شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بحر من الأكفان على مر المجازر... الحرب على غزة توقظ التروما السورية

بحر من الأكفان على مر المجازر... الحرب على غزة توقظ التروما السورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 17 مارس 202402:50 م

تمر الذكرى الثالثة عشرة على اندلاع الثورة السورية على السوريين ثقيلة وصعبة، إذ تترافق ذكرى أطياف صيحات الحرية الأولى مع صور واقع سوريا الذي يكاد لا يصدق، دمار عم المدن والقرى، ووضع اقتصادي خانق يحرم الناس في البلد من أساسيات العيش، وغربة ملايين، وفقد مضن ومؤلم، ونظام قاتل ما زال يتربع على عرش خرابه.

مضى على خروجي من سوريا أحد عشر عاماً، ورغم كل الأسى، كنت خلال السنوات الماضية أهنئ نفسي على مقدراتي على تجاوز التروما التي عشتها خلال السنتين الأوائل من الثورة في سوريا، واعتبرت في السنتين الأخيرتين أنني تماثلت للشفاء من آثار العنف الرهيب الذي مارسه النظام السوري ضد كل المواطنين بجهد بذلته يومياً في سبيل المضي قدماً وبداية حياة جديدة.

يجوع أهل غزة، فأستعيد حصار مضايا وحمص ومخيم اليرموك، وأتذكر حكاية الطفل الذي لم يتعرف إلى تفاحة، أعطاها له متطوع في إدلب بعد تهجيره من مدينته، لأنه ولد وعاش في الحصار.

جاءت حرب غزة، لتنكأ كل الجراح وتعيد كل الذكريات، وتعيدني للتساؤل عن موضوع الشفاء من التروما، وأصبح السؤال ملحاً مع كل صورة تصلنا من غزة.

أشاهد مشاهد القصف وسقوط الأبنية، فتتداخل في ذهني صور القصف والدمار بين سوريا وغزة. تسقط الأبنية في غزة تحت وطئة القصف، تتداخل تلك الصور مع صور البراميل المتفجرة التي تسقط عشوائياً على مساكن الناس، يركض الناس لإخراج الضحايا من تحت الأنقاض الغزية فتتداخل أصواتهم مع أصوات السوريين وهم ينتشلون ضحاياهم، يركض متطوعو الهلال الأحمر الفلسطيني لإنقاذ الجرحى فتتداخل صورهم مع صور متطوعي الدفاع المدني السوري وهم يحفرون الأنقاض لانتشال الضحايا.

أشاهد مشاهد الفلسطينيين وهم ينزحون حاملين متاعهم وأبناءهم فأتذكر مشاهد النزوح السوري الطويل، ينزح أهل غزة جنوباً فيما نزحت حمص والغوطة وداريا وحلب شمالاً، تغيرت الاتجاهات والموت واحد والفراق والألم واحد.

أشاهد صور الأكفان البيض التي تلف الشهداء في غزة، فتعود ذاكرتي إلى المجازر الجماعية والقبور الجماعية، يمتد بحر من الأكفان في غزة وتصطف في ذهني قربه أكفان من قضوا في مجزرة الكيماوي، تمتد الأكفان حتى تكاد تغلق الأفق.

تنتشر فيديوهات لأمهات وآباء يحملون جثث أبنائهم أو يمسدون أكفانها أو يطبعون عليها قبل الوداع، تعود إلى سطح الذاكرة صور دفنت بعيداً لآلاف الفيديوهات من الوداعات والرثاءات، لأمهات مكلومات وآباء مفجوعين.

يجوع أهل غزة، فأستعيد حصار مضايا وحمص ومخيم اليرموك، وأتذكر حكاية الطفل الذي لم يتعرف إلى تفاحة، أعطاها له متطوع في إدلب بعد تهجيره من مدينته، لأنه ولد وعاش في الحصار.

تقصف المشافي في غزة، فأتذكر المشافي التي قصفتها الطائرات الروسية، تظهر صور الخدج وفيديوهات لأطباء وطبيبات، ممرضون وممرضات يستنجدون لإنقاذ مرضاهم، فأنسى أنني أشاهد صوراً قادمة من غزة، تختلط علي الأزمان والمدن، لا يساعدني تشابه الوجوه التي أراها على فصل الشعبين والحكايتين.

يناشد أطفال غزة العالم، فأتذكر أطفال سورريا، يموت أطفال غزة فيعود سيل من صور الأطفال السوريين الشهداء حاضراً، تحزن عيون أطفال غزة ويكبرون فجأة، كما كبر أطفال سوريا فجأة وسكن الخذلان عيونهم.

تحيط بي في فرنسا المحطات الإعلامية التي تستضيف هؤلاء الذين يصرخون متحدثين عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، كما أغرقتنا محطات عربية كثيرة بالمدافعين النظام السوري وخطابه عن مكافحة الإرهاب، وفيما أفكر في تشابه سياسات البروباغندا، يموت نافالني في معتقله، ويصرح الكرملين أنه يحقق في أسباب هذا الموت المفاجئ.

أفكر بغرابتنا، لأن النظام العالمي ما زال يفاجئنا، فنحن ما زلنا نعول على إنسانيته التي تأكدنا منذ النكبة أنها لا تشملنا

يصمت العالم أو يدافع عن القاتل، أفكر بسلسلة الخيبات السورية، الفلسطينية، العراقية، اللبنانية التي شهدتها في حياتي والتي سمعت عنها من عائلتي. يطبق علي خناق الألم.

أقلع عن مشاهدة أخبار الحرب، أكتشف أنني لم أعد أستطع مشاهدة صور الضحايا، لم أعد أستطيع أن أراكم المزيد من الصور ولا المزيد من الخذلان ولا المزيد من الغضب. وأحزن حينما أواجه نفسي بحقيقة أنني لم أشف من التروما، أن تلك الصدمات المتتالية التي عشناها من الفقد والألم والفقد ليست إلا نائمة، تختبئ في زاوية قريبة مستعدة للانقضاض على روحي ما إن تتوفر لها الفرصة.

أتصل بالأصدقاء وكأنني أبحث عمن يطمئنني، عمن يخبرني بأن الشفاء ممكن، أجد أصدقائي في وضع نفسي سيء، عيونهم زائغة وأحاديثهم غير منسجمة، خيباتهم تتراكم وغضبهم المكبوت يكبر ويتضخم، يشتمون العالم وتخاذله. أفكر بغرابتنا، لأن النظام العالمي ما زال يفاجئنا، ما زلنا نعول على إنسانيته التي تأكدنا منذ النكبة أنها لا تشملنا.

وفجأة، من رحم اليأس والغضب، تخرج مظاهرات عارمة في المدن الكبرى في العالم تطالب بوقف المجزرة، تلاحق دولة جنوب أفريقيا الاحتلال في المحكمة الدولية، تغص وسائل التواصل الاجتماعي بفيديوهات من مختلف أنحاء العالم لنشطاء يدافعون عن الشعب الفلسطيني وحقه في الحياة الكريمة، يبكي الإنسانيون تعاطفاً مع جوع أطفال غزة، فأتذكر حكاية ضيفتي الأمريكية.

كنا أنا وزوجي بعد أن اكتشفنا متعة استكشاف العالم عبر الدراجات الهوائية، قررنا أن نستضيف في منزلنا سياحاً يستكشفون فرنسا بالدراجات ليلة واحدة، وصل الثنائي الأمريكي إلى بيتنا، شاب وصبية، طبخت لهم طعاماً سورياً بسيطاً وأطعمتهم، جلسنا معاً، وبدأنا نحدثهما عن سوريا، أشرت إلى علم الثورة السورية أو علم الاستقلال الذي نعلقه على الجدار وشرحت لهما أن هذا العلم تحول لرمز لنضال السوريين من أجل حريتهم، تجيبني الضيفة الأمريكية: "أعلم ذلك". فأشعر بالمفاجأة، فتشرح لي:

أفضل التمترس بالأمل. أمل بأن الإنسانيين كثر، أمل بأن السعي نحو العدالة ممكن، أمل بأن العالم ليس منظومة الأمم المتحدة المعطلة، أمل بأن الحرية والكرامة والعدالة لكل شعوب الأرض ممكنة

"بالصدفة في مطلع العام 2013، شاهدت فيديوهات عما يحدث في سوريا، وعن مواجهة النظام السوري للمظاهرات السلمية بالرصاص الحي، شعرت بألم عميق، ولم أعرف كيف أتضامن، فقررت أن أغير صورة حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي بصورة هذا العلم، يومها لم يفهم أحد من محيطي معنى هذا العلم ولا سبب وضعي له، ولكنني كنت متأكدة أن هذه الحادثة ذات يوم ستأخذ معنى ما، وها أنا اليوم في بيتك، ربما فقط كي أروي لك هذه الحكاية".

أشاهد كم التضامن الواسع، أسمع المتحدثين باسم جنوب إفريقيا، ألتقي بالشارع بفرنسية ترتدي الكوفية الفلسطينية، أتذكر ضيفتي الأمريكية، فأعود عن خذلاني وغضبي، وأفضل التمترس بالأمل. أمل بأن الإنسانيين كثر، أمل بأن السعي نحو العدالة ممكن، أمل بأن العالم ليس منظومة الأمم المتحدة المعطلة، أمل بأن الحرية والكرامة والعدالة لكل شعوب الأرض ممكنة، يوماً ما، ولو بعد حين، فقط إن سعينا من أجل تحقيقها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard