي الناحية الظاهرة خارج البلد، وتُطلق أيضاً على المنطقة التي لا شجر فيها، وهي تدل أيضاً على ما بُني خارج السور، يوم كان للمدن أسوارٌ، واستعملت عبارة "قريش الضواحي" قديماً للإشارة إلى العرب الذين نزلوا وسكنوا في محيط مكة، أي حاضرة قريش.

لا تدلّ الضاحية بالضرورة على منطقة فقيرة، فبعض ضواحي المدن الكبيرة تصمَّم خصيصاً ليسكن فيها الأغنياء الذين يرغبون في العيش بعيداً عن زحمة المدن، في مناطق تلبّي رفاهيتهم. لكن الغالب على الضواحي أنها خرجت من سيطرة المدن فعمّت فيها الفوضى وانتشر البؤس والحياة العشوائية والخروج عن القانون.

في لبنان، يشير لفظ "الضاحية" في الوعي الجماعي إلى ضواحي بيروت الجنوبية، فرغم وجود ضواحٍ شرقية وشمالية للمدينة، إلا أن هذه المناطق تُسمّى بأسمائها بدون وصف عام. وحدها المنطقة الممتدة من الغبيري إلى الشويفات مروراً بساحل الأوزاعي، والتي كانت تُعرف سابقاً بساحل المتن الجنوبي، هي التي اختصرت مفهوم "الضاحية".

فكيف صارت وحدها هي "الضاحية"؟ وما الذي ميّزها كي تستأثر بهذا التعبير؟ وهل هي المكان الذي بات يدل على الفقر والبؤس والحرمان؟ أم أن التحولات سارت بها لتأخذ أشكالاً أخرى من العيش؟

ولادة "الضاحية"

"كانت الضاحية، المؤلفة من الشياح، الغبيري، حارة حريك، وبرج البراجنة مع حيها الفوقاني المريجة، سهلاً فسيحاً أخضر يقع بين صنوبر بيروت ونهر الغدير المار في صحراء الزيتون. أما بيوتها فكانت قليلة، متفرقة وموزعة بين البساتين وأشجار النخيل الباسقة ورباعات الصبير". هذا الوصف الوارد في كتاب محمد كزما، "الضاحية الجنوبية أيام زمان"، تسمعه أيضاً من كبار السن الذين عاصروا تحولات المنطقة التي كانت سهلاً زراعياً فسيحاً، تحفل أراضيه بشتى أنواع المزروعات، "فالضاحية الجنوبية كانت مشجّرة بشكل كثيف ومدهش وفاتن ومفيد".

وصل الشيعة إلى ضواحي بيروت الجنوبية منذ وقت طويل، "فقد جاؤوا إلى هذا السهل الزراعي الفسيح منذ مئات السنين"، يقول كزما، و"في عهد الأمراء المعنيين جاءت بعض العائلات المسيحية، وسكنت في أطراف الضاحية، ثم ازداد عددها في عهد الأمراء الشهابيين وبنت بيوتاً صغيرة لها بين البساتين في المريجة والشياح".

"كان مجيء السكان وخاصة من الشيعة إلى المنطقة لأسباب قاهرة ومختلفة"، فبعضهم للبحث عن عمل والبعض الآخر هرباً من الاضطهاد العثماني والبعض بسبب صعوبة العيش في مناطقهم. في الساحل الهادئ والواسع، وجدوا ملاذهم ومسكنهم.

وأتت العائلات الشيعية من مختلف المناطق، كما وثّق كزما. قدم من البقاع آل صبرا وناصر والخنسا وعواد، وسكنوا في الشياح والغبيري، وقدم من الجنوب آل الخليل ورضا والسبع، واختاروا الشياح وبرج البراجنة مسكناً لهم، وجاء آل المقداد من قرى جبيل قبل الحرب العالمية الأولى وسكنوا في برج البراجنة والشياح وحارة حريك. وبعض العائلات جاءت من مصر مع حملة إبراهيم باشا العسكرية، كآل العنان مثلاً الذين سكنوا في برج البراجنة.

