ما أن وقعت فلسطين تحت الاحتلال الصليبي (في القرن الحادي عشر الميلادي) حتى بدأ المحتلون بإنشاء مستوطنات خاصة بهم، عبر إفراغ القرى التي سيطروا عليها من أهلها الأصليين، وتوطين المهاجرين الأوروبيين مكانهم، وذلك بعد جذبهم من أوروبا بحجة حماية مقدساتهم الدينية، ومنحهم امتيازات عديدةً.
ويذكر الدكتور مصعب حمادي نجم الزيدي في كتابه "الصليبيون في بلاد الشام"، أنه بعد أن حققت الحملة الصليبية الأولى هدفَها المُعلن، وهو احتلال القدس، غادر بعض كبار القادة الصليبيين إلى أوروبا، مثل روبرت الفلاندر، وروبرت النورماندي، بينما ظل العدد الأكبر من القادة الآخرين متواجدين في بلاد الشام، وأبرزهم جودفري البويوني، وبلدوين الأول، وبلدوين الثاني، ويرمون الأول، وكونت تولوز، وتانكرد هوتفيل، فقد كان عليهم أن يقوموا بمهمة الإدارة الاستعمارية الاستيطانية.
استقطاب الأوروبيين
ولأن الصليبيين كانوا أقل كثيراً من حيث العدد، مقارنةً بالعرب المسلمين أصحاب البلاد، فقد حاولوا قدر المستطاع أن يشجعوا الهجرة من أوروبا إلى فلسطين لدعم وجودهم فيها. وفي الوقت نفسه، كانت أخبار النجاحات التي حققتها الحملة الصليبية الأولى قد شجعت عناصر أوروبيةً جديدةً على القدوم إلى بلاد الشام، رغبةً في الحصول على نصيب من المغانم والمكاسب التي شاعت أخبارها في الغرب الأوروبي مع العائدين من فلسطين.
عندما وقعت فلسطين تحت الاحتلال الصليبي، بدأ المحتلون بإنشاء مستوطنات خاصة بهم، عبر إفراغ القرى التي سيطروا عليها من أهلها الأصليين، وتوطين المهاجرين الأوروبيين مكانهم، وذلك بعد جذبهم من أوروبا
وبحسب الزيدي، أصبحت المدينة المقدسة بعد احتلالها خاليةً من السكان بسبب سلوك الصليبيين الهمجي والمجازر التي ارتكبوها في حق أهلها. وفي المقابل، كانت أعداد الصليبيين قليلةً جداً، وبقيت المشكلة الرئيسية التي واجهتهم هي نقص العنصر البشري، وعدم تناسب ذلك النقص مع سعة المنطقة التي استحوذوا عليها، وقد انتبهت السلطات الصليبية إلى تلك الظاهرة وحاولت معالجتها.
فالأمير جودفري البويوني، الذي يُعدّ واضع قواعد التنظيم الإداري الاستيطاني على أسس مشابهة للتنظيم الإقطاعي الأوروبي، اتخذ بعض الإجراءات في هذا الصدد، فوزّع الأراضي التي أٌفرغت من أهل المدينة من المسلمين والنصارى واليهود على المهاجرين الأوروبيين، كما أقرّ مبدأ الاستملاك الذي اتفق الصليبيون عليه قبل احتلالهم المدينة، والذي أُعطي بموجبه كلَّ صليبي يضع يده على منزلٍ أو أرضٍ الحقَّ في ملكيتها مطلقاً، كما عمد إلى طرد من ظلّوا على قيد الحياة من السكان الأصليين.
ولم يكتفِ جودفري بذلك، بل طلب في أثناء وداعه بعض قادة الصليبيين العائدين إلى أوروبا، أن يبذلوا قصارى جهدهم لتشجيع الأوروبيين للقدوم إلى الشرق بهدف "القتال من أجل الصليب"، مذكّراً بالوضع الحرج الذي أصبح عليه باقي الصليبيين، لا سيما أن الأخطار بدأت تهددهم وتحيط بهم.
ويروي الزيدي، أنه عندما توجه القائدان بوهيمند الأول وبلدوين الأول، ومعهما أعداد كبيرة من الصليبيين، قادمين من أنطاكية للحج في القدس، حاول جودفري أن يقنع قسماً منهم بالبقاء في فلسطين، واستطاع أن يحقق بعض النجاح في هذا الخصوص.
