لم تستقبل فلسطين رمضان هذا العام مثل كلّ عام. لم تستقبله بالبهجة أو بالزّينة أو بالمطابخ التي تتحضّر للولائم والملذّات. يمرّ رمضان على الفلسطينيين في الضفّة والقدس والداخل ثقيلاً وحزيناً. ويبدو أنّ غزّة أعادت تشكيل طقوس الفلسطينيين خلال شهر الصّيام. فأثرت حرب الإبادة المرتكبة بحقّ أبناء شعبهم، بشكل مباشر وعميق، على تفاصيل حياتهم الخاصّة والعامّة في رمضان. كما دفعتهم إلى إطلاق حملات تدعو إلى تواضع الموائد وإلى مقاطعة المنتجات الإسرائيليّة وعلى رأسها التمور.
وعلى الرّغم من وجود استثناءات في حيوات الفلسطينيّين الفرديّة، فإنّ السواد الأعظم منهم استجابوا للنداءات الإنسانيّة الصّاعدة من غزّة، ولضمائرهم الحيّة التي لا تحتمل مظاهر الفرح وإعداد الولائم بينما يموت أشقاؤهم من الصواريخ والتجويع، ولا يفكّرون بمشاهدة المسلسلات بينما تُبثّ حرب الإبادة وشلال الدمّ مباشرة عبر القنوات العربيّة والمحليّة.
"كلّنا في نفس الخندق"
تنتظر نجوى مريدي (64 عاماً) شهر رمضان كلّ عام في رام الله حتّى تجمع العائلة والأصدقاء والجيران. رمضان يعني لها اللقاء. لكن هذا العام لا يحمل طعماً بالنسبة لها. "في رمضان في السنوات الماضية، كنت أحضّر الولائم للأحباب كلّ يوم تقريباً. هكذا جرت العادة. لكن هذه السنة، أشعر أنّ إعداد الكثير من الطعام وإحاطة نفسي بالكثير من النّاس حول المائدة هي فكرة ثقيلة وخيانة"، تقول لرصيف22.
وتتساءل: "كيف يمكننا أن نفعل ذلك وأهلنا في قطاع غزة يحاربون كلّ يوم من أجل تأمين كيس طحين لأطفالهم؟" تعتبر نجوى أنّ هذه الحرب غيّرت فيها الكثير، وما يحدث في غزة يمكن أن يحدث بالضفّة الغربيّة فتنقلب أحوال سكّانها. "فش حدا أحسن من حدا. وكلنا في نفس الخندق"، تقول.
أشعر أنّ إعداد الكثير من الطعام وإحاطة نفسي بالكثير من النّاس حول المائدة هي فكرة ثقيلة وخيانة
كذلك هي حال أماني عودة (30 عاماً) من حيفا. فأجواء رمضان لدى عائلتها مختلفة تماماً مقارنة بسنوات سابقة. "لا زينة في الشوارع ولا في البيوت ولا حتى في المساجد. حتى التحضيرات لرمضان هذا العام لم تشبه العادات التي اعتدناها. الحزن يطغى على كلّ شيء"، تؤكد لرصيف22.
وتضيف: "عائلتنا كانت دائماً ضدّ هدر الطعام، خاصة في رمضان. لكن هذا العام بالذّات، نخجل حين نرى المجاعة التي تفتك بأطفال غزّة، فاقتصرت موائدنا على الأساسيّات كنوع من التّقشف والتّضامن مع أهلنا. وهذا أضعف الإيمان".
وتشير أماني إلى أنه على الرغم من سهولة الصيام، لكون ساعاته هذا العام أقل من الأعوام السابقة، تشعر بتعب كبير. وتعزو ذلك إلى التعب النفسيّ المتراكم منذ بداية الحرب على غزّة. فتقول: "كأمّ لطفلين، أشعر بخوف وقلق مستمرين. ولست وحدي، فجميع من حولي يشكون من انعدام الأمان الشخصي، فالحرب أثرت على كل مناحي حياتنا". وتضيف أنّ هناك فلسطينيين في الداخل فقدوا كذلك الأمان الاقتصاديّ، بعد أن خسر بعضهم أعمالهم في ظلّ الحرب.
رمضان دون تمور إسرائيليّة
لم يقتصر تأثير الحرب على غزّة على حياة الأفراد الفلسطينيين في الضفّة والداخل. بل لُمس التأثير على الفضاء العام والفضاء الافتراضي من خلال حملات شبابيّة انتشرت على منصّات التواصل الاجتماعيّ. وقد خاطبت هذه الحملات الصّائمين بضرورة الالتزام بمقاطعة المنتجات الإسرائيليّة وعلى رأسها التمور، والشكّ في التمور التي تشير إلى "وادي الأردنّ" أو "إسرائيل" أو "الضفّة" كمكان الإنتاج، فهذه غالباً ما تكون تموراً إسرائيليّة مسوّقة باللغة العربيّة، مزروعة في المستوطنات، وتجارتها قائمة على سرقة الأراضي والموارد الطبيعيّة الفلسطينيّة بالإضافة إلى انتهاك حقوق العمّال الفلسطينين، بحسب حملة أطلقتها مؤسّسة "مسلمون أمريكيّون من أجل فلسطين".
انتشرت حملات أخرى تدعو الفلسطينيين إلى العزوف عن التبذير في الطعام وإلغاء الولائم وعدم تصوير موائد الإفطار
كما لفتت هذه الحملات انتباه الفلسطينيين إلى المنتجات الفلسطينيّة أو العربيّة البديلة التي لا تدعم إسرائيل. كذلك انتشرت دعوات تطالب بإلغاء مظاهر الاحتفال والزينة في المساحات الخاصّة والعامّة في فلسطين.
