كيف تجرّأ ضوء الفجر على التسلل بين نوافذ حجرتي، ما دفعني لفرك عيني في لحظة الإفاقة من غفلة النوم، متكورة بين شخوص تألف قلوبهم الدفء في موقف الخوف. تعميهم اليقظة في اللحظة، يتدافعون نحو الباب للخروج إلى الحياة. حيث أرض بلا مأوى، صنابير دون ماء، أوعية تتوشح بفُتات الطعام، وسماء تمطر براميل متفجرة.
يهتزّ الهاتف بجانبي، يدفعني للاستلقاء على ظهري والإمساك به. لم أعد فضولية للاطلاع على الإشعارات. كل ما أهتم به، النظر إلى وجهي في مرآته كل صباح، والابتسامة بثغر أهلكه روتين الحرب، ويدان تبدلت نعومتهما بالتقشف، وبينما تنسدل على وجنتي شعرة، اثنتان، فأكثر. ينزلق أسفل جفني شيء لا مسمى له، تكون من خليط العواطف المتراكمة والمشاعر المتحجرة. كم هو مقلق! لابد من أن أذهب لطبيب يشخّص حالتي. أبحث عبر جوجل: "من أشهر طبيب برفح يستطيع...".
يأتيني نداء من أمي يقطع سؤالي: "انهضي نجيا لنُعد الطعام". يسألني عقلي: "هل تملكون مؤن في منزلكم؟"، أجيبه: "لا أملك ثمن فنجان قهوة أصلاً! لكن شعوري بأنها غير موجودة هون علي إفلاسي".
أتجاهل النداء وأعود إلى جوجل، حيث أعدّ لي قائمة من الإجابات على سؤالي قبل استكماله، بإن رفح الذي أبحث فيها عن أطباء يشخصون حالتي، على وشك الاقتحام من قبل قوات الاحتلال.
السابع من أكتوبر؟ هل لا يزال أثر هذا اليوم ممتداً حتى الآن! كل ما أذكره قبل ذلك التاريخ وجود وفاء أختي فقط. أختي التي لا أجرؤ على دخول غرفتها بعد استشهادها من الخوف. لم أتمكن حتى هذه اللحظة من لمس أشيائها أو النوم فيها بمفردي، لأنها كل ليلة تخبرني أن أجمل ما في الموت أنك لا تستيقظ.
تمام. جوجل لا يرشدني لطبيب... حسناً، أخبرني على الأقل كيف يمكنني البكاء؟
أبحث عبر جوجل: "من أشهر طبيب برفح يستطيع...". أعدّ لي قائمة من الإجابات على سؤالي قبل استكماله، بإن رفح الذي أبحث فيها عن أطباء يشخصون حالتي، على وشك الاقتحام من قبل قوات الاحتلال... مجاز
"نجيا أزيك؟". إشعار آخر يغطى على إجابة جوجل، يأتيني من أحمد، صحفي مصري. تعرفتُ عليه مع استشهاد شقيقتي وبنات عمومتي وأكثر من 18 فرداً من عائلتي، وصار بيننا صداقة وأنس إلكتروني. لا أستطيع أن أتحدث عن حالتي بغير واقعها، فأجيبه: "مش بخير بس عايشة.. نفس السيناريو، جوع، برد، قصف طول الليل. الإضافة أنه بدي علاج نفسي، كل يلي حكيتلك ياه نفسي أوصله للعالم، لكن كل ما أكتب بلاقي حالي كتبت شيء تاني".
يشجّعني أحمد على الكتابة، معتقداً بأنها تفرغ الطاقات! كم هو مقنع ومحفز أسلوب التنمية البشرية في المكاتب والقاعات، ذكرتني نصيحته بغسان كنفاني حينما كتب في "أرض البرتقال الحزين": "أولئك الذين يكتبون في الجرائد، يجلسون في مقاعد مريحة وغرف واسعة، فيها صور ومدفأة، ثم يكتبون عن حرب فلسطين. هم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها، ولو سمعوا إذن، لهربوا إلى حيث لا أدري".
