شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
تخزين الكلمات، والجرّار الذي يدهس لساني

تخزين الكلمات، والجرّار الذي يدهس لساني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 9 مارس 202411:51 ص



لن أتحدث.

أحياناً أستيقظ في الصباح وأنا أبحث عن تجويف في قلبي، أخزّن فيه كل كلمات اليوم.

 أظل في سريري لدقائق، أتحدّث مع نفسي، أو مع حبيبي الوهمي. أعرف كيف يرى العالم، ومذاق الشاي الذي يفضّله ساخناً للغاية، وهيامه باللون الأصفر. أعده بأنني سوف أرتدي الوجه الخشبي اليوم، وأظلّ صامتة. لن أسكب كلماتي في أذن العالم الوسخ، لن أفتح فمي. سأمسك لساني، أضع إصبعاً في جوفي، وأتقيأ كل ما أريد نطقه. الأسئلة ستموت قبل أن تطفو في رأسي. يربّت على كتفي، يعرف أنني لن أقدر. الكلمات تخرج قبلي، وتصم سامعيها.

"أريد أن أخرج، لكن سحابة القلق تحوم فوق رأسي، غيمة سوداء كبيرة تأكل روحي": أقول له.

أفهم العالم عن طريق الكلمات. طفلة لبقة، أقف في شرفة منزلي، أرى الجموع الزاحفة، البشر في صورة نمل. أنادي على الغرباء. أقول لهم سأحكي لكم حكاية، سأذهب عقولكم، وتطعموني الحلوى، وتمنحوني رغيف خبز.

ينقطع ذلك الوصل في يوم، أختنق بالكلمات التي تقف في حلقي، ولا أقوى على النطق. تزعمّ أمي أنني محسودة. "عين وأصابتني". تجري بي على الأطباء والشيوخ. يخبرها الطبيب، بأنها "فترة وهتعدّي". يبدو أن البنت مصابة بحالة نفسية، ستشفى منها قريباً، وتعود إلى وضعها الطبيعي واحدة واحدة. ربما حدث ما قاله، وأن الكلمات التي كنت أوزّعها على الغرباء هي ما أصابتني باللعنة.

أعود إلى التحدث لكن بتهتهة. أتهته كأنني ألتقط الحروف من السماء. تتقطع الكلمات على لساني، تتأخّر في سيرها، تتكون كوليد جديد ينبت في رحمي، يموت قبل أن يخرج على الملأ. (التهتهة في المعجم: صوت الإنسان المتردد في كلامه؛ صوت المتردد، صوت لدعاء الكلب).

أفهم العالم عن طريق الكلمات. طفلة لبقة، أقف في شرفة منزلي، أرى الجموع الزاحفة، البشر في صورة نمل. أنادي على الغرباء. أقول لهم سأحكي لكم حكاية، سأذهب عقولكم، وتطعموني الحلوى، وتمنحوني رغيف خبز... مجاز

لا أعرف ما الذي حدث بالضبط، كيف أن التنقل بين التهتهة والتحدث سريعاً، كأن جراراً يدهس لساني، هو ما يشكل كياني إلى هذه الدرجة؟ لماذا العِلّة والشفاء يكمنان في نفس العضو "اللسان"؟ بين اللون الأبيض واللون الأسود أتأرجح، لا يوجد وسط، شيء ما يمنح توازناً لحياتي.

ربما سمعت الجملة ألف مرة بعد أن أفرغ من حديثي، يقول لي الطرف الآخر، إنه لم يسمع مني ولا كلمة، وأنني أتحدث بسرعة كبيرة، فأرجع بالشريط إلى الخلف، وأجعله يَسفّ بلا توقف.

أمرّن نفسي على التحدث بهوادة، أقرأ وِرداً من القرآن كل يوم، أقرأ بتمهّل، القراءة تضبط إيقاع الكلمات. آخذ نفساً عميقاً بين الآية والأخرى، أفكر في المعنى. أصمت. ها أنا أخطو صوبكم أيها الناس، ها أنا أصبح مثلكم. أشفى من الكلمات بالكلمات. ما هو إلا وحيٌ يوحى. هل تسمعونني الآن؟ هل تفهمونني؟ هل صرت منكم؟

الكلام على أمواج البحر، وفي المدن الصاخبة

هل فكرت يوماً في أن كلامك يشبه المكان الذي ولدت فيه؟

يقال إن اللغة تتأثر كثيراً بطبيعة البلاد، يعني إذا نشأت في مدينة تطل على البحر، تسمع صوت ارتطام الأمواج، وترى البحارة يجولون في المدن، والباعة يصيحون لبيع الأسماك. لغتك، أو لهجتك، ستكون صاخبة وقوية، ومخارج حروفك واضحة ورنانة.

أما إذا قطنت مدينة هادئة – بنها العسل مثلاً- ستقع في شِركها، وتصير هادئاً كالأفعى قبل أن تبخّ السمّ، وتصير لغتك تشبه الماء، تأخذ شكل الإناء الذي توضع فيه. سهلة، ولينة، ومنسابة. أما مدينة كالقاهرة فهي تبخ السمّ فيك، وتبتلعك بداخلها أولاً وقبل كل شيء، ومع ذلك تقع في غرامها كالأبله.

أنت فيها لا تفكر، لا تخفض صوتك، لا تصرخ وهي تصفعك على مؤخرتك كطفل تعلمه أمه بقسوة كيف يحبو. ناس القاهرة لا يمشون، هم دائماً يهرولون وراء شيء ما، وأنت تجري وراءهم. ولا أحد يعرف مما نهرب، وإلى ماذا نرتحل. نموت بينما نحاول أن نجد رغيف العيش. نتحرّك كالقردة في سيرك، الفرق بيننا، أننا لا نمتلك أنياباً نلتهم بها المتفرجين. يراقبك السادة وأنت تقضم ذيلك، وتعضّ لسانك، وتأكل أبناءك عندما تجوع، ويضحكون. (خليهم يتسلوا).

الكلام كذبحة صدرية، وتعويذة للنوم

"غني لي كي أنام

في ثنايا صوتك هدل وحمام

خلصي قلبي من المكسور فيه، ودعيه ينام"

أمنح الرجل الغريب حكايات مبتورة، أميل برأسي على صدره، وأدع أشعة الشمس تدغدغ عيني، وأقصّ عليه أحسن القصص، وأسأله حباً وعطفاً. (حكاية مؤثرة لكي تعرف أنني أحبك؟) دع يدك الدافئة تسقط سهواً على شعري، وتغفو بين ثدييّ. أنام. تلمس الأنامل خدشاً على قدمي اليمنى، ترسم وردة على الندبة، تلونها باللون الأحمر الفاقع، والأوراق بالأخضر. تتعب اليد من الرسم، تملّ، فتحنو على مهل. تلمس يدي، تشدّ عليها، خشية من إفلات الأصابع. لا، لا تذهب، أريد أن أنام (أقول لك). تلسع الشمس جلدي، تصيبه باحمرار. "لازم أمشي": أقول لنفسي. أهجره بلا كلمة. أمقت الكلام عندما يصبح كذبحة صدرية، وتخليص حب.

"احكي حكاية حتى أروح في النوم": أقول له، أو يقول لي، لا أعرف. أليس في الحكاية دائماً استجداء للنوم، تعويذة للأرق كي يذهب بعيداً؟ أليس في الصوت دفء العناق، وسِحر اللمسات؟  

ساعات طويلة لا يعرف فيها هذا الجسد المسجى بالدماء والروائح المحترقة سبيلاً إلى النوم. يأتي هذا الصوت من وراء البحار، من بلاد لا تعرف سوى النار، والنوم من بعد غروب الشمس، لينشر ذبذباته في الفضاء الشاسع، ويحكي حتى يستكين النوم هنا، يراقب خطوات الغزالة، ويطرد الأشباح.

يضع النادل فنجانين من القهوة على الطاولة الخشبية بيننا، تبتسم لمرأى الأمطار تتساقط في الخارج، لا ترى رجفة جسمي من البرد. تنفث دخان سيجارتك الزرقاء في وجهي، وتقول: "إحنا لازم نسيب بعض، كده أحسن"، وتسكب نصف فنجان القهوة في فمك. تتلوّن أسنانك باللون الأصفر. ألمس الفنجان، أشعر بسخونته تتسرب إلى يدي ولا أشرب. أستلذّ السخونة، فألصق الفنجان بجلدي، وأتخيل انصهار جلدي من الحرارة، فأضحك. تحب ضحكتي الصاخبة عندما تكون من قلبي؟ أخرج من حقيبتي دفتري الصغير، مدون فيه أيامنا معاً، أتركه لك، وأقول: "عشان تبقى تفتكرني"، وأمشي.

الكلمات، تعيش بدلاً منا، يأكل الدود لحمنا، بينما تحيا الكلمات، أو تصير كائنات حية كما تريد. كلمات الحب تصبح نوراً. كلمة "بحبك" تحديداً تصبح وشاحاً من الصوف... مجاز

أكياس الموتى مليئة بالكلمات

قرأت مرة أنه عند الموت، نأخذ معنا إلى قبورنا أكياس مليئة بالكلمات؛ كل الكلمات التي تفوهنا بها في الحياة، والتي سمعناها، والتي قالها الغير عنا. أتخيل أن تلك الكلمات، تعيش بدلاً منا، يأكل الدود لحمنا، بينما تحيا الكلمات، أو تصير كائنات حية كما تريد.

كلمات الحب تصبح نوراً. كلمة "بحبك" تحديداً تصبح وشاحاً من الصوف، أو حضناً. وكلمة "اتطمن" تتحوّل إلى بيت، وكل الكلمات السامّة تضحى رماداً أو سخاماً. وكلمة "أنا جنبك" تتحول إلى قطعة كيك بالفانيليا تتفتت في الفم. كلمة "جميلة" تصبح قنينة مسك بالخشب الأبيض أو ورد الجوري. الأمل يتحول إلى طائر حسون. "الفقد" يصير ترسانة تهرس القلوب تحتها. "الاشتياق" يلتئم بالتحام جسدين بعد طول فراق. كلمة "خليك هنا" تصبح آيس كريم بالفستق وزبادي بالتوت يذوب على الشفاه. "الكرم" يصير كرمة عنب وأشجار تين. كلمة "فاهمك" تصبح أريكة مريحة وناعمة، تستند إليها طويلاً بلا ملل. كلمة "ونسْ" تتحول إلى طبقين من الأرز باللبن، لك ولي. كلمة "ليل" تصبح وسادة دافئة تتسع لكلينا، وكلمة "طيبة" تتحول إلى شجرة خضراء يانعة تظلل علينا.

الكتابة بجسد مصلوب، وحوض السمك 

أنا اليوم أمقت الحياة، وأتخيل كل لحظة بأنني أجلب سكيناً وأقطع لساني. في خصومة مع العالم الذي يتداعى فوق رأسي، وأريد في الوقت ذاته أن أكتب، وأكتب كما لو كانت قدماي معلقة في الهواء، أو الكتابة بجسد مصلوب، الكتابة كأنني سأموت اليوم، ولا أحتاج إلى من يؤمن بي.

أسير على قدمين من القلق. القلق يعرف كيف يحيلني إلى مجرّد شخص ساكن، تلتهمه النيران من الداخل. حركته تثير زوبعة، وهدوؤه يبعث على الموت.    

لن أتحدث اليوم، لن أمنحكم كلماتي، سأضع رأسي في حوض الأسماك، وأراقبكم من خلف الصندوق الزجاجي، وأخرج لكم لساني. ربما لن أفعل.

أجلس على الكنبة الحمراء، أنحي كتاب "الخبز الحافي" لمحمد شكري جانباً، وأدوّن الأفكار التي تطرأ على دماغي قبل أن تطير. أضع شريطاً لاصقاً على فمي، لأنه كما تعرفون، إذا وضعت رأسي في حوض السمك، سأموت، أو ربما سأبتلع سمكة "أوسكار" برتقالية (سمكة ذكية للغاية، غير اجتماعية، تحب العزلة)، ستقف في حلقي، وتصرخ من العتمة، وتقول: "طلعوني من هنا".

أشعر حالاً بطعم السمكة البرتقالية وهي تحوم في فمي. لا أحب الأسماك، أحب الكتابة.

أسمع صوت قطرات الماء، وهو يقطر من صنبور المياه في المطبخ، صوت الماءـ يتقطر في أذني. الحنفية مقطوعة. صوت الماء يدب ويدب، ولا أحد يسمعه غيري. الكل يخبرني أنني أتوهم، وأنني أسمع "دبة النملة". أذني حساسة للأصوات، وأنفي لديه حساسية شديدة من الروائح. أتوجّس من فكرة أنني سأكون من النسخة المصفاة من البشر، كما يحدث في أفلام نهاية العالم وكل ذلك الهراء.

صوت الماء يتعبني، يشتت ذهني، يفقدني القدرة على التركيز. عقلي أصلاً يتمدّد على الأرجوحة أمام باب المنزل، وأجذبه ليجلس معي مرغماً. يستريح مني تحت أشعة الشمس الذهبية. أجلس للكتابة، أفكر أنه لولا الكتابة لكنت قتلت نفسي فعلاً. صوت ارتطام قطرات الماء بالأرض يزعجني. يمتلأ الماء في أٌذني، أتحول بدوري إلى إناء. الكلمات تتبخر. تتسرب البرودة إلى جسمي، لا يصل الدم إلى أطرافي.

أرى جسمي متكوراً داخل ثلاجة المجمدات، في مَعيّة اللحوم، والخضراوات، والدجاج المذبوح، والمانجو، والأجبان والألبان وألواح الثلج الكبيرة. عقلي يزحف على الباب، يحرّك مقلتيه الدائريتين، ويحاول عبثاً رفع الباب الثقيل، ينزلق، ويعاود المحاولة. رائحة كبدة ولحمة تزكم أنفي، أفتح الباب بسرعة.

أفكر في أن الكتابة برأس مشجوب، ستكون أكثر شاعرية، أضع النصل في مقدمة رأسي، وأرى الدم ينسكب على الورق، وأكتب... مجاز

الكتابة بديل عن القتل

يرغب الابن في قتل أبيه في اللحظات الأولى في الصباح، وهو يفتح عينيه، ويجول ببصره في الغرفة المظلمة. تتبلور الفكرة في ذهنه. لا، ليس الليل، الليل للنوم وعيونك مشروعة على جهنم، ويدك تتشبّث بحبيب. لكن الصباح؟ للقتل، لوأد فكرة ميلادك قبل أن يتقابل الوالدان أصلاً. كل الأبناء يفكرون ولو لمرة واحدة في قتل الأب، هكذا يجدون مبرراً ومخلصاً لتعاستهم. هكذا ينجون. الصباح لتعليق رأسك على حبل الغسيل في الشرفة، وتركه، والذهاب إلى العمل، ثم العودة ليلاً.

تخرج من بيتك بلا رأس، تحسب أن العالم لا يراك، لكنه يراك، يشيرون بسبّاباتهم إلى الجسد الممتلئ، ويسخرون من كرشك المهتز، ورأسك المختفية. لا تتوقف لك الأتوبيسات ولا سيارات الأجرة. الكلّ يرغب في دهسك. يتسابقون في تخليص العالم من أمثالك. لكنك تصل بكعبين مشققين إلى شغلك، تجلس إلى مكتبك. تدخن سجائرك بشراهة. تشرب كوب الشاي، وتسجل على الكمبيوتر حسابات وأرقام. يقولون لك: "لمّ حاجتك وأمشي، مستغنين عن خدماتك يا فندم". تتحسّس فراغ رأسك، وتبكي.

 أنا أيضاً أقتل كل من أكرههم في أحلامي/ نصوصي. أراهم موتى. أسير في جنازتهم في ملابس الحداد، بلا بكاء أو عويل. أمشي إلى المطبخ (أنا أو محمد شكري) وأصنع لنفسي كوب قهوة سادة، وأتخيّل نصل السكين وهو يشق صدر أبي/ أبيه. أجلس على سريري، أبدأ في الكتابة، تراوغني الكلمات، تتهرب مني بمكر، لكنها تعود إليّ، ثم تفر من بين أصابعي. أشم رائحة تحترق. (مش كل الحلو تفاح).

أفكر في أن الكتابة برأس مشجوب، ستكون أكثر شاعرية، أضع النصل في مقدمة رأسي، وأرى الدم ينسكب على الورق، وأكتب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image