شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ليالي رمضان المطلة على البحر وصوت المساجد العريقة... هكذا قتلت إسرائيل روحانية غزة

ليالي رمضان المطلة على البحر وصوت المساجد العريقة... هكذا قتلت إسرائيل روحانية غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 27 مارس 202412:57 م

لم يكن رمضان في غزّة شهر عبادة وحسب، فلدى أهل غزة طقوس وعاداتٍ اجتماعيّة وروحانيّة يزيّنون بها مدينتهم البحريّة ويبعثون فيها صوتاً داخليّاً خاشعاً يحثّ على حبّ الحياة. "كان رمضان في غزة مثار بهجة لجميع الناس، الغني والفقير. أنا لم أسافر من قبل، لكنّي كنت أشعر بأن غزة، بطبيعة مناخها المعتدل، بأبنيتها القديمة والحديثة، وشوارعها الضيقة، تمنح رمضان المزيد من البهاء، والمتعة البصريّة التي لن تلحظها في أيّ مكان آخر في العالم"، يقول أبو عصام (56 عاماً)، النازح من مدينة غزة إلى جنوب مدينة رفح، متحسّراً على مجيء رمضان هذا العام ومدينة غزة في هذه الحالة، مطفأة، دون كهرباء أو زينة، فارغة من الطعام، ومتهدّمة.

لقد صدّر لنا الاحتلال على مدار العقود الماضية صور غزّة في الحرب، لكنّها عرفت في شهر رمضان قبل الحرب مظاهر الجمال والتعبّد والفرح. عرفت العبادات في النّهار، ولقاءات العائلة والتزاور وسهرات الأحباب عند شاطئها ليلاً. لكن الحرب جردت رمضان من عباءته المضيئة، وقدمته للناس هيكلاً عظمياً، يزيد جوعهم ويؤلم ذاكرتهم المسلوبة.

ما سُلب من الغزيين ليس الطعام فقط

يعيش ما يقارب 800 ألف غزيّ في الشمال حرب تجويع ممنهجة، ما أضفى على رمضان لدى الفلسطينيين والعرب والمناصرين للقضيّة الفلسطينية صورة قاسية عن الصيام عن الطعام. لكن غزّة لم تفقد موائدها وحسب، بل فقدت ضحكتها وأبناءها ومساجدها وأسواقها وأجواءها الروحانيّة. في سنوات رمضان السابقة، لم تكن زينة تلك التي تملأ شوارع وبيوت غزة، بل مشاعر فرح يطلقها الغزيون بقدوم الشهر الكريم. كنا نشعر أن المدينة تضحك لأهلها، وترمّم متاعبهم. شهر رمضان كان راحة يد إلهية مفتوحة لاحتضان الغزيين المنهكين من الحصار طيلة العام.

"كان المساء للعبادة وصلاة التراويح، وزيارات الأهل والأقارب. كلّ ربّ عائلة يذهب بهدية رمضانية إلى أقاربه. يتسامرون حتى منتصف الليل، فأهل غزة يسهرون حتّى الفجر خلال أيّام رمضان. منهم من يتعبّد ومنهم من يتابع المسلسلات الرمضانيّة"، يقول أبو عصام، ويردف: "لقد كانت الحياة جميلة على الرغم من المصاعب. في رمضان هذا العام، لم يبق لنا سوى الألم والقهر".

ويستطرد: "كانت الليلة الأولى لثبوت رمضان بمثابة فرحة كبيرة عند الناس، وبهجة من الصّعب وصفها. تكون البيوت والشوارع الضيّقة قد زيّنت. يغادر الناس منازلهم وأعمالهم، مهرولين لصلاة التراويح. أصوات المساجد تعلو بالتلاوة الجميلة للقرآن. ثمّة سكينة وهدوء وطمأنينة تبعث داخل غزّة في رمضان".

لعلّ البحر يضفي سحراً خاصّاً على روحانيّة المدينة، إذ يتلألأ لدى انعكاس الأضواء على المحال المزيّنة والساهرة في ليالي رمضان؟

البحر وهو يزيد من روحانيّة المدينة

لطالما تأمّلت دعاء مصلح (32 عاماً) رمضان من زاوية أخرى: "كان رمضان في غزة شهراً لاستعادة المحبة والتواصل بين الناس. لهذا الشهر أثر كبير على أهل غزة. فيزداد جهد أهل الخير خلاله، وتكثر الجمعات العائلية والولائم"، تقول لرصيف22.

وتضيف: "في معظم ليالي الشّهر، كنّا نجتمع مع الأهل والأصدقاء في "كافيه الباقة". هذا المكان مصمم بطريقة تريح النفس، فهو شعبيّ وغير متكلف. يشعر الزائر في كلّ ركن من أركانه كأنّه جزء أصيل من المنزل. فكل عائلة تعد مأكولاتها وتأتي بها إلى طاولة واحدة كبيرة تتسع لأكثر من عشر عائلات. كنّا نعدّ المسخن والمقلوبة والملوخيّة والمقبلات".

تتذكّر دعاء متعة التشارك في تحضير الطعام قبل ساعة المغرب. ثمّ تذهب لتلتقي الأحباب في أحد مقاهي ميناء غزة. "أبكي حسرةً كلّما تذكّرت هذه اللحظات الآن. فقد فقدت خلال الحرب بعض من شاركنا في تلك اللقاءات. كيف ننسى من اقتسمنا معه اللقمة ذات مرة؟"، تقول.

ولعلّ البحر يضفي سحراً خاصّاً على روحانيّة المدينة، إذ يتلألأ لدى انعكاس الأضواء على المحال المزيّنة والساهرة في ليالي رمضان؟ "يا إلهي كم كانت ليالي رمضان على الشاطئ جميلة. كم كانت الحياة دافئة"، تقول دعاء مستذكرةً.

لأحمد العجلة (23 عاماً)، أيضاً، ذكريات مع الجلسات الرمضانيّة المطلّة على البحر: "في وقت متأخر من الليل، نذهب لمطعم السوريّ في حيّ الرمال الشمالي، يضع عند مدخله أجمل زينة في غزة. كان الناس يأتون خصّيصاً إلى هذا المكان من أجل التقاط الصور مع الإطلالة الجميلة هناك، ومن أجل الحصول على وجبة سوريّة لذيذة"، يقول أحمد لرصيف22. ويؤكد أنّ منطقة شمال مدينة غزّة كانت تمتلئ بالعائلات، حيث الجلسات التي تطلّ على البحر وجمال الطبيعة والهدوء الروحانيّ الذي يأتي به رمضان.

"لكن الاحتلال خرّب حياتنا، هدم ذاكرتنا مع الأشياء، لدرجة أنني صرت أخاف أن نتذكر ما مضى"، تقول دعاء، وتردف: "وكأن علينا أن نقفل الماضي ونتأقلم مع لحظات الحرب البشعة التي قتلت كل شيء من طقوس رمضان، سرقت جماله، وأبقت لنا مشقّة الصيام".

كنت أتسوق بفرحة وشغف ورضا عن الحياة وما فيها. وكانت غزة بهية، تبقى مزينة طيلة الشهر الفضيل

سوق الزاوية... قلب غزّة التاريخيّ

كانت تبدأ يوميّات أبو عصام في رمضان عند الظهر. يبيع القطايف على باب منزله، لكن ليس قبل أن يذهب إلى سوق الزاوية القريب من منزله. هذا السوق التاريخيّ القديم الذي يعجّ بالمحال والمتسوّقين. "تمتلئ المحال بالبضائع الرمضانيّة كالمخللات والحلوى والتمر والحلاوة الطحينيّة والكنافة. كما تصدح الأغاني والأناشيد والأدعية الرمضانيّة"، يقول أبو عصام.

ويضيف: "يحمل هذا المكان تحديداً التاريخ الأصيل لغزة، ويحمل الحب لزواره. تشعر أن الناس داخله آتون من زمن آخر، يتركون مشاكل الحياة، لينعموا بصوت قديم للمدينة. كنت أتسوق بفرحة وشغف ورضا عن الحياة وما فيها. وكانت غزة بهية، تبقى مزينة طيلة الشهر الفضيل".

تفتقد غزّة مساجدها العريقة

شاهدنا صوراً لمصلين يقيمون الصلاة في ساحات المساجد المدمّرة في غزّة، بعد أن دمّر الاحتلال جميع مساجد المدينة، الحديثة منها والقديمة، بما فيها المسجد العمري والخالدي. كان أحمد يسهر مع أصدقائه في كافيه قريب من مسجد الخالدي. "إنّه معلم غزيّ غاية في الجمال. تصميمه مذهل. يزيّن بحر غزّة طوال الليل ويعلوه صوت قارئ القرآن وهو يقيم الليل. فيرتاده الناس للاعتكاف والعبادة"، يقول أحمد.

وقد ينطلق أحمد نحو المسجد العمري، بعد أن يمرّ بمحل أبو السعود للحلويّات لتناول الكنافة النابلسيّة أو العربيّة المبهّرة، ثمّ يتمشى في شوارع حيّ الرمال قبل أن يصل المسجد. يقول أحمد: "العمري هو من أقدم مساجد المدينة وأعرقها، بُني في غزّة القديمة في منطقة السّاحة. نصلي فيه قيام الليل، تحت إضاءته الروحانية وصوت مقرئه المبهر، والخشوع الذي يجلبه شهر رمضان إلى داخل المسجد".

ويستدرك بحسرة: " كل ما ذكرته عن يومياتي وطقوسي في رمضان تم تدميره. لم يعد يمنحنا أي من تلك الأماكن الجمال. لقد جعلوا غزتنا الجميلة مكاناً معتماً مليئاً بالأشلاء والجثث والمباني المبعثرة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image