"اللي خلف مامتش"، هذا المثل الشعبي المصري الشهير يوجز ببلاغة الكثير في علوم النفس والأحياء والوراثة والتطوّر، حيث الجنس والتكاثر والرغبة في توريث الصفات والجينات امتداد لغريزة البقاء لدى كل الكائنات، والحيل التي نستخدمها كأحياء لهزيمة الموت المؤكد الذي ينتظرنا، وضمان بقاء شيء ما منا بعد الوفاة.
إذا نظرنا للأمور من هذا المنطلق، يصبح الفشل في الإنجاب وتمرير الجينات هو أصعب فشل، والتعرض لخداع وخيانة من المُقربين - في هذه المهمة - تجربة مريرة تستوجب غضباً وانتقاماً، ومقتل الأبناء أو اختطافهم، هو أقسى هزيمة يمكن أن نتذوقها على يد الخصوم والأعداء.
وبالطبع يمكن عكس الآية بخصوص الغضب، حيث الابن الذي يكتشف فجأةً أن كل ما يعرفه عن أسرته كان زيفاً وكذباً، وأن أباه وأمه الحقيقيين مختلفان.
استندت الدراما في مسلسلات رمضانية عديدة في الأعوام الأخيرة، إلى عقدة ما مرتبطة بما سبق، بحيث تصبح الدوافع الرئيسية التي تحرك البطل الأب هى "الرغبة في الإنجاب" حتّى لو استلزم ذلك ارتكاب جريمة ما، أو "التأكد من صحة نسب أبنائه إليه"، أو "إيجاد الابن الضائع/ المختطَف وكشف تفاصيل الخديعة"، أو "الانتقام من 'خيانة' الزوجة التي نسبت إليه ابناً بالخداع"، أو "الانتقام من الأعداء الذين حرموه من ابنه"... وغيرها.
أما الدوافع، التي تحرك البطل الابن، فتمثّلت عادةً في "معرفة أبيه الحقيقي" أو "كشف سبب الخديعة والمتسببين فيها والانتقام منهم" أو "العودة لحضن أسرته الأصلية".
قائمة هذا النمط من المسلسلات الرمضانية طويلة ومن أبرزها: "جعفر العمدة" و"بدون سابق إنذار" و"صلة رحم" و"حق عرب" و"العتاولة" و"خالد نور وولده نور خالد". خمسة منها عُرضت في الموسم الرمضاني الذي يوشك على الانتهاء.
استندت دراما رمضان مراراً وتكراراً في الأعوام الأخيرة، إلى عقدة ما مرتبطة بسياقات تجعل الدوافع الرئيسية التي تحرك البطل الأب هى "الرغبة في الإنجاب" حتّى لو استلزم ذلك ارتكاب جريمة ما، أو "التأكد من صحة نسب أبنائه إليه"، أو "إيجاد الابن الضائع/ المختطَف وكشف تفاصيل الخديعة" وغيرها… ما الأسباب وراء هذا التكرار؟ ولماذا تمحورت حول الذكور غالباً؟
الأبوة كإثبات للقيمة والمكانة والطبيعة الأخلاقية للبطل
في مسلسل "جعفر العمدة"، نجد أن مهمة البطل في العثور على ابنه، الذي تعرّض للخطف يوم ميلاده، مهمة ضرورية ليس فقط لإشباع احتياجه للأبوة، ولكن لاستعادة هيبته وجدارته بلقب "مِعلّم" بالمفاهيم الشعبية للمصطلح. تسحبنا الأحداث لتلامس قناعات وأمثال على غرار: "الدم بيحن" حيث يرتبط الأب والابن عاطفياً وروحانياً، قبل أن يعرف كلاهما طبيعة العلاقة بينهما.
وفي مسلسل "بدون سابق إنذار"، يكتشف الأب بدايةً، وعن طريق الصدفة، بعد تحليل للحمض النووي، أن ابنه ليس ابنه البيولوجي، فيوجه شكوكه أولاً نحو زوجته ويتهمها بـ"الخيانة"، قبل أن يكتشف أن الطفل ليس ابناً لأي منهما، وتبدأ مساعي التحقق من احتمال أن طفلهما جرى استبداله لحظة ميلاده بآخر، مع ظهور أزمة وصراع نفسي مواز، بخصوص ضرورة استمرار قيامه بدوره كأب، لطفل مريض بالسرطان لا يعرف في الحقيقة أباً غيره، ولم يُجرم في حقه.
نفس العقدة تقريباً نشاهدها في مسلسل "العتاولة" وإن كان هذا المسلسل أقل جدية في مناقشة هذه القضية، وأقرب لعالم الأكشن والإثارة. في الأحداث، يكتشف البطل "نصار" أن ابنه ليس ابنه البيولوجي هو أو زوجته، وأن ابنهما البيولوجي يعيش مع أسرة أخرى، ليبدأ سؤال أي الطفلين أولى بالتصنيف كابن لهما؟ الأول الذي ربياه بالفعل، أم الثاني الذي لا يعرفانه ويعيش مع الأسرة الأخرى؟ تتضاعف العقدة عندما نعرف أن البطل نفسه، نصار، تعرّض لنفس الخداع بخصوص نسبه منذ طفولته، ويحيا وسط أسرة ليست أسرته الأصلية.
في مسلسل "حق عرب" قصة مختلفة، متوارثة من قصص الأديان، تبدأ بزوج مصمم على إجهاض زوجته، بسبب إيمانه بنبوءة مشؤومة بشأن مقتله على يد الجنين الذي في بطنها، ثم خداع الزوجة له وتظاهرها بتنفيذ طلبه، وإخفائها للطفل بعد إنجابه لدى أسرة أخرى.
مسلسل "صلة رحم" يختلف عما سبق حيث أن البطل ليس ضحية لخداع، إلى حد ما، هو مصدر له. في الأحداث، يتحرك البطل بتأنيب الضمير بالأساس، ويعتبر نفسه المسؤول عن حادث انتهى بخسارة زوجته لحملها ورحمها. لهذا السبب، تصبح مهمته إيجاد واستئجار رحم أنثى أخرى حتّى لو استلزم ذلك خداعاً ومكائد، لإعادة الأمور إلى نصابها والتكفير عن ذنبه، وتخليق جنين يحمل جيناته هو وزوجته التي فقدت الرحم في الحادث.
الأمور أكثر غرابة في المسلسل الكوميدي الفنتازي "خالد نور وولده نور خالد" حين يصبح الأب وابنه في نفس العمر، بسبب ظاهرة غير مفهومة نتجت عن تجربة في مفاعل نووي، ومحاولة الاثنين القيام بأدوار الأب والابن المعتادة اجتماعياً، رغم غرابة ذلك بالنسبة للمحيطين.
لكن، لماذا الذكور بالأساس؟
على الأرجح، لاحظ القارئ هنا أن صيغة المادة المكتوبة كانت دوماً عن ذكور، وأن العُقد الدرامية في أغلب المسلسلات السالفة الذكر كان محورها أيضاً ذكور، وهو ما يدفع للتساؤل: لماذا تخص هذه العُقدة الذكور أكثر من الإناث؟
الإجابة قد تكون بيولوجية بالأساس، ومرتبطة بفروق هامة بين الجنسين في عملية الجنس والتكاثر، وملخّصها أنه من الصعب أن تتعرض الأم لخداع بخصوص نسب الأطفال إليها. التسلسل بالنسبة إليها هو "ظهور أعراض حمل، خروج الجنين من رحمها، الثقة التامة في أن هذا الجنين هو ابنها/بنتها"، وهذه ثقة لا تتزعزع حتى لو كانت علاقاتها الجنسية متعددة، ولا تعرف يقيناً من هو والد الجنين.
كما في صلة رحم، والعتاولة، وحق عرب، وخالد نور وولده نور خالد… يتوقع أن يزداد رواج أزمات "اختلاط الأنساب" وقضايا مثل استئجار الأرحام، في دراما رمضان المستقبلية باعتبارها تيمات تحقق المعادلة الصعبة. من ناحية، هى شيء قابل للتنفيذ والعرض، ومن ناحية أخرى، هى كافية أيضاً لاثارة بعض الجدل الإعلامي الساخن لكن دون ضرر لصناع العمل
الأمر مختلف بالنسبة للأب. لا يوجد ارتباط واضح ومباشر مع الجنين، يعادل حالة الرحم مع الأم، وبالتالي تصبح المنظومة الوحيدة التي يمكن بها أن يثق أن الطفل المولود هو ابنه/بنته فعلاً، هى حصرية رحم الأم له وحده أو بصياغة أخرى عدم انخراط الأم في علاقات جنسية مع رجال آخرين.
ربما بسبب ما سبق، نشأت وترسخت فكرة اعتبار "الخيانة الجنسية" وتعدد العلاقات للأنثى، جريمة أبشع أخلاقياً من فعل مماثل يرتكبه الذكر، وتستوجب عقاباً أكبر، باعتبار خيانة الزوج حدث لا يترتب عليه فشل أو خداع للزوجة، بخصوص توريث جيناتها وصحة نسب أبناءها إليها، على عكس خيانة الزوجة التي قد ينتج عنها فشل الزوج في توريث جيناته لأولاد "من صلبه"، وتجعله يرعى أطفالاً لا يحملون جيناته.
نتحدث هنا عن تاريخ بشري طويل، لم يتضمن طرق فعالة وموثوقاً بها لحسم الشكوك بخصوص نسب الأبناء، إلا في العقود الأخيرة مع تطور علوم الوراثة، وظهور تحاليل الحمض النووي DNA.
يمكن بالطبع أن نمد الخط لعوامل أخرى، خاصة في مجتمعات شرقية ودينية الطباع، اعتادت وضع قيمة أكبر للذكور مقارنة بالإناث، وعلى توريث الأسماء والألقاب من الأب وحده للأبناء، وعلى خطاب اجتماعي ضاغط يردد على الذكور جمل على شاكلة: مش عايز تجيب عيل يشيل اسمك؟
نفس الضغوط الدينية والأسرية تعكس اتجاهاتها، في حالة إصرار الذكر على رعاية وتبني طفل لا ينتمي إليه بيولوجياً، وهو الحال في هذا المشهد من مسلسل "لعبة نيوتن" الذي عُرض عام 2021، حيث ترفض أسرة مؤنس المتدينة، قراره بتبني طفل ليس "من صلبه".
أسباب رواج ونجاح هذه الحبكات في الآونة الأخيرة
يردد عالم النفس واللغويات الكندي الشهير ستيفن بينكر دوماً في كتبه ومحاضراته، قاعدة مفادها أنه كلما ازدادت أزمات البشر في الحصول على أساسيات مثل الطعام والملبس والسكن، ازدادت مخاوفهم بدائية.
حتى فترة قريبة، كانت طموحات الشباب وأبناء الطبقة المتوسطة في مصر، تتضمن أشياءً مثل شراء سيارة، وإضافة مدخرات في البنك شهرياً. اليوم أصبحت هذه الرغبات والأحلام حصرية للأثرياء، والتشاؤم هو سيد الموقف، والادخار نفسه فكرة موضع تشكيك مع النزيف المستمر لقيمة الجنيه المصري.
في مناخ حالي ضاغط اقتصادياً، وخروج ملايين المواطنين عاماً بعد عام من دوائر الطبقة "المستورة" أو ما يُعرف بـ"الطبقة المتوسطة"، وانضمامهم لدوائر طبقات الفقر والاحتياج، تصبح المخاوف البدائية إذاً هي الأقرب لملامسة الجمهور.
نفس الضغوط الاقتصادية تخلق حالة من انعدام الثقة لدى الزوج والأب، وتفرض أسئلة محبطة على غرار: هل يمكن أن يحترمني أبنائي رغم عجزي عن توفير حياة لائقة لهم؟ هل ما تزال زوجتي مخلصة؟
كلها عناصر تزيد الضغوط على الذكور، على نحو خاص، في ظل مجتمعات قائمة نظرياً على ثقافة ثبات الأدوار لدى الجنسين. زوجة، ربة منزل، تُنجب وترعى الأطفال وتعد الطعام، مقابل أب يعمل ويحصل على الدخل المطلوب للأسرة. في ثقافة من هذا النوع، يعد الرجل نظرياً الطرف الأكثر استقبالاً للجروح والطعنات النفسية، مع زيادة الأزمات الاقتصادية.
يمثل الحصار الرقابي، سواء المتمثل في مؤسسات الدولة، التي لا تسمح مثلاً بمضمون سياسي إلا إذا كان داعماً لها كما في مسلسلات "الاختيار"، أو المتمثل في الحصار الرقابي الشعبي، الناتج عن ضغوط مجتمعات محافظة ومتدينة تضع تابوهات على آلاف الأفكار الدرامية، يمثّل هذا الحصار سبباً آخر لانتشار وتكرار واستنساخ تيمات محددة، وتكالب مؤلفين المسلسلات عليها
تتضاعف المخاوف السابقة، بالنظر إلى الإحصائيات حول معدلات الطلاق، والنزاعات في محاكم الأسرة، وأخبار الحوادث اليومية المرتبطة بالخيانة الزوجية، وخطاب إعلامي/ اجتماعي رائج عن وجود خلل عام في مفهوم الزواج، وانهيار مفهوم مؤسسة الأسرة بشكلها التقليدي في بعض النطاقات، وغيرها من الأخبار والنقاشات التي تقابل الجميع بانتظام في عصر السوشال ميديا.
رقابة حكومية وأخرى شعبية
يمثل الحصار الرقابي، سواء المتمثل في مؤسسات الدولة، التي لا تسمح مثلاً بمضمون سياسي إلا إذ كان داعماً لها كما في مسلسلات "الاختيار"، أو المتمثل في الحصار الرقابي الشعبي، الناتج عن ضغوط مجتمعات محافظة ومتدينة تضع تابوهات على آلاف الأفكار الدرامية، سبباً آخر لانتشار وتكرار واستنساخ تيمات محددة، وتكالب مؤلفين المسلسلات عليها، باعتبار قبولها وتنفيذها إنتاجياً سابقاً، ضوء أخضر بخصوص إمكانية تكرارها وتوظيفها.
وعليه، يتوقع أن يزداد رواج أزمات اختلاط الأنساب وقضايا مثل استئجار الأرحام، في الدراما التليفزيونية، باعتبارها تيمات تحقق المعادلة الصعبة. من ناحية، هى شيء قابل للتنفيذ والعرض، ومن ناحية أخرى، هى كافية أيضاً لاثارة بعض الجدل الإعلامي الساخن لكن دون ضرر لصناع العمل.
لاحظ مثلاً كيف استدعى مسلسل "صلة رحم" نفسه هذا الجدل مبكراً، عندما ظهر الشيخ خالد الجندي في المشهد التالي لتحريم فكرة الإنجاب بطريقة استئجار الأرحام، وكأن صناع المسلسل راغبون في إثارة الجدل من ناحية، وفي تقديم الإجابة النموذجية مجتمعياً في نفس الوقت، حتى لا يشكك الجمهور في تدينهم.
ختاماً، يمكن القول إنه بقدر ما ارتبطت مخاوف مثل اختلاط الأنساب والخيانة الزوجية وضياع الأبناء بنزعات بدائية وبيولوجية الأصل، أقدم من الجنس البشري نفسه، بقدر ما هى مرتبطة في الحاضر بواقع محبط في مجتمعات تعاني هزائم اقتصادية واجتماعية، جعلت الملايين تفقد الثقة في إمكانية تحسن أحوالهم معيشياً مستقبلاً، وتفقد مع ذلك الحد الأدنى من الثقة في أنفسهم، وفي أقرب المحيطين، وفي أى شيء يخص الأسرة واستقرارها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون