جميع الفلسطينيّين يطبخون الملوخية، لكن أهل غزّة تحديداً يستقبلون بها الشهر الفضيل، فاخضرارها يدلّ على الخير، وغيابها على غيابه. تشعر ختام علي (40 عاماً) من رفح بالحسرة وغياب البركة في رمضان هذا العام، تقول: "ورثت عادة تحضير الملوخيّة في اليوم الأول من رمضان عن والدتي. ومنذ أن تزوجت منذ عشرين عاماً حرصتُ على إعدادها لأبنائي"، تقول لرصيف22. وتشير بأن الحرب قتلت هذه العادة التي توارثها الغزيون جيلاً بعد جيل.
بات المشهد الرمضاني في غزة مرعباً إثر تجاوز عدد الذين قضوا في مجازر الطحين والمساعدات 500 شهيد، وإثر انتشار صور العائلات الغزية في الشمال وهي تفطر على "حساء أعشاب".
ولعل انتزاع الدفء الذي يشعر به الصائم على الإفطار يمسي مضاعفاً حين يكون المرء نازحاً. لأنه ينتزع منه دفء البيت أيضاً. برفقة شقيقتها في خيمتهما المتواضعة؛ تجلس ريهام (28 عاماً) حول مائدة تخلو من أصناف الطعام الذي اعتدن تحضيره في رمضان، فيكتفين بتناول طبق من الأرز حصلن عليه من أحد المتبرّعين. تأكل ريهام وجبتها البسيطة على صوت الصواريخ التي يرميها الاحتلال من سماء غزة. المدينة، التي كونت لنفسها مطبخاً خاصاً، وأطباقاً شعبية تُعد في غزة وحدها، بالإضافة إلى الأطباق الفلسطينيّة التقليدية، تواجه حرب تجويع وإبادة منذ ستة أشهر متواصلة.
موائد يتيمة
تقول ختام: "كان زوجي في السابق يذهب إلى السوق في أول أيام رمضان، لشراء أوراق الملوخية الخضراء. فأقوم بقطف أوراقها ثم غسلها وتجفيفها، ثم فرمها يدوياً حتى تصبح ناعمة ولزجة. وأطبخها بحساء الدجاج وأضيف إليها الثوم فتفوح رائحتها من نوافذ المطبخ وتملأ الحارة". وتكمل ممازحة في إشارة لحب الغزيين لهذا الطبق: "كنتِ ستجدين الملوخية تسري في عروقنا بعد الإفطار".
بات المشهد الرمضاني في غزة مرعباً إثر تجاوز عدد الذين قضوا في مجازر الطحين والمساعدات 500 شهيد، وإثر انتشار صور العائلات الغزية في الشمال وهي تفطر على "حساء أعشاب"
أما ريهام، التي نزحت مع شقيقاتها، فتصف مائدة رمضان هذا العام بالـ"يتيمة"، بعد أن قطعت الحرب الأوصال، وفرّقت الأحباب، وغيّبت أشهى المأكولات. تقول لرصيف22: "جرت العادة عندنا بأن نقوم بتحضير المسخن الفلسطيني، لنزين به موائدنا الرمضانية في الأيام الأولى، كان والدي يدعو شقيقاتي وأزواجهن وأشقائي وزوجاتهم، لنجتمع حول المسخن، بينما صوتنا وضجيجنا يملأ المنزل، لكن الحرب أفقدتنا معنى العائلة والأجواء الأسرية الجميلة".
يتناول الغزيون المسخن، الطبق التقليدي المكون من الخبز والبصل والسماق والدجاج، إلى جانب عصير الخروب؛ أشهر العصائر الرمضانية الغزية. ويتوسط الطبق الكبير موائد الغزيات المزينة بالأواني الجديدة التي تفتح شهية الصائمين، كما تقول ريهام.
ومن بين المأكولات الغزية التي لا نجدها في فلسطين التاريخية، تشتهر السماقيّة، المكونة من السلق الأخضر، والسماق، والبصل، ولحم الضأن والحمص. تقول ختام عن هذا الطبق: "نسميه طبق العزائم، إذ كنا نجتمع حوله في الأسبوع الأول من رمضان، مع الأسرة وأشقاء زوجي وزوجاتهم. وقد اعتدت أن أقوم أنا بتحضير السماقيّة للعائلة".
مقلوبة بمئة دولار
تبكي ياسمين الداية (18 عاماً) إلى جانب خيمتها، وتقول لوالدتها: "أحلم بتناول المقلوبة ". فتعلق والدتها الخمسينية: "جعلت الحرب من طعامنا المعتاد أحلاماً. لا يتوفر عندنا سوى الأرز، عله يملأ بطوننا الخاوية".
تضيف في معرض حديثها لرصيف22: "اعتدت في أيام رمضان الأولى أن أجهز مائدة طويلة عريضة من أطيب وأشهى المأكولات، وعلى رأسها المقلوبة. يتشارك أبنائي قلبها وسط أجواء عائلية جميلة. وأحضّر إلى جانبها أصنافاً متعددة من السلطات، أشهرها السلطة الغزاوية، بالإضافة إلى أطباق المخللات وحساء الخضروات". وتقول إن طبق المقلوبة لستة أفراد سيكلفها اليوم حوالي 100 دولار، وهو مبلغ فلكي في ظل حياتها مع النزوح، بينما كانت تكلفة المقلوبة قبل الحرب لا تتجاوز 30 دولار. "نحن نعاني الغلاء الفاحش والحرب الشرسة معاً".