بلدوين الأول والاستيطان الصليبي
وعندما تُوّج بلدوين الأول، ملكاً على مملكة بيت المقدس الصليبية، لم يكن هناك من القوة البشرية ما يكفي لتثبيت أركان المملكة الناشئة، إذ كانت معظم الموانئ البحرية المهمة لا تزال خاضعةً لسيطرة المسلمين، كما أن الأراضي التي استولى عليها الصليبيون كانت لا تزال بحاجة إلى دعم.
ومن أجل معالجة الأزمة وتعويض النقص الحاد في عدد السكان الذي تعانيه المدينة المقدسة، لجأ بلدوين الأول إلى سياسة تشجيع الهجرة والاستقرار في القدس، على أن تكون الهجرة الاستيطانية ذات كثافة كافية، بما يكفل المستقبل الزراعي والاقتصادي للمملكة.
ازدهرت حركة الاستيطان الصليبي في مملكة بيت المقدس عندما تمكّن الصليبيون من السيطرة على المدن الساحلية مثل أرسوف وقيسارية، وكذلك عكا التي أصبحت في ما بعد عاصمةً لمملكة بيت المقدس.
ففي السنوات الأخيرة من حكمه، أمر بلدوين الأول بنقل النصارى الشرقيين (الأرثوذكس)، من القرى الواقعة ما وراء نهر الأردن، إلى مدينة القدس، وعندما قدموا إليها استقبلهم هو وقادة الصليبيين وزوجاتهم وأطفالهم، ومنحهم أجزاءً من المدينة المقدسة، ووفر لهم مساكن للإقامة فيها، كما خصص أماكن لقطعانهم ومواشيهم، وكذلك فرص عمل في الأراضي الزراعية التي تركها المسلمون إثر استيلاء الصليبيين عليها، كما ذكر الزيدي.
وأدت تلك الهجرة تدريجياً إلى حدوث زيادة ملحوظة في عدد سكان المدينة من الصليبيين، حتى وصل إلى نحو عشرة آلاف شخص استقروا فيها بشكل دائم. وبدورها أدت تلك الزيادة المضطردة في عدد السكان إلى خلق مشكلة أخرى تتعلق بتزويدهم بالطعام.
ولحلّ هذه الأزمة، أصدر الملك بلدوين الثاني، عند توليه مقاليد حكم المملكة، مرسوماً في سنة 512 هـ/ 1118 م، تضمّن إعفاء التجار الصليبيين من الضرائب والرسوم التي كانت تُفرض على السلع والبضائع، سواء المستوردة إلى المدينة المقدسة، أو المصدّرة منها، مهما كان نوعها، كما منح النصارى من الطوائف جميعها كالسريان والإغريق والأرمن، امتيازاً يحق لهم من خلاله استيراد الحبوب من القمح والشعير وغيرها، وجلبها إلى مدينة القدس دون ضريبة، فضلاً عن إلغاء الضريبة التي كانت تُفرض على الأوزان والمكاييل.
وبحسب الزيدي، كان للبابوية دور بارز في تشجيع الاستيطان، من خلال ما أصدرته من تعليمات تعدّ فيها مسألة السفر والإقامة في الأراضي المقدسة من باب التكفير عن الذنوب، وبناءً على ذلك كان آلاف الحجاج النصارى يأتون كل عام لزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، وبمجرد وصولهم إليها كان بعضهم يستقر فيها، كما توافدت أعداد من الفرسان من أوروبا لتأدية نذورهم للخدمة في فلسطين سنةً أو سنتين.
وبناءً على ذلك، ازدهرت حركة الاستيطان الصليبي في مملكة بيت المقدس في المرحلة اللاحقة، وذلك عندما تمكّن الصليبيون من السيطرة على المدن الساحلية مثل أرسوف وقيسارية، وكذلك عكا التي أصبحت في ما بعد عاصمةً لمملكة بيت المقدس، لازدهار نشاطها الاقتصادي ذي الطابع التجاري، إذ كان فيها ميناء كبير صالح لرسو السفن في كل فصول السنة، ما جعلها الميناء الرئيس للمملكة الصليبية.
مستوطنات وخطوط دفاع
بالإضافة إلى مستوطنات مملكة بيت المقدس، أقام الصليبيون في أماكن أخرى مستوطناتٍ وصل عددها إلى مئة مستوطنة، شملت مدناً وقرى وقلاعاً وحصوناً صغيرةً. وبحسب مصطفى قداد، في دراسته "الاستيطان الصليبي لبيت المقدس وتهجير المقدسيين"، حرص الصليبيون على إقامة المستوطنات في المناطق التي كانت تشكل كثافةً سكانيةً عاليةً، مثل منطقة قيسارية التي احتوت على ما يقرب من سبع وسبعين قريةً، كما امتد الاستيطان الإفرنجي في منطقة جبل القدس الممتدة من بيت لحم إلى القدس ورام الله.
ولم يكن اختيار الصليبيين لأماكن إقامة المستوطنات عبثياً، وإنما اعتمد على أسباب ودوافع مهمة، فاختيار قرية البيرة التي تقع على مقربة من مدينة القدس لإقامة مستوطنة صليبية على أراضيها، جاء من أجل أن تشكل نقطة جذب للمهاجرين الجدد، والادّعاء بصحة نواياهم في حماية مقدساتهم الدينية بعد تحريرها من أيدي المسلمين، وذلك للتغطية على أهدافهم في السيطرة على الأرض من أصحابها الأصليين. وأطلق الصليبيون على هذه المستوطنة اسم "Magna Mahumeria"، أي منطقة التعبّد الكبرى، أو المستوطنة الدينية الكبرى.
وبحسب قداد، لم تكن قرية البيرة خاليةً من سكانها الأصليين، فعمل الجنود الصليبيون على تهجير من بقي منهم بتوجيه من رجال الدين الصليبيين، ثم عمدوا إلى توطين مجموعة من المهاجرين الأوروبيين فيها، مع إقطاعهم مساحات من الأراضي ليقوموا بزراعتها والاستفادة من عائداتها مقابل دفع ضريبة العُشر لرجال الدين الصليبيين.
ولجعل مستوطنة البيرة خطَّ الدفاع الأول ضد أي هجوم يستهدف بيت المقدس، قام الصليبيون بتحصينها، فأحاطوها بالأسوار والأبراج لتكون بذلك قلعةً حصينةً ضد أي هجوم تتعرض له.
كما أقام الصليبيون مستوطنة القبيبة، وأطلقوا عليها اسم "المحمرة الصغرى"، وكانت تمتاز بموقع إستراتيجي مهم لوقوعها على الطريق الرئيس المؤدي من السهل الساحلي إلى القدس، وهي واقعة على طريق الحجاج، وفي أبراجها كان يتمركز عدد من الجنود والفرسان لمراقبة هذا الطريق بشكل دقيق، خاصةً أنه كان يتعرض لكثير من العمليات العسكرية والكمائن من قبل المقاومة الإسلامية ضد أفواج المهاجرين والحجاج القادمين من أوروبا، كما يروي قداد.
ولاستكمال خطوط الدفاع حول مدينة القدس، أقام الصليبيون مستوطنة راماتيس، على أرض الروم، وكان معظم سكانها من المسيحيين السريان، وامتلك بعض المستوطنين كرومَ العنب، خاصةً أن اقتصاد هذه المستوطنة اعتمد على الزراعة.
وإلى جانب المستوطنات المجاورة للمدينة المقدسة، أقام الصليبيون مستوطنات أخرى في المناطق الشمالية من فلسطين، ومنها قرية الزيب على بعد 14 كيلومتراً من شمال عكا، وأطلق عليها العرب اسم "الزاب".
المستوطنات الحدودية
وتُعدّ "الداروم" من القرى الحدودية الزراعية التي أقامها الصليبيون في جنوب غرب فلسطين، ففي سنة 564 هـ/ 1168 م، شيّدوا قلعة الداروم على مسافة 16 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من غزة، لتكون قاعدةً متقدمةً على الطريق إلى مصر، ومسرحاً لعملياتهم العسكرية التي تنطلق ضد مصر ومنطقة جنوب فلسطين، حسب ما ذكر حسام حلمي يوسف الأغا، في دراسته "الأوضاع الاجتماعية في فلسطين زمن الحروب الصليبية 492-690 هـ/ 1099-1291 م".
وإلى جانب هذه القلعة أنشأ الصليبيون مستعمرةً صغيرةً، وبنوا قريةً سكانها من المستوطنين الأوروبيين ذوي الأصول الفلاحية والمراتب الدنيا، وعمل مستوطنو قرية الداروم في ممارسة النشاط الزراعي.
كما شهدت هذه المنطقة حركةً تجاريةً نشطةً، وظهر ذلك في فرض ضريبة على المسافرين والتجار الذين كانوا يمرون عبر أراضيها.
وبلغ من اهتمام الملك عموري الأول، بقرية الداروم، أنه جمع فيها عدداً من الأسر التي كانت تمارس العمل الزراعي، وكذلك عدداً من التجار، وأقام عدداً من المرافق، وشجع الصليبيين على الاستيطان في هذه القرية الحدودية، فمنح كلَّ عائلة مساحةً كبيرةً من الأرض لزيادة الرقعة الزراعية في المنطقة، وقدّم لهم إعفاءات ضريبيةً، كما ذكر الأغا.
النظام الإقطاعي الأوروبي
وفي ظل النظام الإقطاعي الأوروبي الذي كان مطبّقاً في المستوطنات الصليبية، كانت الأرض تنتقل من إقطاعي إلى آخر، مقابل ضريبة معتدلة. وتذكر نعيمة عبد السلام الساحلي، في كتابها "الاستيطان الفرنجي وتأثيره في البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للكيانات الصليبية في فلسطين والساحل الشامي"، أن القسوس والرهبان استفادوا من تلك التسهيلات، ففي منطقة المحمرية الكبرى بالقرب من القدس، وُجد مشروع استيطاني كبير لرهبان القبر المقدس، تُطبّق فيه أنظمة شديدة الصرامة، من طرد وتشريد وغرامات، واستُغلت في ذلك حاجة الحجاج الفقراء الذين لا يجدون المال الكافي للعودة إلى أوطانهم، وكانت من القسوة إلى الحد الذي وُصفت معه بأنها "نوع من مستوطنات المجرمين".
کان للبابوية دور بارز في تشجيع الاستيطان، من خلال ما أصدرته من تعليمات تعدّ فيها مسألة السفر والإقامة في الأراضي المقدسة من باب التكفير عن الذنوب، وبناءً على ذلك كان آلاف الحجاج النصارى يأتون كل عام لزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين
ولم تكن هذه المستوطنات للمسيحيين فقط، بل سكن معهم فيها مسلمون أيضاً، خاصةً في المنطقة الجنوبية الشرقية، فحيثما لا يتوافر أفراد من النصارى المحليين أو الفرنجة لممارسة الزراعة، كان يُستقدَم المسلمون من أبناء الشام، وكانت تُبذل محاولات من أجل تنصيرهم، وفي الوقت نفسه كانت هناك قبائل بدوية تعيش على الرعي متنقلةً من مكان إلى آخر، وكان أفرادها يُعدّون مع قطعانهم من أملاك الخزانة الملكية.
المقاومة الشعبية
وبرغم إحكام الصليبيين سيطرتهم على مستوطناتهم، إلا أنها لم تسلم من حركات المقاومة الشعبية، والتي قادها قاضي المدينة المقدسة أبو القاسم مكي بن عبد السلام، الذي حرّض الناس على المقاومة إلى أن أُسر وقُتل، حسب ما ذكر قداد في دراسته المذكورة آنفاً.
كما عملت المقاومة على إفساد وطمر ما يقع حول مدينة القدس من ينابيع وعيون المياه، للتضييق على الصليبيين ونشر الأمراض في معسكراتهم، بالإضافة إلى تدمير صهاريج وأحواض مياه الأمطار، وامتنع كثير من المزارعين المحليين عن زراعة أراضي المستوطنين. وبحسب قداد، اضطرت أعداد كبيرة من الصليبيين إلى مغادرة الأرض المقدسة إلى الغرب الأوروبي، إذ لم تترك لهم المقاومة الشعبية مجالاً للشعور بالأمن والاستقرار فيها.
وبعد عقود من الاحتلال، وفي عام 583 هـ، انتصر السلطان صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين، وفتح بجيوشه المدن المقدسية، وما أن بدأ بمهاجمة الصليبيين حتى استسلموا وطلبوا الأمان. أما سكان المستوطنات الأخرى من الصليبيين، فقد هربوا بعد سماعهم بانتصارات صلاح الدين وكان مصير مستوطناتهم الزوال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...