أزمة برنامج "نور الدين"، للشيخ علي جمعة، الذي يُعرض خلال شهر رمضان على قناة "on"، في ظلّ الهجوم الكبير عليه، ليست نتاج أفكار مقدّمه "المثيرة للجدل" على حد تعبير الكثيرين فحسب، بل تنبع أيضاً من تناغم أفكاره مع أفكار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقربه منه.
والحقيقة أن تركيبة تلك العلاقة، تدفعنا نحو نظرة أوسع إلى علاقة الرؤساء وأفكارهم وتوجهاتهم برجال الدين، والتي هي علاقة تستحق الرصد والتأمل، لمن يريد أن يفهم كيف تسير الأمور في برّ مصر.
النجم الأوحد
قامت ثورة تموز/ يوليو عام 1952، حاملةً معها المجهول بأحلامه وطموحاته؛ مجموعة ضباط شباب، يقودهم جنرال عجوز، يتحدثون عن الحرية والعدالة والمساواة.
كانت شعبية عبد الناصر كافيةً ليسيطر على المشهد، ويحرك الجماهير من دون تمرير أو تبرير. فتلاشت العمائم. حتى الأبرز بينهم، وهما أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف، والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، فبدا ظهورهما باهتاً، ويكاد لا يُرى بجوار الزعيم الأوحد
وسرعان ما صعد نجم جمال عبد الناصر، واستحوذ على المشهد. وعلى عكس سابقيه، لم يكن ناصر في حاجة إلى تمرير أفكاره عبر باب الدين، ولا تغليف توجهاته بقول الله وأقوال رسوله.
كانت شعبيته وأفكاره وهوس الجماهير به كافيةً ليسيطر على المشهد، ويحرك الجماهير من دون تمرير أو تبرير. أضف إلى ذلك، أن تكوينه وولعه بالزعامة لم يعطيا الفرصة لنجوم آخرين للبزوغ بجواره. توارت الأسماء، وتلاشت العمائم. حتى الأبرز بينهم، وهما أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف، والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، بدا ظهورهما باهتاً، ويكاد لا يُرى بجوار جمال عبد الناصر، الزعيم الأوحد.
مندوبا القرية المصرية
رحل ناصر الزعيم العروبي، وأتى السادات من بعده محمّلاً بأفكار قروية. لم يكن "الزعيم" العربي، وإنما قدّم الرجل لنفسه صورةً ذهنيةً مغايرةً تماماً لصورة سلفه. طرح نفسه كـ"كبير العائلة" المتمسك بتقاليد القرية، فارتدى الجلباب وتحدث عن أصوله الريفية، وصوّر اللقاءات التلفزيونية في قرية ميت أبو الكوم.
وجد السادات ضالته في الشعراوي، رجل الدين القادر على الوصول إلى القلوب وتبسيط الدين بأسلوبه "الريفي" المتناغم تماماً مع أسلوب السادات ومنطقه.
وفي الوقت نفسه، كانت للرجل معركة سياسية مع التيار اليساري أو الشيوعيين كما كان يصفهم في خطاباته. ولم يجد أفضل من سلاح الدين ليشهره في وجوههم.
ومن هنا وجد السادات ضالته في الشيخ الشعراوي، رجل الدين القادر على الوصول إلى القلوب وتبسيط الدين بأسلوبه "الريفي" المتناغم تماماً مع أسلوب السادات ومنطقه، فاختاره وزيراً. لكن الأهم من الوزارة كان الاحتفاء الإعلامي به، وتسخير وسائل الإعلام لأفكاره، التي تماشت تماماً مع أفكار السادات وعصره. فصار نجم الحقبة الساداتية ورمزها الديني بلا منازع.
موظف بلا خيال
على عكس سابقَيه، عبد الناصر والسادات، أتى حسني مبارك بلا هوية واضحة ولا اتجاه يمكن تحديده، فلم يكن "زعيم الأمة" ولا "كبير العائلة"، بل كان حاكماً بدرجة موظف. مضت العقود الثلاثة من حكمه بلا أحداث جسام أو توجه واضح له.
وكما أبقى مبارك مصر في الثلاجة، وترك كل شيء في مكانه، بقي الشعراوي هو الآخر نجم الشاشات الأول بلا منازع لعشرين عاماً من عهد مبارك.
لكن في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، تغيرت معادلة الحكم تماماً، فارتخت قبضة مبارك الأب، وهيمن النفوذ السعودي بماله وأفكاره على البلاد، وقويت معه شوكة السلفية، واستحوذ مشايخها على الشارع المصري، وصارت مساجدهم هي الأكثر ازدحاماً، وجمعياتهم الأهلية والخيرية هي الأكثر نفوذاً وانتشاراً.
على عكس سابقَيه، أتى حسني مبارك بلا هوية واضحة، فلم يكن "زعيم الأمة" ولا "كبير العائلة"، بل كان حاكماً بدرجة موظف. مضت العقود الثلاثة من حكمه بلا أحداث جسام، وكما أبقى مبارك مصر في الثلاجة، بقي الشعراوي هو الآخر نجم الشاشات الأول بلا منازع لعشرين عاماً من عهد مبارك
وبالتزامن مع ذلك التغير، عرف المصريون مشايخ الكاسيت، الذين سحبوا البساط من تحت أقدام رجال دين الدولة، وصار محمد حسان، ومحمد يعقوب، وإسحاق الحويني، رجال الدين ومشايخ الشارع المهيمنين على سوق الكاسيت والميكروباصات… وحُرمت "العيشة" على المصريين!
الصوفي
صعد السيسي إلى سدة الحكم في لحظة شديدة الارتباك؛ ثورة، مظاهرات، اضطرابات، ثم صدام مسلح عنيف مع جماعة الإخوان المسلمين، وهو صدام لن تنساه الجماعة الأقوى تاريخياً في مصر، ولن يندمل جرحه لعقود. لكن الإطاحة بهم من الحكم، لا تعني انتهاء معركتهم مع السيسي، بل هي نقلتها من ملعب إلى آخر فحسب. غادرت الشارع لتنتقل إلى صفحات التواصل الاجتماعي، شاهرةً في وجهه سلاح الدين.
على الجانب الآخر، ورويداً رويداً، بدأت التوجهات الدينية للرئيس الجديد تظهر بوضوح، وبدا جلياً أننا أمام رجل يميل إلى الفكر الصوفي، فنراه يخاطب الله بـ"حضرتك"، ويصفه بأنه "حبيبي وبحبه". وفي نقلة جديدة تماماً، وفارقة عمن سبقوه في القصر، مالت دفة الحكم صوب الصوفية، وفُتحت مساحات لعلماء ينتمون بمعنى من المعاني إلى ذلك النهج، فبزغ نجم الشيخ علي جمعة، وبجواره أسامة الأزهري، وإن كان الفرق في الحضور والعلم قد رجّح كفة علي جمعة، صاحب الطلّة الهادئة واللسان المعسول.
بدأت التوجهات الدينية للرئيس الجديد تظهر، وبدا جلياً أننا أمام رجل يميل إلى الفكر الصوفي، وفي نقلة جديدة وفارقة، مالت دفة الحكم صوب الصوفية.
لكن على عكس من سبقوه، سواء الشعرواي أو مشايخ الكاسيت، أتى علي جمعة محمّلاً بعداء معارضة بينها وبين السيسي ثأر ودم، وشارع محتقن جراء أزمات اقتصادية خانقة، فهوجم الرجل وهوجمت أفكاره التي وإن بدت مثيرةً للجدل، لكن في عمق المشهد كان الهجوم سياسياً بالأساس، وإن لم يفصح أحد عن ذلك. ولأول مرة نجد أمامنا نجم الشباك الديني محل هجوم كاسح فقط لأنه قريب من القصر وأفكاره متّسقة مع أفكار قاطنه.
من عبد الناصر إلى السيسي، مروراً بالسادات ومبارك، تتباين الرؤى، وتختلف التوجهات، ويظل الدين ورجاله بوصلةً كاشفةً لكيف يفكر الحاكم في مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 20 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...