الحمص والفلافل تحت الركام
في مثل هذه الأيام من شهر رمضان من العام الماضي، كان محمود فارس (29 عاماً) يعمل على تحضير عجينة الفلافل والحمص لزبائنه داخل محله الشعبي في حي النصر غربي قطاع غزة. حيث كان محله يعج بالصائمين الآتين لشراء الفلافل والحمص؛ وهي أطباق رئيسة تزين موائد الغزيين الرمضانية. تعرّضَ محله للقصف الإسرائيلي، ففقد محمود رزقه، وفقد الزبائن أكلتهم المفضلة.
يقول لرصيف22: "كان الزبائن يصطفون في طوابير لشراء الحمص والفلافل، أهم أكلاتنا الشعبية في فلسطين وغزة. عندما يدمر الاحتلال مطعماً شعبياً لصنع الفلافل والحمص، فهو يدمر جزءاً من تراثنا ويمحو هويتنا، وأكلاتنا الشعبية".
لكن محمود لم ينزح، وظلّ في منطقة سكنه، حيث ذهب لتفقّد محله المدمر، في محاولة لإعادة إحياء أطباق الفلافل والحمص من تحت الركام، وفتْح المحل أمام الزبائن، حتى لو كان ذلك فوق الرصيف، وبإمكانيات متواضعة.
"أمانة ياعالم ما تصوروا الأكل"
في الوقت الذي يستقبل فيه المسلمون رمضان بجمعة العائلة والطعام الشهي، يدعو الغزيون، الذين يواجهون تجويعاً لم يشهده التاريخ البشري الحديث، العالم إلى التضامن معهم، وعدم نشر صور الطعام عبر وسائل التواصل الاجتماعي. "أمانة ياعالم ما تصوروا الأكل. نحن نشعر بالجوع والموت". بهذه الكلمات وجّه الستيني نايف العبادلة رسالته إلى العالم، بينما كان أزير الطائرات الإسرائيلية يحوم في سماء المدينة باحثاً عن هدف يقصفه.
رصيف22 التقاه جالساً على الرصيف في سوق دير البلح، المنطقة التي تعج بالنازحين الخاوية أمعاؤهم، بعد رحلة بحث عن حلويات القطايف التي اعتاد أن يجلبها معه بعد صلاة التراويح إلى البيت لأبنائه وأحفاده. يقول: "أشتهي القطايف لكني لا أجدها. لأول مرة منذ ولادتي، يمر رمضان دون تناولها. حرمتنا الحرب متعة رمضان وطقوسه وطعامه". حاول نايف أن يجد عبر الإنترنت طريقة تساعد زوجته على تحضير عجينة القطايف في المنزل، لكنه فشل لأن المكونات غير موجودة، وما يتوافر منها ثمنه باهظ جداً. يقول: "لم يزعجني ذلك بقدر ما أزعجتني صور ومقاطع فيديو ينشرها الناس وهم يحتفون بموائدهم أمام أعيننا. نحن بحاجة لأن يتضامن العالم معنا".
"أمانة ياعالم ما تصوروا الأكل. نحن نشعر بالجوع والموت"
حرب التجويع
يعقب المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر لرصيف22 على موضوع غلاء الأسعار الذي تسببت به الحرب المتواصلة، قائلاً:"استنزفت الحرب جيوب الغزيين وحياتهم المعيشية والإنسانية والاقتصادية، وحرمتهم معظم عاداتهم الرمضانية،وعلى رأسها الطعام". موضحاً بأن غلاء الأسعار يعود أيضاً لإغلاق المعابر، واحتكار السلع من قبل فئة معينة من التجار، مما يؤدي لانخفاض القدرة الشرائية. "تستهدف إسرائيل المائدة الغزية بشكل مباشر، وضمن خطة ممنهجة هي التجويع. وحتى المساعدات الإغاثية التي تصل براً أو جواً لا تكفي لسد رمق 2 بالمئة من الغزيين، لا سيما في منطقة الشمال التي تعاني مجاعة حقيقيّة"، يقول أبو قمر.
وقد تسببت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إلى انخفاض الناتج المحلي للفرد بأكثر من 80 بالمئة، وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.فيما أشار البنك الدولي في تقرير له إلى أن "كل فرد في قطاع غزة سيعيش في فقر مدقع على المدى المنظور، مما ينذر بأوضاع اقتصادية معيشية كارثية".
غيّبت الحرب الإسرائيلية على غزة الموائد الرمضانية. وتبدلت روائح الطعام التي كانت تفوح في أحياء وشوراع القطاع لدى اقتراب موعد الإفطار، برائحة البارود ودماء الشهداء. أما الأحياء، فيقضون الشهر جوعى، نازحين، بعيداً عن منازلهم، وسط غلاء جنوني، وأفق ضبابي عند الحديث عن انتهاء الحرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون