في لحظة هي الأصعب في تاريخ الاقتصاد المصري، لحظة تتراكم فيها الديون، وتزداد معدلات التضخم، ويقفز الدولار لمستويات لم يكن يتخيلها أحد، رافعًا معه الأسعار والضغوط على كاهل المواطن، بات صندوق النقد الدولي وقروضه رقماً حاسماً في المعادلة، وباتت تصريحات رئيسته خبراً يتلهف المواطنون قبل الصحافة إلى سماعه وفك شفرته، آملين في استشراف القادم من حديثها.
هذا المقال يشتبك مع حديث المدير العام لصندوق النقد الدولي "كريستالينا غورغيفا" البارحة بالتحليل في محاولة لكشف مضمون رسائلها.
مبدئياً تجدر الإشارة إلى أنه وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري، فإنه على مصر سداد ما يقرب من 33 مليار دولار "أقساطاً وديوناً مستحقة" على استدانة خارجية بلغت 165 مليار دولار، وهي تقارب 40% من إجمالي الناتج المحلي.
رغم أننا نتحدث عن نسبة شديدة الضخامة، ما زالت أقل من 50% إذ قدرها صندوق النقد الدولي لمستويات الديون التي يمكن السيطرة عليها. بصيغة أخرى، نحن إزاء أزمة كبيرة، لكنها حتى الآن قابلة للسيطرة، شريطة اتخاذ بعض الإجراءات (وفقاً لرؤية صندوق النقد الدولي).
من هنا تأتي أهمية تحليل خطاب مديرة البنك للتعرف على تلك الإجراءات ودراسة ما يمكن تنفيذه، وما يتعذر عملياً على القاهرة فعله، لأسباب متباينة.
في مصر، بات صندوق النقد الدولي وقروضه رقماً حاسماً في المعادلة، وباتت تصريحات رئيسته خبراً يتلهف المواطنون قبل الصحافة إلى سماعه وفك شفرته، آملين في استشراف القادم من حديثها
1- تداعيات حرب غزة على مصر
شغلت حرب غزة حيزاً كبيراً من حديث غورغيفا عن مصر، وذلك على صعيدين.
الأول: ثناؤها الى الدور المحوري الذي لعبته مصر في تلك الحرب، وأهمية بقائها مستقرة.
الثاني: إشارتها إلى أن الاقتصاد المصري تعرض لضغوط شديدة، بسبب تلك الحرب، وأنه في حاجة ماسة إلى الدعم والمساندة.
من هنا يمكن القول إن الحرب أضرت بمصر اقتصادياً، لكنها في الوقت ذاته دفعت الممولين والصندوق لتعديل بوصلتهم صوب التعامل مع القاهرة ودعمها. وهو ما سيفيد بشكل غير مباشر النظام الحاكم، الذي يقف على "برميل بارود" بسبب الاحتقان المتنامي في الشارع المصري، نتيجة ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
2- جرعة منشطة للاقتصاد المصري
تحدثت مديرة الصندوق عن احتياج الاقتصاد المصري لجرعة ثقة، وأن دعم الصندوق لمصر سيزداد خلال الفترة المقبلة.
الحديث عن دعم مصر هنا يحمل إشارة إلى نية الصندوق زيادة قيمة البرنامج التمويلي المتفق عليه من 3 مليارات دولار إلى 10، الزيادة التي كانت تعثرت مفاوضاتها بسبب عدم التزام مصر بخطة الصندوق، لكن المتغيرات الجارية في الإقليم دفعت الصندوق لإعادة التفكير فيها مجدداً.
3- المشاريع القومية وبيع الأصول
حديث مديرة الصندوق كان واضحاً وجلياً في نقطتين تبدوان متضاربتين، لكن الحقيقة أنهما في مسار واحد (المشاريع القومية - بيع الأصول).
طالبت غورغيفا القاهرة بإعادة جدولة تنفيذ المشاريع القومية. الصيغة بدت مهذبة، لكن الرسالة جلية بأنه على الحكومة إيقاف نزيف الأموال المهدرة على مشاريع عملاقة لا تحتاجها مصر بشكل آني.
المشكلة هنا أن طلب مديرة الصندوق يتعارض تماماً مع ما أعلنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في لقائه الأخير، الذي كشف فيه نصائح الخبراء (وإن لم يسمهم) له بإيقاف تلك المشاريع، لكنه رفض المقترح معللاً ذلك بأن تلك المشاريع تخلق ما يزيد عن 5 ملايين فرصة عمل للمصريين.
من النقاط الأساسية التي أشارت إليها مديرة الصندوق الدولي في حديثها وشددت عليها، كانت حتمية السيطرة على الاحتقان الحادث في الشارع المصري جراء ارتفاع الأسعار
النقطة الثانية المتعارضة مع توجه الحكومة كانت مطالبة غورغيفا للحكومة بالتوقف عن بيع الأصول، وما لم تصرح به هو أن عملية البيع الآن، وفي ظل تدهور قيمة الجنيه المصري ووجود فرق شاسع بين سعر الصرف في البنك والسوق الموازية لن ينجم عنها سوى خسائر للأصول بأسعار بخسة، فالبيع وفقاً لرؤية الصندوق ليس حلاً مناسباً الآن.
هل تعدل القاهرة عن توجهاتها التي كشفها الرئيس المصري مؤخراً استجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي، أم أن القطار سيستمر في المضي قدماً؟
4- التضخم وحماية الطبقات الفقيرة
من النقاط الأساسية التي أشارت إليها مديرة الصندوق الدولي في حديثها وشددت عليها، كانت حتمية السيطرة على الاحتقان الحادث في الشارع المصري جراء ارتفاع الأسعار.
الطلب الذي لا ينفصل كثيراً عن حديثها عن أهمية "استقرار" الأوضاع، خصوصاً في ظل تنامي دورها الإقليمي.
غورغيفا شددت على مسارين هما:
الأول هو أنه "يجب" على الحكومة اتخاذ إجراءات واضحة لحماية الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وهو ما تم بالفعل الأسبوع الماضي، حين قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6 آلاف جنيه مع صرف علاوة استثنائية للعاملين بالقطاع الحكومي.
أما الثاني، فكان التركيز على السيطرة على التضخم عبر رفع الفائدة، وهو ما حدث، وتقليل الإنفاق الحكومي، وهو مسار قيد البحث في القاهرة الآن.
5- التعويم القادم
السؤال الأهم الذي يدور في الشارع المصري الآن هو، هل يُحَرَّر سعر صرف الجنيه (التعويم) أم لا؟
في هذا السياق، تراجعت مديرة الصندوق عن مطالبتها السابقة بتعويم الجنيه، مفضلة أن يُطَبَّق سعر صرف "مرن" له، أي أننا نتحدث عن تعويم "جزئي" سيحدث للجنيه قريباً.
بالطبع يمكن فهم سبب ذلك التراجع الناجم عن خشية الصندوق من التداعيات السياسية والأمنية الناتجة عن التعويم، خصوصاً في وضع شديد الاحتقان بمصر، شديد الالتهاب في محيطها الجغرافي.
بين الشد والجذب، وبين العطاء والمنع، تمتد العلاقة بين صندوق النقد الدولي والرئيس المصري، في لحظات حرجة لم يمر بها الاقتصاد المصري من قبل.
ليأتي حديث كريستالينا غورغيفا الأخير كاشفاً عن طريقة تخطيط الصندوق لمستقبل مصر القريب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه