شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
سائق تاكسي ومئات الجثث، في طريقهم لمقابلة المسيح

سائق تاكسي ومئات الجثث، في طريقهم لمقابلة المسيح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 2 مارس 202412:20 م



تشقق حلقه من الجفاف، وتلوى مع أمعائه وتقطعها، واستيقظ من الجوع يعصر روحه في عالم الأثير. نظر بجانبه، فوجد نور القمر يتسلّل من سقف الخيمة، يغطي وجه أمه وبطنها وأسفل قدمها. كان يعرف أن البكاء لن يساعد في شيء، لكن جسده قد انهار تماماً، وأعلن جهازه العصبي حالة الطوارئ القصوى.

صرخت المعدة، وهدّدت الجسد بالموت. بدأ بالبكاء، وارتفع صوته: "أريد أن آكل، أريد أن أشرب". قامت أمه مفزوعةً تترنح بين عالمين، وأمرته بالصمت، لكن هذه المرة كانت منظومته البيولوجية أقوى من القوانين والأعراف وطاعة الأم. ظل يصرخ وقفز من السرير ودفعته قدمه خارج الخيمة. كان يجري بين الخيم الأخرى، وكانت الأم تجري خلفه مرعوبة ومشوشة.

وصل الخبر إلى قائد المخيم، القس بول ماكنزي. أعطى الإشارة إلى مساعديه، هرعوا خلف الطفل وضربوه بفأسٍ في منتصف رأسه، سال الدم ووقع الطفل على الأرض. وقفت الأم تستوعب ما يحدث، لم يطرق الوعي والإدراك رأسها منذ مدة، لكن فأساً آخر أراد أن يكون الإدراك الآخير، وسقطت بجانب ابنها.

في هذا الوقت كان القس ماكنزي في خيمة الأب، أخبره أن ابنه وزوجته قابلا المسيح أخيراً. بدأ الأب بالبكاء، وطلب رؤيتهما. وقف بجانب القس أمام الأجساد المقدسة والملطخة بالدماء، شعر أن قدمه اجتثت، وكأن أحد الفلاحين قد حصدها بمنجله سهواً. ربّت القس على كتفه، وأخبره أن المسيح ينتظره ليعوّضه عن كل ذلك. تذكر الأب الحياة الأخرى وتنفس الصعداء، وشعر بمعِدته تتقطع وتتلوّى من الجوع، وحلقه يتشقّق من الجفاف؛ نظر للسماء وقال في سكون نفسه: "من أجل المسيح".

تذكر الأب الحياة الأخرى وتنفس الصعداء، وشعر بمعِدته تتقطع وتتلوّى من الجوع، وحلقه يتشقّق من الجفاف؛ نظر للسماء وقال في سكون نفسه: "من أجل المسيح"... مجاز

الفصل الأول: همس الجنون

كان الجو ممطراً والأرض يحتلها الوحل. نظر في مرآة تاكسي الأجرة الذي يعمل عليه، وشعر أن الهواء مختلف هذه الليلة، تحت ضوء الأزقة الفارغة والشوارع. شعر أن شيئاً جديداً يتسلّل إليه. أنزل الرجل أمام المستشفى كما أخبره، وسمع مع الرجل صوت صراخ يأتي من بعيد. جرى الرجل إلى الباب دون أن يعطيه الأجرة، وظل هو في سيارته ينتظر، لكن بعد مرور دقائق، عرف أن زوجة الرجل التي كان يحكي قصتها في الطريق قد ماتت.

لم يعرف هل ينتظر ليأخذ أجرته، أم أن الموت ليس وقتاً مناسباً لتدفع ما عليك. أعاد الجملة في رأسه وضحك: إنه أنسب وقت، ومع ذلك لم ينتظر. أدار سيارته وسار تحت المطر. كان يعرف أنها ستمطر منذ الصباح، لكن الغريب هذه المرة أنه لم يفرح لأن تخمينه كان صحيحاً، لكنه شعر بأن لديه علاقة في الأمر بطريقة ما لا يعرفها. فكّر إن المطر قد يكون قد أنزل بسبب أفكاره الصباحية، وفكّر في الموت، والصراخ، والأجرة التي لم تدفع. نظر حوله، فشعر للمرة الأولى أن العالم فاسد بشكل يصعب إصلاحه.

لو يرى الناس العالم من مكانه لتركوا كل ما في يديهم، وبدأوا بالصلاة حتى يقابلوا المسيح. علقت رأسه في فكرته، وأُخِذ بها، وشعر أن الجمل تثقله وتضع عليه مسؤولية إرشاد الناس للطريق الصحيح.

الفصل الثاني: لكل رسول أتباع حتى مسيلمة

في صباح اليوم الأول من شهر مارس لعام 2002 تحديداً، لم يضع بول ماكنزي التاكسي في موقف السيارات ويذهب للمنزل. كان ما يزال محموماً بأفكار الليلة الماضية. كلما نظر للمارة في الشوارع كان يضيق صدره أكثر. الجميع مغيبون، والشياطين تسيطر على العالم. لا أحد يفكر في الله هذه الأيام. سنموت جميعاً قريباً، هكذا يقول سفر الرؤيا. هذه الحكومات الغبية تأخذ أموال الشعب وتوهمهم بالتعليم والطب وهذا الهراء.

كان يغرق في أفكاره أكثر وأكثر إلى أن انتشله صديقه المقرب ويليام: "ماذا تفعل؟". لم يستطع أن يكذب، وصاغ بأسلوبٍ بلاغي حديثاً تخرّ له الجبال، وتجفّ له البحار، ويصعق الجبابرة فيتسابقون بتيجانهم حتى يضعونها على رأسه. أنهى ماكنزي كلامه عن فساد عالمنا، وأن الدنيا دار مؤقتة لا يجب أن ينشغل بها الناس، وأننا جميعاً ضحايا وعباد للشياطين دون حتى أن نعرف.

هذه هي الخدعة العالمية الكبرى. هكذا يتحدث المسيح على لسان بول ماكنزي. وقع ويليام في السحر، وبدأ هذا الخطاب ينتقل بين السائقين. كان ماكنزي يعقد لهم العقدة وينفث فيها ببلاغته، فيقعون مباشرةً في سحره. في أحد الأيام لاحظ كثرة الزوار على كنيسة خلف منزله، فذهب إليها مباشرة. كانوا متأثرين بكلام القس هناك. كان يراقب من بعيد، ويضحك في نفسه على كلام القس، الذي بالكاد يخدش سطح الحقيقة. إنه لا يخبر الناس حقيقة العالم، هؤلاء الناس يجب أن يفزعوا وترتعد أوصالهم. العالم ليس بسيطاً بهذا الشكل، والمسيح لن يغفر لنا مثلما يقول القس ما دمنا في هذه الغفلة؟

كان يتمنى لو يخرج أمام الناس، يسحب هذا الميكروفون، ويتحدّث كيفما شاء بالحقيقة فقط وعن الحقيقة. لم يفعل لكنه لم يصمت أيضاً. ذهب إلى مجموعة تتحاور حول ما سمعوه، وبدأ كلامه بسؤال بسيط: "هل تظنون أن القس يخبرنا بالحقيقة كلها؟". نظروا له بتمعّن، فأخبرهم أن في العالم كوارث خفية لا يدركها أحد، لكن القس، حتى وإن عرف الحقيقة، سيخاف أن يتلفظ بها حتى لا يزعزع المجتمع وتنكر الحكومة أقواله. الحقائق يجب أن تقال في مجتمعات مغلقة حتى لا يعرفها الشيطان ويوسوس للنفوس فيفسدها، هكذا أخبرني المسيح في نومي.

ضحكوا عليه لكنهم أبقوها في أنفسهم: هل أخبركم القس من قبل عما يقوله سفر الرؤيا؟ هل قال إن الحكومات تستغلكم لمصالحها الشخصية؟ الحكومات تصنع نظماً كاملة لا فائدة منها من أجل أن تمتص أموالكم، إذا كنتم تؤمنون بأن كل شيئاً بيد الله فما فائدة الطب إذن؟

وقع كلامه على الأذن كالسحر، قد تختلف معه، وقد تكرهه، لكنك لا تستطيع إنكار أن ما تسمعه هو شيء جديد وغريب... مجاز

أنهى خطبته العصماء، وتركهم في حالة من الفزع والقلق وعدم الفهم، لكنهم كانوا يشعرون أن هناك شيئاً لا يفهمونه. كان هذا الكلام جديداً على كنيسة صغيرة قريبة من ساحل المحيط الهندي  في كينيا. في النهاية تركهم وغادر من الإحباط، لكنه سمع من خلفه صوتاً ينادي "أيها القس، أيها القس".

لم ينادَ بهذا من قبل لكنه عرف أنه المعني. أدار وجهه وإذا بها روث كاهيندي، امرأة من المجموعة التي كان يقف معها. كانت تبكي، وأخبرته أنها تصدقه، وأنها تعرف الغفلة التي يعيشها عالمنا. طلبت منه أن يعلمها المزيد، وعرضت عليه الباحة والواسعة في منزلها، حتى يبدأ بنشر دعوته، بشكل يليق بواحد مثله، القس بول ماكنزي.

الفصل الثالث: انتشار الدعوى

كان يعرف ماذا يفعل بهذه المساحة الجديدة التي أفردت له. أسس كنيسته الخاصة وأسماها "Good News International". من هنا بدأ عالم بول ماكنزي، العالم الأكثر رعباً وغرابةً في تاريخ البشرية. كان الشخص الذي يذهب إليه مرة لا يستطع أن يقطع صلته بهذا الطريق وهذا المكان ثانية. وقع كلامه على الأذن كالسحر، قد تختلف معه، وقد تكرهه، لكنك لا تستطيع إنكار أن ما تسمعه هو شيء جديد وغريب، وقد تحاول بعدها إقناع من حولك ليسمعوا هذا الرجل، هذا القس، الذي يرتفع نجمه إلى أعلى ولا يقف شيئاً أمامه.

مع زيادة التابعين، بدأت الطلبات المادية، وكان أتباعه يجرون حوله يبيعون أملاكهم ثم يرمون الأموال عند قدمه، وما إن يعتلي المنبر حتى يصدح بأحاديث الموت والنهاية: العالم سينتهى 15 إبريل عام 2023، جميع البشر سيصعدون إلى السماء، لكن الخيرين فقط والذين يسمعون كلامه هم من سيصعدون أولاً ويجلسون فرحين مع المسيح. انتهى عام 2005 ومازالت صكوك الغفران تباع في كينيا، لكن هذه المرة الصكوك مقنعة، ووقعها يصعب الفكاك منه.

في هذا الوقت، عرف واحد من الأتباع أن الدعوى في مرحلة ستحتاج فيها إلى المال، فذهب وباع ما يملكه في هذه الدنيا الفانية، وأعطى للقس 150 ألف دولار. لثوانٍ شعر بول ماكنزي بالهول، فلم يعرف أن هذا المبلغ من المال له وجود حقيقي، لكنه وبعدما فكر، شعر أنه يستحقه أشد الاستحقاق، بل يجب أن تمنحه الحياة أكثر من ذلك، وهنا لم يكتف بأخذ المال فقط، بل جلس مع رجلٍ آخر لنصف ساعة، وعلى إثر هذه الجلسة أختفى بعدها الشاب الذي تبرع بماله من عالمنا نهائياً.

أسّس القس بول ماكنزي ستوديو خاصاً به، وأطلق قناة تلفزيونية، وبدأ صوته ينتشر في مساحة أوسع، لكن وبالرغم من الخطاب العام الذي كان يصل له الناس جميعاً، كان يشعر في نفسه أن هناك بعض الأمور التي لا يجب أن يطلع عليها جميع الناس، وأن هذه الأمور ستبلبل البلاد لا أكثر ولا أقل.

وقف في منتصف كنسيته وقال: "ما أخبركم به أخفيه عن العالمين، وقد أخبرني المسيح به في المنام، وأوصاني أن أوصله لكم، أنتم خير الأنام، حينما صعد المسيح مع نفسه على الجبل هذا الإتصال الروحاني الأول، حدث بسبب استغنائه عن متع الدنيا وذنوبها، لقد تخلى المسيح إلهكم الأعظم، عن أكثر الأشياء التي نحتاج إليها، الطعام، والشراب. كثيراً ما ارتبط الطعام والشراب بالأنبياء والراهبين. أصدقائي وأتباعي اليوم سنخطوا خطوة للأمام، اليوم سنقف أمام الله على مسافة لم يقف بها أحد من قبل: سنصوم حتى نجوع، ونجوع حتى نموت. يا أصدقائي لن نشرب ثانيةً حتى نموت. لا تنظروا لأنفسكم هكذا، هل تظنون أن مقابلة المسيح والفوز بالجنان، سيأتي ببعض البكاء والنواح؟ التضحية، التضحية، هي سبيلكم في هذا العالم الخرب، لتفتحوا صدوركم ولتحرروا أروحكم نحو السماء، ولا تجعلوا الطعام والماء أغطية على الروح. في الضعف قوة، وتذكروا دائماً أن المسيح  ينتظرنا، نهاية العالم تقترب وسنسبق العالم نحو السماء".

*****

في عام 2009 بدأت روث كاهيندي بالشك في كل ما يقدمه القس بول ماكنزي، وكما أعطته باحة منزلها وساعدته في نشر دعوته، قامت بطرده منها، لكن هذا الرجل ليس السائق الفقير الحالم الذي عرفته منذ 7 سنوات. إنه الآن واحد من أهم رجال الدين في كينيا، تحت يده ثلاثة آلاف يأتمرون بأمره، وهناك من بدأوا بالتضحية بأنفسهم بالفعل. أشترى أرضاً أخرى ونقل كنيسته ودعوته، في هذا الوقت كان هذا النبي المحمود، ذائع الصيت، ينتشر كالنار في الهشيم، وصل للمتدينين في أوغندا وتنزانيا ونيجيريا أن هناك أملاً جديداً في هذا العالم. لقد انفتح باب السماء ثانيةً.

أنهت روث عملها هذا المساء في خطوط الطيران القطرية، وذهبت إلى أحد المقاهي الموجودة في المطار. حاول الشاب أن يلاطفها بسبب عبوسها هذه الليلة، لكنها لم تنظر إليه. كانت مرهقة من العمل، وتعرف أن هذه الحياة ليست الشيء الذي كانت تبحث عنه طويلاً. قفزت رسالة على شاشة هاتفها "كلميني في أسرع وقت". أتصلت بالرقم وعرفت أن بلدها كينيا تشهد ولادة معجزة، نبي جديد يمشي على الأرض. لم تكن تعرف ماذا تفعل، نظرت ليدها فرأت الصليب الذي لم يبق من الدين في حياتها إلا هو.

انتهى عام 2005 ومازالت صكوك الغفران تباع في كينيا، لكن هذه المرة الصكوك مقنعة، ووقعها يصعب الفكاك منه... مجاز

الفصل الرابع: نار الشرطة وجنة شاكاهولا

لم تمر كل أيام ماكنزي كما يريد، كانت الحكومة تلاحقه أحياناً، ولم يكن يمانع أبداً، كسائقٍ خلف مقوده، كان يجلس في التحقيقات بكل هدوء، ويردّ على كل الأسئلة بدهاء شديد، وكان يعرف في نفسه أنه لو أراد أن يجعل المحقق يمتنع عن الطعام والشراب لفعل، لو استعمل قوته الآن لجثت الشرطة على أقدامها، ولطلبوا منه السماح والغفران، ولكن لا مشكلة، ليدع هؤلاء الغافلين.

مشكلتهم معه لم تكن بسبب الكنيسة في الأساس، بل بسبب قناته وتراخيصها، والمقاطع المصورة التي تنتشر بدون إذن. لا مشكلة لدى الشرطة أن القس خرج منذ أيام يهاجم الكنيسة الكاثوليكية والولايات المتحدة، والماسونية العالمية. لقد هاجم الشيطان، وسلط مدافعه عليه، لكن كل ما يهم هؤلاء الملاعيين هو التراخيص.

عندما وصل الرئيس الكيني ويليام روتو للحكم، كان الدين من اهتماماته الأساسية، كان يكره التعصب الديني، وينبذ العقول المتحجرة، وكان يحاول إيصال صورة لبلده المتقدمة والمتحرّرة، والتي لا تشبه بلاد العالم الثالث الأفريقية المحيطة بها. في أي مكان في العالم يرتقي رجل الدين الدرج، درجة درجة، حتى وإن اقتصر كلامه على الخبل والعبث بعد ذلك، لكن في كينيا يمكنك أن تبدأ من الدرجة الأخيرة مباشرة، لك الحرية في الإلحاد وفي اختيار مجموعتك الدينية التي ترتاح لها، كما لك الحرية في أن تتبع بول ماكنزي أو أن تصبح ماكنزي نفسه، فما حجم الضرر الذي يمكن أن تولده هذه الحرية؟

لم يكن يهتم بأمر الشرطة كثيراً حتى عام 2017. هذه المرة التهم تزداد: مشاكل القناة، ومشاكل الكنيسة، واتهامات بنشر أفكاراً متطرفة، بل إن بعض المدارس بدأت برفع بلاغاتٍ بسبب وجود أطفال يرفضون تناول الطعام والشراب. هؤلاء الأغبياء كلما قال أحدهم الحقيقة اتهموه بالتطرف والإرهاب. يريدون أن يستيقظ الإنسان صباحاً ويغسل أسنانه ويعمل ثماني ساعات، ثم يترك رأسه للإعلام ورجال الدين الكاذبين يكنسون فيها القمامة، هذا العالم فاسد كما قلت وأقول، ولن ينصلح حاله أبداً، لكن لا يهم فهذه المرة أعرف تماماً ماذا أفعل، وأي طريق سأتخذ .

*****

دخل عليه يبكي ورأسه لا ترتفع من الأرض. نظر القس ماكنزي أمامه فعرف ما حدث. لم ينتظر أن يبرّر شيئاً، وسبقه بالحديث قائلاً: "كنت أعرف أنك ضعيف الإيمان يا كالونزو، لم تتمالك نفسك وشربت؟".

وقف كالونزو والخوف يأكل قدمه، وقال بصوتٍ خافت: "الأمر أكثر من الشرب، لقد ذهبت للطبيب أمس لأن معدتي كانت تؤلمني". قفز القس من مكانه وبدأ بالصراخ في وجهه: "ألا تفهم أبداً؟ الأطباء يعبدون إلهاً غير الذي نعبد، لا يرضون بقضاء الله، ويأخرون لقاءنا به".

 لم يرد كالونزو،.كان يعرف مصيره: حرق كبير على صدره حتى يعرف الآخرون أنه مذنب. كان يتخيل الألم الذي يمكن أن يسببه معدن متأجج، لكن كالونزو كان محظوظاً، فقد جاء في وقتٍ مفصلي سيتغير عنده كل شيء.

. جلس ماكنزي على كرسيه وهو يتنفس الصعداء، وتذكر ليلته الأولى، وفكر في أن هذه الحياة تشبه الحلم: هل كان في الغابة من قبل؟ هل مارس الطقوس وقتل بالفعل؟... مجاز

كانت رأس ماكنزي يعج بعشرات الأفكار وقتها، قرّر إغلاق الكنيسة، والقناة التلفزيونية، حتى تتركه الشرطة وشأنه، بعدما أوقف جميع نشاطته، قام بشراء قطعة أرض كبيرة في غابة شاكاهولا القريبة من ساحل المحيط الهندي. نقل ماكنزي دعوته إلى هناك، إلى هذا المكان الذي لا تصل إليه شبكة، ولا يزوره أحد، وكانت الحكومة تعلم أنه قد اشترى الأرض من أجل إقامة مشروع زراعي .

*****

بدأت كورونا تنتشر في العالم بأكمله، تنتقل بسرعةٍ من بلد إلى بلد. ينقلها الأخ لأخيه، والابن لأبيه. بدأت ملامح العالم بأكمله تتغير. سكنت الناس في بيوتها، ومنعت الشرطة التجمعات، وكان الموت لا يتوقف. فرغت الشوارع، وفزعت الأجساد، وشعر البعض باقتراب الميعاد.

هذا الفيروس الغريب والمفاجئ، والذي يتسلى على البشر ببطئ، كان بمثابة روح ثانية لماكنزي، فحتى الأتباع الذين كذبوه وابتعدوا عنه، عادوا له باكين، نادمين، متضرعين. لقد كانت كل نبوءاته صحيحة، وها نحن كلما اقتربنا من 2023 يفسد العالم أكثر وأكثر.

بدأ ماكنزي مرحلة جديدة مع أتباعه. هذه المرة سنبدأ بالصيام مباشرة، لا يجب أن يعرف أحد من العالم الخارجي ما نقوم به، إذا تسرب الخبر فسد الصيام وفقد قدسيته. لم يعد هناك الكثير من الوقت، فلتعتزلوا الحياة الباطلة، اتركوا العمل فهو زور وخدعة كبيرة، واتركوا المدارس، فهي منظومة تأخذ بها الحكومة أموال الشعب، ومزقوا بطاقاتكم والهويات الحكومية، فالإنسان أكبر وأرقى من ذلك. لا تدع الشيطان يتسلل إليك، من أي موضع، فالضعفاء لا مكان لهم بيننا.

إذا أردت أن تنسحب فعليك أن تنسحب الآن، غير ذلك فلا مكان هنا إلا للسمع والطاعة. اختاركم الله ليقابلكم أولاً، أما أنا فسمح لي بالطعام والشراب لاستمرار الدعوة؛ حينما تحدث المسيح في أذني أخبرني أن التضحية يجب أن تتم بأسرع وقت. بعض أطفالكم سيموتون، والنساء سيموتون، المحظوظات منكن هن العذراوات والكبيرات في السن، لقد اختاركم الله، ستذهبون قبلنا، كم أتمنى لو أكون مكانكم.

الفصل الخامس: طقوس سرية داخل الغابة المعزولة

بدأ الصيام الجماعي لأتباع بول ماكنزي. أخيراً تتحقق النبوءة التي حلم بها، وضربته في ليلة ممطرة منذ عشرين عاماً، ها هو يفقد أتباعه واحداً بعد آخر، يقتلهم الجوع والضعف، وها هي التضحيات تتم له مثلما أراد. في طقوس دينية علوية، يقتل الرجل طفله، والزوج زوجته، ويقف ماكنزي في الوسط يهلل باسم المسيح. تحفر الأرض وتلقى الجثث ثم يهال التراب، وضعيفو الأنفس الذين يقرّرون الهرب، يتم ضربهم حتى الموت، حتى لا يفسد صيام كل الصالحين بعمل شيطاني من بعض الفاسقين.

في هذا اليوم تحديداً، جاء لماكنزي خبر هروب طفل من خيمته، أمر بقتل الطفل، واكتشف بعد ذلك أنه ابن كالونزو. الآن يقف كالونزو بخشوع ولا يشعر بغصةٍ في صدره كالعادة. قُتلت زوجته وابنه. شعر أخيراً أن الله يحدثه بشكلٍ مباشر أنه اختبار له تحديداً، وقد قبل ذلك من أجل المسيح. حمل زوجته وابنه، ووضعهما في المقبرة بجوار "روثا"، الشابة الغريبة التي جاءت لهم من قطر.

قفز القس من مكانه وبدأ بالصراخ: "ألا تفهم أبداً؟ الأطباء يعبدون إلهاً غير الذي نعبد، لا يرضون بقضاء الله، ويأخرون لقاءنا به"... مجاز

الفصل الأخير: هلوسة شاكاهولا

ظهر ماكنزي بثوبه الوردي من خلف السياج، بعدما سلّم نفسه للشرطة. كانت أسئلة الصحافيين لا تنتهي، وكانت أجواء المحكمة متوترة ومشحونة بشكلٍ لم تشهده من قبل. كانت الشوارع خارج المحكمة مملوءة بأهالي الضحايا والمفقودين. كان الجميع منفعلاً ومصدوماً، أما ماكنزي فقد ظهر هادئاً مبتسماً. كان يسخر ويردّ ردوده الذكية والمدروسة، كان ينفي التهم عنه ببراعة، وكأنها موهبته التي يعرف كيف يمارسها جيداً.

اتهمته المحكمة بكل شيء، ونفى عنه كل شيء. أخبرهم أن جميع نشاطاته توقفت منذ عام 2018. أغلق الكنيسة والقناة ولم يعمل في مجال الدعوى ثانية. ليس من المنطق أن يحاسب على مقابر جماعية اكتشفتها الحكومة بعد تحرياتٍ لها في منتصف غابة، وليس من المنطقي أن يحاسب على تقارير الطب الشرعي الذي أفاد أن معظم الجثث ماتت من الجوع. أكثر من 400 منتحر بالصيام، يعتبر رقماً منفرداً في صفحات التاريخ. لقد تحدث بكل وضوح أنه ليس مسؤولاً عن صيام أحد، من أراد أن يصوم للمسيح فليصم، ولا دخل لماكنزي بذلك، وكيف يصوم هؤلاء ويموتون بسببه وهو نفسه في حالة صحية جيدة؟ كل ما قاله وكل أحاديثه مسجلة على التلفاز، ولا يوجد كلمة واحدة تخص الصيام .

بعد شهورٍ من الكارثة الكينية التي أفزعت العالم، بدأت المحاكمة الأخيرة لماكنزي. كانت قاعة المحكمة مكتظة والجميع ينتظر حكماً يشفي صدورهم. في النهاية حُكم عليه بعام ونصف، بسبب قناته غير المصرحة، وبعض الأفلام الدعوية التي أنتجها دون موافقة الحكومة. جلس ماكنزي على كرسيه وهو يتنفس الصعداء، وتذكر ليلته الأولى، وفكر في أن هذه الحياة تشبه الحلم: هل كان في الغابة من قبل؟ هل مارس الطقوس وقتل بالفعل؟ هل ترك مقود التاكسي وغير حياة الآلاف؟ ربما لم يكن هناك أبداً، وربما الرائحة التي يشمها هي رائحة الدم على يده.

بعيداً عن المحكمة، وصلت الشرطة لأربعة عشر شخصاً، امتنعوا جميعاً عن الطعام والشراب، وحينما حاول الضابط مساعدتهم، صرخت امرأة في وجهه: "أنت لا تريديني أن أرى المسيح". وصل الخبر إلى ماكنزي فابتسم. بعد عام ونصف سيتحكم في هذه الحياة كيفما يريد. كان يعرف أنه لو أراد الخروج من السجن لفعل، لكنه فضل أن يحتفظ بقوته لطقسٍ جديد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image