في بداية الأمر، كان السكان يعيشون في وئام وتفاهم على مختلف انتماءاتهم، و"كان أول انقسام بينهم قد حصل بعد الخضات الطائفية كحوادث 1840 و1860 التي ألقت بظلالها على أهل المنطقة. رغم أن التقاتل الطائفي في الجبل لم يمتد إلى الساحل الجنوبي لبيروت، فإنه أيقظ الروح الطائفية بين الأهالي، ورويداً رويداً، انقسمت المناطق بين الطوائف، فسكن الشيعة في برج البراجنة فيما اختار المسيحيون السكن في المريجة"، يروي كزما.

بعد تأسيس لبنان، وخاصةً بعد احتلال فلسطين عام 1948، شهدت "الضاحية" موجة جديدة من النزوح إليها. يروي سمير قصير في كتابه "تاريخ بيروت" أن بيروت بدأت بعد إعلان دولة لبنان الكبير، عام 1920، "تأخذ أهميتها كعاصمة للدولة وكمدينة تركزت فيها معظم النشاطات التجارية والخدماتية"، وباتت مقصداً للكثيرين من السكان الباحثين عن فرص أفضل للحياة، وخاصة من سكان الأطراف، فوجدوا مكاناً لهم في قلب العاصمة حيث "عمل معظمهم في المرفأ الذي ازدهر في تلك الفترة، وخاصة بعد احتلال فلسطين وخروج المرافئ الفلسطينية من يد العرب".

فضّل هؤلاء القادمون، ومعظمهم من الشيعة، السكن بالقرب من مكان عملهم، وبدأت التجمعات تتشكل في مناطق مثل الخندق الغميق وزقاق البلاط، والنبعة حيث كان مقر "شركة الريجي" (إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية) أيضاً. ولكن بعضهم لم يجد مكاناً في بيروت فسكن في مناطق الضواحي الجنوبية، وشيئاً فشيئاً، بدأت المنطقة تتوسع سكنياً وعمرانياً، إلا أنها حافظت على طابعها الريفي-الزراعي.

بدأت "الضاحية" تأخذ شكلاً ديموغرافياً آخر، مع بدايات الحرب الأهلية اللبنانية وحملات التهجير الطائفي، تمثل بتهجير وبنزوح السكان المسيحيين، مقابل تهجير سكان النبعة من الشيعة، الذين وجدوا ملاذهم وملجأهم في مناطق "الضاحية".

وشكل العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 1978 تحولاً في هذه الهجرة، إذ ازدادت أعداد سكان "الضاحية" بشكل متسارع، وساهمت عوامل كثيرة في ذلك، منها زحمة العاصمة وغلاء المعيشة فيها. محطات كثيرة أخرى عنوانها الاعتداءات الإسرائيلية أو فقر الأطراف اللبنانية تضافرت حتى أصبحت "الضاحية" مع انتهاء الحرب الأهلية في أوائل التسعينيات منطقة ذات كثافة سكانية وذات أغلبية شيعية.

في لبنان، يشير لفظ "الضاحية" في الوعي الجماعي إلى ضواحي بيروت الجنوبية، ذات الغالبية الشيعية، رغم وجود ضواحٍ شرقية وشمالية للمدينة. فكيف صارت وحدها هي "الضاحية"؟ وما الذي ميّزها كي تستأثر بهذا التعبير؟

بين أعوام 1978 و1990، أي سنوات تشكل "الضاحية"، كانت التجمعات التي طرأت على المنطقة بمعظمها عشوائية، في ظل غياب التنظيم المدني وحالة الفوضى التي كانت سائدة وقت الحرب. وسكنتها الفئات الاجتماعية الأقل دخلاً والأكثر عوزاً، ما جعلها تُسمى بـ"ضاحية البؤس" أو "ضاحية المحرومين"، أو "ضاحية المستضعفين".

وسهّل غياب سلطة الدولة على الحزبين الشيعيين الأبرزين، حركة أمل وحزب الله، التحكم بمعظم مفاصل الحياة والخدمات والأمن. وصارت "الضاحية" مع كل تلك التحولات ترمز إلى الشيعة، فيكفي أن تقول "أنا من الضاحية" ليظهر انتماؤك المذهبي.

بعد انتهاء الحرب، بدأت تظهر تجمعات سكنية منظمة ساهم في نشوئها المال الاغترابي والتعويضات التي أعطيت للمهجّرين كي يتخلوا عن أماكن احتلوها أثناء الحرب، والاستقرار النسبي الذي نعم به لبنان. لكن هذا التوسع السكاني لم يخرج من إطاره الشيعي، الجنوبي بمعظمه، وظلت "الضاحية" خياراً للفقراء، في وقت كانت بيروت الإدارية ولا تزال حلماً بعيد المنال، مع الفارق الكبير في أسعار الشقق.

المنطقة التي كانت "مشجّرة بشكل كثيف ومدهش وفاتن" وتنتشر فيها بيوت ذات طابع ريفي، تحوّلت إلى غابات من الإسمنت دون أي اعتبارات جمالية.

لم تخفت وتيرة النزوح إلى "الضاحية" مع نهاية الحرب الأهلية، وظلت تتوسع، وكان التوسع عشوائياً في بعض المناطق، ومنظماً في أخرى. ولكن حتى الأحياء الراقية التي ظهرت والتي تناقض الصورة المطبوعة في أذهان كثيرين حول "الضاحية" وفقرها ظلت تفتقر إلى خدمات الدولة الأساسية، ما عزز مبرر سيطرة الأحزاب، وحلولها مكان الدولة.

وكانت "الضاحية" منذ بدايات تشكلها المعقل الأساسي لحزب الله. فيها ظهر في بداية الثمانينيات قبل أن يسيطر على معظم مناطقها في أواخر ذلك العقد ويضع نفسه في موقع البديل عن الدولة الذي يعمل على حل مشاكل السكان ومطالبهم واحتياجاتهم، حتى صارت تُعرف بـ"ضاحية الحزب".

حرب تموز والتحوّل الكبير

التحوّل الكبير في حياة "الضاحية" وفي حياة سكانها حصل بعد حرب تموز/ يوليو 2006. لم تعد مكاناً محلياً فقط. صارت شهرتها عالمية، وأثارت الفضول، فصار يقصدها أشخاص من كل البلاد للتعرف على هذه المنطقة الصغيرة التي واجهت عدواناً دام أكثر من شهر.

وكان لهذا التحوّل الكبير شقان: مادي ومعنوي. المادي هو تدفق الأموال التي دُفعت لإعادة الإعمار، مسفرةً عن ارتفاع أسعار الشقق وتكاليف الحياة بشكل كبير، والمعنوي هو أن السكن فيها صار يشكل مصدر فخر لكثيرين، حتى أن سكانها باتوا يتشاوفون على الشيعة المقيمين في بعض المناطق الأخرى، فبعد أن كانوا بالأمس القريب "يحسدون" أبناء الطائفة ممن يسكنون في بيروت، صاروا يشعرون بالتفوق عليهم، فهم الذين كانوا في مواجهة مباشرة مع الاعتداءات الإسرائيلية وهم الذين صمدوا وواجهوا الحرمان بكل أشكاله.

الحرب تزيد من قيمة المكان وتعطي شعوراً بالقوة والغلبة. رغم أن سكان "الضاحية" ما زالوا يرزحون تحت وطأة الحرمان من أبسط مقومات الحياة، ورغم أن معظمهم نزح أثناء الحرب، إلا أنهم يفتخرون بوجودهم في منطقة صمدت في وجه إسرائيل وقاتلت وانتصرت. ربما العيش في ظل الحرمان جعلهم يبحثون عن تعويض معنوي، وجاء هذا التعويض على شكل صمود، ما بث فيهم شعوراً بفائض القوة. ولم تترك الأحزاب الشيعية، وخاصة حزب الله، مناسبة إلا وساهمت فيها بتعزيز هذا الشعور وتقويته.

"بعد أن كان سكان ‘الضاحية’ بالأمس القريب ‘يحسدون’ الشيعة الذين يسكنون في بيروت، صاروا يشعرون بالتفوق عليهم بعد حرب تموز 2006، فهم الذين كانوا في مواجهة مباشرة مع الاعتداءات الإسرائيلية وهم الذين صمدوا وواجهوا الحرمان بكل أشكاله"

في بعض الأحيان، بتنا نشهد نزوحاً عكسياً من بيروت إلى الضاحية، خاصة إلى أحيائها الجديدة المنظمة، لمَن استطاع إليها سبيلاً طبعاً، فهذه الأحياء ثمن الشقق فيها مرتفع وهي مستقَرّ أبناء طبقة الأغنياء الجدد من التجار الذين استفادوا من حالة التضخم التي ولّدتها إعادة الإعمار ومن المغتربين الميسورين الذين صاروا يبحثون عن مكان أو موطئ قدم في تلك الأحياء، بدافع الفخر والرغبة في أن يكونوا بين "أهلهم".

التفاوت المعيشي بين مناطق مختلفة في "الضاحية" خلق نوعاً جديداً من التفاوت أو الانقسام الطبقي، وصار سكان "الضاحية الجديدة" يشعرون بتفوقهم على سكان "الضاحية القديمة"، وحين يُسألون عن مكان سكنهم يتعمدون ذكر وجودهم في الضاحية "المرتبة" وليس في تلك العشوائية المكتظة الفقيرة.

خلق ذلك ما يمكن أن نسميه "ضاحية الضاحية". صارت الضاحية ضاحيتين: واحدة ذات مبانٍ حديثة يقطنها الأثرياء، وفيها مقاه ومتاجر وفروع لشركات يرتادها أبناء الطبقة الوسطى، كـ"حي الأميركان" و"السان تيريز" وبعض أحياء حارة حريك... وفي المقابل، ازداد تهميش "الضاحية" الأخرى، وبقي سكانها يرزحون في فقرهم، وظلت مناطقها تعاني من الحرمان، كبرج البراجنة وحي السلم مثلاً.

فكما كان أبناء "الضاحية" يشعرون بحقد طبقي تجاه بيروت، لعيشهم في "حزام بؤس" على خاصرتها، صاروا الآن يحسّون بنفس الشعور تجاه "الضاحية الجديدة" وأبنائها، مع إضافات قد تكون لها مفاعيل لاحقاً، ففي هذه الضاحية الجديدة يعيش كثيرون من مسؤولي الأحزاب المسؤولة عن واقع "الضاحية".

ضاحية الفقر... حي السلّم نموذجاً

عبور سريع في حي السلّم يكفي لاكتشاف أن هذا المكان يضيق بسكانه. البيوت فيه تتكدس فوق بعضها. ما عدد القاطنين هنا؟ لا إحصائيات دقيقة. بعض التقديرات تشير إلى حوالي مئتي ألف شخص، في مساحة لا تتجاوز الثلاثة كيلومترات مربعة.

يتبع حي السلّم إداريا في الواقع لبلدية الشويفات (الدرزية). كان سابقاً من مشاعاتها، وكان يحوي بساتين زيتون يعبرها نهر الغدير. لكنها لا تعترف به حالياً ولا تقدّم لأبنائه أي خدمات. بنيت منازل الحيّ على عجل في أيام الحرب، حين كان لبنان في حالة فوضى، وتمددت حتى ضاقت بأهلها، وصارت جزءاً من الضواحية الجنوبية لبيروت. هو الجزء الأكثر فقراً.

ح. م. سكن هنا لأكثر من عشرين سنة، قبل أن يغادر بحثاً عن مكان أفضل. يعمل ح. مهندس كمبيوتر ويبلغ من العمر 33 سنة. يخبرنا عن حياته في هذا المكان: "سكنتُ في منطقة حي السلم منذ أن كان عمري عشر سنوات، ورحلتُ لأن ما تتعلمُه هو النقيض لما تعيشه، فنحن نتعلم عن القانون والمؤسسات وحفظ النظام وغيرها من أبسط مقومات الحياة، وما نعيشه هناك هو العكس تماماً. لا أقول إن المناطق الأخرى في لبنان مثالية، ولكن الضاحية وحي السلم تحديداً هي الأسوأ: لا قانون، لا أمن، لا دولة، الدولة هي للأحزاب، وهي التي تبسط سيطرتها".

يروي أنه في إحدى المرات "تعرضتُ لإطلاق نار بسبب خلاف على موقف سيارة، فذهبت إلى المخفر ليقول لي الشرطي المناوب: ‘بكرا بتحلوها مع بعض، العشائر والحزب’، أي حزب الله. الدولة لا تجرؤ على الدخول، وبعد حادثة إطلاق النار صرت مجبراً على العيش في نفس الحي مع غريمي، ما يسبب لك شعوراً بالضعف والمهانة وانسحاق الكرامة. الكرامة هناك وهمٌ، يرددونه على سكان الضاحية كي لا يطالبوا بحقوقهم الأساسية وكي لا يأتي يوم يتمردون فيه على سلطة الأحزاب".

يستذكر ح. يوم خرجت تظاهرة في حي السلم كال المشاركون فيها اتهامات للأحزاب، مباشرة أمام وسائل الإعلام، وشتموا الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله "كيف أًجبروا في اليوم التالي على الاعتذار علناً من كعب حذائه، في أسوأ مشاهد الذل الإنساني"، ويضيف: "لا أفكر مطلقاً في العودة. لم يكن لي مكان هناك من الأساس، لم أصدق أنني غادرتها، فالحياة في حي السلم جحيم لا يطاق: إما أن تكون أزعرَ أو مسحوقاً، لا مكان للوسط، ولا للثقافة أو للحوار. هنا قد تُسحق بسبب خط كهرباء أو موقف سيارة".

وتروي م. ش. (20 عاماً)، وهي شابة تعمل في مجال الصحافة، حكايتها مع تجربة العيش في حي السلم مع أمها منذ ولادتها. تقول: "حياتي كانت صعبة. كان الناس دائماً ينظرون إليّ بطريقة غريبة، ربما يستغربون نمط حياتي أو لبسي الذي لا يتناسب مع عاداتهم أو أفكارهم، تركت الضاحية عندما بدأت بالعمل. الحياة خارج الضاحية بالتاكيد أفضل، والمشاكل موجودة في كل مكان، والتحرش للأسف منتشر في معظم المناطق، ولكن في الضاحية بشكل أكبر، فلا أستطيع مثلا العودة متأخرة إلى المنزل، إذ لم أكن أشعر بالأمان، ويمكن أن أتعرض للسرقة أو للتحرش".

لا تزال الشابة العشرينية تذهب إلى الضاحية في زيارات لأمها أو لإحدى صديقاتها. وعند سؤالها عن إمكانية العودة للعيش في الضاحية، تجيب: "لا يمكن. بالإضافة إلى المشكلات التي ذكرتها أشعر بأن هناك نوعاً من فرض ثقافة معيّنة ونمطاً من الحياة والتفكير لا يمكن أن أنسجم معه. لا يمكن أن تعيش مستقراً إذا كنت مختلفاً".

م. أ. (31 عاماً)، شاب عاطل عن العمل حالياً، يعيش في حي السلّم منذ طفولته، وبالتحديد منذ 21 سنة. يقول: "الحياة هنا قاسية وصعبة، القوي يأكل الضعيف، والضعيف لا مكان له، هنا يعيش المعدمون والفقراء لأن الحياة أرخص، لكن الحياة قاسية، فالتلوث في كل مكان، حتى في المياه التي نشربها ونستحم بها، ومعظم الذين يعيشون هنا تعودوا على هذه الحياة وغالباً بسبب عدم قدرتهم على المغادرة، أما أن يأتي أحد ليسكن هنا فهذا الأمر من النادر أن يحصل. أفكر دوماً في مغادرة المكان وذلك بسبب عدم الشعور بالأمان، فالزعران هم الذين يتحكمون بالسلطة هنا، وترعاهم الأحزاب، ومن الصعب أن تعيش من دون سلاح، أو من غير أن يكون لديك شلة من الناس لتحتمي بهم إذا ما حصلت معك أي مشكلة، والمشاكل تحصل على أتفه الأسباب، وأحياناً يمكن أن تموت بسبب رصاصة طائشة من شجار لا علاقة لك به".

في المقابل، يعبّر أ. ن. (40 عاماً) عن انطباعات مغايرة. يتحدث عن تأقلمه وتعوده على الحياة في حي السلم: "هنا أعيش منذ ولادتي، وأهلي يعيشون من قبلي، تعوّدنا على الحياة وعلى الجيران، فالجميع هنا من أقربائنا وننتمي لنفس المنطقة في البقاع، هنا أعمالنا ومصدر عيشنا، بالتأكيد يوجد الكثير من النقص في أساسيات الحياة، ولكنك حين تعيش في مكان لفترة طويلة تعتاد عليه"، ويتساءل: "مَن قال إن حياتنا في منطقة أخرى ستكون أفضل؟".

بين العيش والانتماء

العائلات التي استوطنت "الضاحية" منذ وقت طويل صارت تنتمي إليها، أو بشكل أدقّ كل إلى منطقة إقامتها، فآل إسماعيل أو السبع مثلاً موطنهم برج البراجنة، وآل الخنسا موطنهم الغبيري وآل علامة ينتمون إلى حارة حريك.

لكن اليوم، الأغلبية الساحقة من سكان "الضاحية" هم من الجنوب والبقاع. نزحوا مع أهلهم من قراهم بحثاً عن العمل أو هرباً من الاحتلال. هؤلاء لم يفقدوا صلاتهم بقراهم ولم يتخلوا عنها. ما زالوا يتبعون لها في سجلات نفوسهم. فكيف ينظرون إلى حياتهم في "الضاحية" من ناحية الانتماء إلى المكان؟

يروي مختار بلدة برج البراجنة محمد إسماعيل أن "السكان هنا يشعرون بالإنتماء بالطبع، فهي بلدتهم. نحن ننتمي إلى برج البراجنة وهي قريتنا. وفي عام 1932 توقف تسجيل النفوس هنا إلا في حالات نادرة، فحافظ كل مَن قدم بعد هذا التاريخ على نفوسه في المنطقة التي جاء منها، سواء من البقاع أو الجنوب".

عند تحرير جنوب لبنان، عام 2000، حدث نوع من نزوح معاكس، من "الضاحية" إلى "القرى الأصلية"، خاصةً بالنسبة إلى مَن كانوا نازحين بسبب الخوف من التجنيد الإجباري في "ميليشيا لحد" المرتبطة بإسرائيل، أو بسبب الانتماء إلى أحزاب سياسية قاومت إسرائيل. ولكن قلة فرص العمل في الجنوب فرضت على هذه الظاهرة أن تبقى محدودة.

وكثيراً ما ينتقل أشخاص من "الضاحية" إلى قراهم الأصلية بحال سمحت لهم بذلك ظروف عملهم، أو بسبب عدم إيجاد فرص عمل بالمطلق. ويبقى ذلك حالات فردية مع أنها غير قليلة.

أحد الشباب المنظمين في حزب الله اختيار العيش في الجنوب بعيداً عن الضاحية. يقول: "الضاحية مكان نحبّه ونقدّسه ونكتب فيه الشعر، من بعيد نراه أجمل لكن لا يمكن العيش فيه، زحمة وضجة وغياب للمساحات الخضراء، بينما أنا كشخص أفضل العيش وسط الطبيعة، اخترت السكن هنا متحملاً مشقة النزول كل يوم إلى الضاحية حيث أعمل".

يرفض ع. ف. (28 عاماً) فكرة تعميم نفور سكان "الضاحية" منها: "أنا أعيش هنا منذ ولادتي، وحين قررت أن أستقل اخترت الضاحية، توجد مشكلات وصعوبات في الحياة؟ بالطبع وهي موجودة في كل مكان، لكن هنا أشعر بالأمان، فأنا قريب من أهلي وبين أهل طائفتي. لا تعرف ماذا يمكن أن يحصل لك في أي لحظة في منطقة غير منطقتك. لنكن واقعيين. هذا حال البلد ولسنا في مجتمع مثالي، ومن الطبيعي أن يلجأ كل مواطن للسكن بين مَن يشعر بالانتماء إليهم".

وعند سؤاله عن شعوره بالانتماء يجيب: "أنا للصراحة أنتمي إلى قريتي في الجنوب، لكن حرماننا منها في ظل الاحتلال الإسرائيلي جعل أهلي يهربون إلى الضاحية، كما أن غياب فرص العمل هناك وصعوبة العيش تحول دون العودة الدائمة. هذا المكان للعيش والسكن، أحبه طبعاً وأرتاح لوجودي فيه، لكن إذا سألتني من أين أنا سأقول لك أنا من الجنوب".

ر. أ. (21 عاماً)، طالبة في الجامعة اللبنانية. منذ عشرة أشهر، انتقلت من قريتها الجنوبية إلى "الضاحية"، وسكنت في منطقة "القائم"، بسبب قربها نسبياً من المجمع الجامعي، وذلك بناءً على رغبة أهلها "فهم فضّلوا أن يكون سكني بين أهل بيئتنا".

تصف الحياة في مكان إقامتها بأنها "مليئة بالفوضى والزحمة، وخاصة في أوقات المناسبات الحزبية أو الدينية، إذ تُغلق الطرقات ويصير الدخول والخروج صعباً، بالإضافة إلى مكبّرات الصوت التي توضع في كل مكان وتصدح منها أصوات الخطابات السياسية والأناشيد، وتسبب الإزعاج لكل السكان لكن لا أحد يمكنه أن يعترض".

وتضيف: "لا أشعر بالانتماء إلى المكان، ومن الأساس لديّ مشكلة في الإحساس بالانتماء إلى البلد كله، وأفكر دوماً في المغادرة وسأفعل ذلك مع أقرب فرصة"، وتتابع: "لا أجد أن المنطقة تشبهني بطريقة التفكير أو أسلوبي في الحياة".

في أحياء بيروت الإدارية، تشعر بأن المدينة تستيقظ في وقت واحد وتنام في أوقات متفق عليها دون اتفاق مسبق. لا تجمعات في الليل إلا في أماكن محددة. في المقابل تجد في كل حي في "الضاحية" تجمعات شبابية في الشوارع وتحت الأبنية تستمر حتى ساعات الصباح الأولى، مع ما ينتج عنها من إزعاج للنائمين. ومطاعم الوجبات السريعة تفتح أبوابها حتى ساعات متأخرة من الليل، ما يعكس حالة ساكني المنطقة.

عند انتقاد العيش في "الضاحية" أو الحديث عن ترك "الضاحية"، تبرز فوراً لدى المتحدثين فكرة غياب القانون. المثال الذي يتردد على ألسنة الجميع هو أن نفس الشخص لا يقف عند الإشارة الحمراء في "الضاحية"، بينما يفعل ذلك في مناطق أخرى، في إشارة إلى أن الساكن في الضاحية يتطبّع بفكرة الخروج عن القانون.

هذا ما يعبّر عنه ع. ط. (38 سنة)، وهو مهندس اتصالات، عاش سنوات في منطقة الرويس مع أهله، قبل أن ينتقل منها إلى خارج "تالضاحية". يقول: "الأساس لكي تستمر في العيش هو وجود سلطة القانون وحضور هيبة الدولة، وهو الأمر المفقود تماماً في الضاحية. غادرتها كي أبحث عن مكان أكثر هدوءً، مكان فيه وجود للدولة والبلدية، مكان يشبهني ويتناسب مع نمط حياتي وحياة عائلتي غير المتدين".

كثيرون من منتقدي "الضاحية" ينتقدون بشكل أساسي ما خبروه من محاولات لفرض ثقافة واحدة ومن مضايقة أي شخص "مختلف". ولكن كثيرون من المقيمين في الضاحية ينتقدون هذه الانتقادات. الشابة ن. هـ. التي تعيش "في منطقة من أكثر المناطق حساسية من الناحية الأمنية"، أي في منطقة معروف أنها تضمّ مكاتب لحزب الله، تشعر بالراحة في إقامتها، وتقول إن تأطير مجتمع كامل ببيئة أيديولوجية واحدة هو ظلم وتجن، "فالمنطقة هنا متنوعة بشكل كبير، وتصويرها بأنها منطقة مغلقة هو أكبر كذبة، على العكس، فهي مركز عبور ونقطة مركزية في تنقل اللبنانيين من شماله إلى جنوبه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image