وفي الوقت الذي خرجت من غزّة قبيل رمضان دعوات تطلب من الفلسطينيين والعرب عدم الاحتفال بموائدهم المتخمة بالطعام، انتشرت حملات أخرى تدعو الفلسطينيين إلى العزوف عن التبذير في الطعام وإلغاء الولائم وعدم تصوير موائد الإفطار، وإرسال الأموال إلى غزّة بدلاً عن ذلك لتوفير الطعام للصائمين هناك.
"هل لأحد مزاج لمتابعة المسلسلات؟"
تنتقل شاشات الفلسطينيين بين القنوات الإخباريّة المختلفة. ولعل كثيرين منهم لا يعرفون شيئاً عن المسلسلات الرمضانيّة التي أنتجت لهذا العام. تؤكد نجوى أنّ رمضان هو امتداد لخمسة أشهر من الأخبار الدمويّة التي تشاهدها عبر التلفاز طوال اليوم. "نستفيق وننام على الأخبار. أولادنا يستشهدون أمام أعيننا. هذا هو رمضان الحقيقيّ"، تقول وتردف: "كنّا نصلّي من أجل انتهاء الحرب قبل رمضان. الآن نصلّى حتّى تنتهي قبل العيد. ليس هناك دعاء آخر".
أمّا أماني فكانت تشاهد المسلسلات في السنوات السّابقة، وتتحدّث مع عائلتها عنها خلال سهراتهم الرمضانيّة. "أمّا الآن، فلا نتابع سوى الأخبار، ولا حديث لنا سوى الحرب"، تقول. ينطبق الأمر على سلوى (57 عاماً، اسم مستعار) من أمّ الفحم، التي لا تزيح وجهها عن شاشة التلفاز وهي تتابع الأخبار منذ بداية الحرب. "هل لأحد مزاج لمتابعة المسلسلات؟ لا أحاول أصلاً أن أبدّل المحطة، أنتقل من محطّة إخباريّة عربيّة لأخرى فلسطينيّة"، تقول سلوى، مضيفةً: "كلّ طقوس رمضان غائبة هذا العام. رمضان حزين ونحن حزانى على غزّة".
هل لأحد مزاج لمتابعة المسلسلات؟ لا أحاول أصلاً أن أبدّل المحطة، أنتقل من محطّة إخباريّة عربيّة لأخرى فلسطينيّة
القدس الحزينة
تستقبل مدينة القدس مئات الآلاف من الزوّار والسيّاح كلّ عام في رمضان، في أجواء احتفاليّة ومبهجة. لكن مع استمرار العدوان على غزّة وعدم تمكّن فلسطينيي الضفّة من الوصول إلى القدس، تحوّلت المدينة المقدّسة إلى مدينة حزينة ومطفأة. هكذا يراها المقدسيّ غسّان (اسم مستعار)، الذي يقول لرصيف22: "أنا أعمل في السياحة. وفي مثل هذا الوقت من العام أكون مشغولاً جداً مع السياح الأجانب. لكن منذ بداية الحرب توقف عملي".
ويضيف: "أجواء رمضان في القدس دائماً مميّزة. نحن المقدسيّون لا نجلس في منازلنا خلال هذا الشهر، فإما أن نكون في الأقصى أو في الأسواق القديمة أو في سهرات باب العامود. هذا العام، نحن حزانى وصلاتنا حزينة. ناهيك عن القلق من الأجواء العامّة بسبب تشديدات قوّات الاحتلال الإسرائيليّ".
أمّا فادي زعبي ( 25 عاماً) من قرية طمرة، فيواظب خلال شهر رمضان من كلّ عام، على زيارة مدينة القدس والصلاة في المسجد الأقصى المبارك، فيقول لرصيف22: "شهر رمضان يحل علينا حزيناً في القدس هذه السنة. تغيّرت حال المدينة وانقلبت رأساً على عقب. أجواء رمضان في القدس، التي أحببناها وانتظرناها طوال أيام السنة، لم تعد كما كانت".
ويضيف: "منذ زيارتي الأولى للقدس، كان الحزن جليّاً في كل الأزقة, لم نر الزينة التي اعتدناها. أمّا الأسواق فكانت شبه خالية عند مطلع الشّهر. كذلك أعداد الوافدين من مناطق الجليل والمثلث، كانت في بداية رمضان أقل بكثير مقارنة مع السنوات السّابقة. ثمّ عادت وارتفعت بعد ذلك، ولعلّها فاقت الآن السنوات السابقة أيضاً".
الأسواق متضامنة أيضاً
خلت أسواق فلسطين من مظاهر زينة شهر رمضان المبارك. ذلك لأنّ عدداً كبيراً من المحال التجاريّة أصدرت مواقفها وعمّمتها كي يكون التضامن مع غزّة شاملاً وعامّاً. يقول أحمد (46 عاماً، اسم مستعار)، وهو صاحب أحد المحالّ التجارية في مدينة رام الله وجنين، والمعروفة ببيع زينة رمضان: "في العادة، أنتظر الشهور والأيّام كي يحلّ شهر رمضان، فهو الموسم الذي أعتمد عليه في محالي التجاريّة كلّ عام. لكنّي امتنعت هذه السّنة عن الزينة والأضواء، وقمت بنشر إعلان على صفحات المحل على مواقع التواصل الاجتماعي لأشجع أصحاب المحال الأخرى على فعل الشيء نفسه. وقد تجاوبوا". فوجئ أحمد من ردود فعل الزبائن، إذ تواصل بعضهم معه هاتفياً لشكره على هذه الخطوة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...