يقطع حبل أفكاري ومحادثتنا أصوات النساء المتكدّسات في المطبخ، أتذكر أن منزلنا يأوي 20 نازحاً، بجانب أسرتي المكونة من 10 أفراد. غريبة في بيتي، لا أملك أدنى مستوى من الخصوصية. أنام مع أمي وأبي بنفس الغرفة من شهور، لأنه كيف يمكن تقنع أمّاً أنه من غير الممكن أن يموت كل أبنائها من الخوف؟
أغمض عيني، متجاهلة رسائل أحمد وضجيج النازحين ونداءات أمي المتكرّرة، وأمسك قلماً ينسجه خيالي، وأفرغ في السراب كلمات عشوائية دون ترتيب: "فوضى، تشوهات، هلوسة، هاوية، عبث، تباطؤ، جحيم، ظلام. مقبرة، دم، بؤس، خذلان، وحدة، جوع، برد، تشرد، وجع، صراخ، وحوش، صدمة، كابوس، إنكار، جنون، غضب، إفلاس، هدم، أرق، ضجيج، ضجر، نحيط، فزع، لا عودة، لا أمل، لا أساطير، لا أمان، لا خيال، لا أحلام، لا حياة".
ما بداخلي يغلي كأنه خيوط كثيرة متشابكة بطريقة معقدة، تؤذي أصابعي كلما حاولت فكها، أريد الصراخ في وجه الكون، لكني أخشى الخروج والتطلع إلى سماء لا تزال الطائرات تنهب هدوءها، وتضعني في قلق رغم إني لا أكترث للموت وأحب الحياة، وأفكر في قائمة المشتهيات التي تستفزّ احتياجي.
أشتهي شيئاً سكرياً طرياً، أشتهي الشوكولاتة، أشتهي تذوّق أي فاكهة، العصير الطبيعي، البيتزا، الشيبس، النسكافيه أو الكابتشينو أو أي مشروب ساخن لذيذ، وأن آكل حتى الشبع وقتما أريد. أشتهي أن أحلم أحلاماً جميلة في منامي، وأن أنام ملء جفني في غرفتي، وأن أتخفّف من ملابسي عند النوم دون خوف من القصف والموت بعورة ظاهرة.
تسلّلَ المللُ إلى قلبي الخائف بسبب الانفجارات وانعدام الانفراجات، أثناء تأمل قائمة المشتهيات، اجتاحَ الاختناقُ صدري كأنما يصعد إلى السماء في حرج، ما دفعني للتمرّد على الخوف والخروج إلى الشارع باحثة عن الانشراح، هاربة من ظلمة البيت المحروم من عصب الحياة "الكهرباء والمياه"، ربما ألتمس أنفاس الراحة بعد انشغال فكري متواصل.
الموز أحد الأمنيات العظيمة لي، لكني صرت من فرط جوعي آكل الحزن
خرجتُ متوكلة، رأيتُ بعض بيوت المخيم العالية خرّت هدّاً كأنها ساجدة، رأيتُ فوق الركام غرباناً لا تجيد البحث في الأرض، وأشلاء لا تعكف عليها الطيور والسباع، وإلى جانبها بيوت سقطت نوافذها من طغيان سريع نفّاث اخترقها، وجدران منفطرة متصدعة من خوف هاجمها. شاهدتُ أرصفة تجري من تحتها الأنهار، مياؤها حمراء ورائحتها زكية، تحكي عن قصص حزينة مبهمة النهايات.
أدركت بمدّ بصري حجراً، وقصدته كمساحة آمنة وعزلة هادئة. ما زال يراسلني أحمد: "وشو بتسمعي الآن؟". أجلس وأضع السماعات في أذني، أفتح قائمة موسيقاي، أتجوّل بينها بعيني، أحاول اختيار مقطوعة تهدأ من التشنجات التي تجتاح جسدي وتمزقه من هول أصوات الانفجارات اليومية.
أتساءل في نفسي، هل أرسل إليه أنني لا أستمع إلا لأصوات الانفجارات التي تحوم حولي، لكن كيف أشرح له الصوت: "وهوّا نازل بيسحب كل جسمي للأرض، وأنا أحس فيه مغناطيس شاددني لتحت والانفجار بينفضني زي الكهربا. وبعدها ببلش قلبي دقات ورا بعض ورا بعض، ورجلي بصيرو يرجفو رجف مش خوف، بس ردّ فعل طبيعي لجسمي وبصير فيه وجع بركبي ومغص بالمعدة. والشعور بضل مرافقني على مدار اليوم وبصير أرتعش من أقل شيء. تسكيرة باب، فتح شباك، اشي وقع".
أدخل في حالة من الشرود عند تذكر ما يُصيبني وقت سماع الصوت. تظلّ عيني تنظر إلى قائمة الموسيقى دون أن يضغط إصبعي على زر التشغيل. يسود الشاشة الظلام، ألمسها بإصبعي، فتظهر صورتي التي وضعتها كخلفية للهاتف: كم كنت جميلة قبل أن يمزقني الضياع، وتدفعني أمواجه نحو التيه والتشتت؟ ليتني أشعر بمعنى اسمي ينطبق على حالي، فأنجو من نفسي وأفكاري ومعلبات الفول.
آخر ما رقص قلبي فرحاً بتناوله، قطعة معمول قبل انقطاعه بسبب غلاء السكر، ولأقول الحق، الموز أحد الأمنيات العظيمة لي. لكني صرت من فرط جوعي آكل الحزن. الهجرة أصبحت هوساً، ليس من الحرب، بل من خوفي أن أفقدني: "أي علاج نفسي هلقيت رح أعيده تاني". مشاعري غير متزنة، أضحك واستمر بأشد اللحظات قسوة، فأخجل من نفسي. معقول فقدت آدميتي؟
أحاول ثانية الاستماع لأي شيء يلاعب الهواجس. يقترح علي التطبيق أمل دنقل، اتخذته كصديق مؤخراً، وباتت قصيدته "مراثي اليمامة" ورداً يومياً لابد من المرور بها، كونها تعكس واقعي.
أشتهي أن أحلم أحلاماً جميلة في منامي، وأن أنام ملء جفني في غرفتي، وأن أتخفّف من ملابسي عند النوم دون خوف من القصف والموت بعورة ظاهرة... مجاز
يبدأ دنقل في سرد الكلمات، وفجأة، أسمع هياجاً يحوم في سمائي، أعرفه جيداً. أنهض مرتعدة من دنوّ الغارة، راكضة صوب مأوى النزوح، تتعثر قدمي فينخلع الحذاء، أركض أسرع دون انتباه لما انخلع، تتعثر قدمي ببقايا دماء الأشلاء، أقع فيتسخ كلي. أنهض وأركض، تتعثر قدمي بحطام المباني، تتسرّب من بين أصابع قدمي الدماء، أصرخ وأنهض وأركض وأبكي. أركض والبكاء يختلط بالدماء وينهمران مني، كنهر كريم على روافده.
وصلت إلى المأوى، صفعت باب غرفتنا الموارب، وأبكمت فمي حتى لا تستفز تأوهاتي النائمين. اتخذت موضع نومي، وتكوّرت كجنين في تكوينه، وانزويت بين اثنتين. يتسرب أنيني بغير قصد. يفتضح أمري ولا ينتبهون. يعلو صوت البكاء. أمي، أبي، إخوتي، الجيران، النازحون، ألا يدركني أحد؟ تستدرجني نوبة التشنجات وتدخلني في حالة من اليأس والعجز ونحيب ممتد إلى أن تمر الغارة، فيسكن الفزع، وهم لا يزالون في حالة من النوم السرمدي.
جسدي ينزف، أعصابي شلت عن الحِراك، وفكري يطرق متسائلاً، ولا شيء يونس احتضاري سوى صوت دنقل الذي لم ينقطع من الهاتف: "أسائل: من للصغار الذين يطيرون كالنحل فوق التلال؟ ومن للعذارى اللواتي جعلن القلوب: قوارير تحفظ رائحة البرتقال؟ ومن سيروض هر الخيال؟ ومن سيضمّد في آخر الصيد جُرح الغزال؟".
هذا النص يسرد يوميات الشابة الفلسطينية نجيا محمود، المقيمة برفح، والتي لا تزل تنعم بالحياة حتى وقت نشر المقال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...