شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أبو جواد... حفّار قبور غزّة الذي لا ينام

أبو جواد... حفّار قبور غزّة الذي لا ينام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 31 مارس 202402:58 م

الزيارة إلى المقبرة صعبة. ليس على صعيد المسافة، بل لما فرضته الحرب من انعدام للأمان في الذهاب من مكان إلى آخر. لكن هذا الرجل اختار أن يكون يومه زمنَ هذه المسافة والطريق بين المدينة، غزّة، والمقابر. يحفر سعدي بركة (أبو جواد) قبور الشهداء في أكثر من مكان بمدينة دير البلح وسط قطاع غزّة. كوّنت هذه المدينة الساحلية المعروفة بالنّخيل والبحر والزراعة، على مدار التاريخ، ملامح كثيرة من بينها مقابر شهدائها. وبعد السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، صار الموت خارج الاختيار وجمعيّاً، من حيث عدد الشهداء اليوميّ والعائلات التي تُقتل مرّة واحدة.

يسأل المرء نفسه أسئلة كثيرة قبل أن يبحث عن إجاباتها لدى العم سعدي. ماذا لو كنت مكانه؟ ما هي مشاعره؟ أفكاره؟ كيف هي رؤيته للعالم قبل وبعد الحرب؟ كل هذه الأسئلة يمكن أن تراود المرء الباحث عن قصة ضمن قصص كثيرة في غزة، متسارعة بفعل الحرب.

يخرج سعدي بركة من بيته عند السادسة صباحاً نحو المقبرة. يقضي نهاره هناك، حتّى الساعة السادسة مساءً. 12 ساعة بين الشهداء وحفر القبور والبحث عن مساحات لإيجاد قبر جديد. يقول أبو جواد ونحن نشاهده في شريط مصوّر سجلّه الصحافي أسامة الكحلوت: "والله لو أعطيتني عشرين كيلو من المنوّم لن أنام بسبب المشاهد التي أعيشها وأشاهدها. دفنت عائلات كاملة في مرات عديدة، وصنعت قبوراً جماعية".

يبكي بين القبور ويسأل "لماذا همّشت الناس غزة؟". السؤال مملوء بالحزن والوجع، ويكمن جوهره في الوقائع اليومية التي يحيا معها أبو جواد بين النظر إلى الشهداء، بين صمت العالم أمام ما يحدث، وبين رغبته في ألا تصبح القبور منسية عند تلاحم الجثث وتعدادها الذي لا يتوقّف.

والله لو أعطيتني عشرين كيلو من المنوّم لن أنام بسبب المشاهد التي أعيشها وأشاهدها

صوت الطائرات فوق المكان. صوت أبي جواد يكاد يختفي من شدّة الأزيز المخيف. يواصل حديثه مع الناس ويقابلهم. مذكّراً إيانا بشخصيّة اخترعها شكسبير لحفار القبور في "هاملت"، وشخصية مغسل أجساد الموتى في العراق في رواية "وحدها شجرة الرمان" لسنان أنطون. ففي غزّة تعاد القصص اليومية لما كتبه الروائي. والمقبرة جرسٌ لا يتوقف. يدقّ ويدقّ لدى استقباله جثامين الشهداء.

دفن أبو جواد حتّى هذه اللحظة ما يقارب 17 ألف شهيد. ويقول في ذات الشريط المسجّل: "نسبة الشهداء من النساء والأطفال 85%. اليوم لا أجد مكاناً كي أحفر قبراً. في السابق كان يخرج مع الشهيد ما يقارب ألفي شخص. في هذه الحرب، يخرج مع الشهيد عشرة أشخاص. نحن نجمع الحديد من الصفر حتّى نبني القبور".

حديث أبي جواد من داخل المقبرة مملوء بالأسئلة والاستغراب والمأساة، ومن حوله القبور المفتوحة، والقبور القديمة، والأخرى الحديثة التي حُفرت وامتلأت في زمن الإبادة.

لدور سعدي بركة في حفر القبور والبحث المستمرّ داخل المقابر شهادة حيّة ومباشرة للذاكرة الفلسطينيّة، ورسالة صوتيّة إلى الكون الذي يرى ويسمع كلّ ما يحدث في غزّة. ينهض أبو جواد من الأرض، ويقول: "القبور جماعيّة، أنظر إلى هذه القبور لعائلات كاملة من دير البلح! ماذا فعلت غزّة للعالم حتّى تُترك؟". ويضيف: "أصلّي الفجر، ثمّ أشرب الشاي. وأخرج إلى المقبرة. يرافقني ستّة عمّال. نصِل ونباشر في تحضير القبور الجماعيّة، تتّسع لعشرين، أو ثلاثين أو حتّى أربعين. وهناك قبور أكبر من ذلك.

يقول أبو جواد إنه يحتاج إلى مواد كثيرة كي يدفن الشهداء بكرامتهم. وأنّ هناك عائلات دفن منها أشلاء ستّة أشخاص في كفن واحد. "عائلات بكاملها مسحت من السجلّ المدنيّ وتبقى منها طفل أو طفلة بعمر شهرين. ماذا فعلت هذه الطفلة لتعيش دون أب وأمّ وعائلة؟".

يعود هذا الحديث القاسي والمؤلم بسؤال قديم طرحه غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا": "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله"، وحدث ما لا يمكن تصوّره حتّى في كتب الخيال. حدث ما لا يمكن تصديقه في غزّة المحاصرة بالموت المتلاحق.

لكن ما الذي يدفع المرء للتوجّه لهذه المهمّة الصعبة والشّاقة؟ في صوت أبي جواد وملامحه الباكية إجابات كثيرة، في حديث هذا البطل المنغرس في الأرض بين القبور، في كلامه للناس وبكائه أمام الشهداء

هل يمكن أن يتصوّر المرء ذلك حين لا تتوقّف يداه عن الحفر وحمل الجثامين والدعاء لهم في رحلتهم الجماعيّة الأخيرة؟ هل يمكن أن يتصوّر البعيد ذلك؟ يسهل التخيّل في زمن التسجيل، في الزمن الذي تكون فيه الذاكرة علامات وشواهد وقصصاً تروى مع كلّ سيرة ومسيرة يحاول الاحتلال قتلها.

لكن ما الذي يدفع المرء للتوجّه لهذه المهمّة الصعبة والشّاقة؟ في صوت أبي جواد وملامحه الباكية إجابات كثيرة، في حديث هذا البطل المنغرس في الأرض بين القبور، في كلامه للناس وبكائه أمام الشهداء، وثيقة للذاكرة. حتّى وإن انتهينا من الكتابة عنه، سوف يواصل أبو جواد رحلة لا تنتهي. الرحلة مستمرّة لأنّ الإبادة مستمرّة، وملاحقة الفلسطينيين في غزّة حتّى موتهم المحقّق مستمرّة.

يقول حسين البرغوثي: "تنتهي الطرقات بين يديّ يا روحي, تعالي يا روحي للبراري حيث هناك يحيا الحرُّ مثل الله, لستُ أدري كيف؟ أو أين؟ لكن رب هذا البرّ أدرى". وثمرة البراري عند أبي جواد تزامنت مع زمن الشهداء، فيلتف الحجر فوق الأرض، ويفتح في الجوار قبراً يبحث عن شهيد، لشهيد يبحث عن قبر، وأبو جواد سرديّة المقبرة والذاكرة الباقيّة. الذاكرة الممتدّة بين مدينة ومقبرة في زمن الحرب؛ الحرب التي لم تتوقّف منذ ستّة أشهر. من يوقف الحرب؟ ستكون المقبرة سجّلت عند إيقاف الحرب شريطها الأكبر، الشريط الأكبر في رحلة الفلسطينيّ في زمنه ومنفاه ووطنه المحتلّ.

أبو جواد شخصيّة من شخصيّات عديدة ظهرت في الحرب على غزة، ليكون دورها الفعليّ مملوءاً بالصبر والإيمان الوطنيّ والإنسانيّ وموثّقاً لمشاهد تؤكد ما لا يمكن تصوره. هذه الإبادة الوحشيّة لاحقت المقابر وقصفتها وطاردتها، لكن تبقى في حديث رجل المقبرة في غزة مئات الحكايات والقصص التي لا يستطيع العقل أن يحتويها، لقسوتها ولضخامةِ حجمها. ومن قصّة قصيرة عن سعدي بركة وعن يوميّاته في المقبرة، يمكن للمرء أن يرى ويسمع سيَر حيوات منقوصة وسير موتها الكامل في زمن الحرب. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard