سعادتي تكون كبيرة حين يولد مخرج شاب، وتكون أكبر حين تكون مخرجة لديها تميز وتسعى إلى أن تترك بصمة في عملها، كما هو مُلاحظ ومُشاهد في مسلسل "أعلى نسبة مشاهدة" للمخرجة الشابة والواعدة ياسمين أحمد كامل.
المسلسل فكرة أنثوية بامتياز
من اللحظة الأولى، ومن الحلقة الأولى، ومن خلال كادر صورته بعين الطائر باستخدام "درون" على منطقة الأمام الشافعي استطاعت المخرجة أن تسحب المشاهدين إلى عالمها الواقعي من تراب الناس وملح الأرض، عالم من المهمشين رصدتهم بكاميرا ذكية، تبدأ بالمكان كمسرح للحكاية، حيث مصر القديمة الحقيقية بعيداً عن "الكمبوندات" وما يحدث من تغيرات مجتمعية، وعالم "السوشال ميديا"، وفخ الأعلى مشاهدة، الذي من الممكن أن يقود إلى الهلاك أكثر ما يقود إلى الشهرة التي يحلم بها الجميع في زمن التوحد مع الموبايل، والانفصال عن المجتمع وهمومه.
من اللحظة الأولى، ومن الحلقة الأولى، ومن خلال كادر صورته بعين الطائر باستخدام "درون" على منطقة الأمام الشافعي استطاعت المخرجة أن تسحب المشاهدين إلى عالمها الواقعي من تراب الناس وملح الأرض، عالم من المهمشين رصدتهم بكاميرا ذكية
المسلسل لا يغفل قضايا فرعية مهمة، بنعومة وضربات قفاز ملاكم محترف بدرجة مخرج، كتبها السيناريو بتفاصيل واقعية، بلا حرج من كتابتها لمواجهة المرض المجتمعي الآني من التعلق بالـ"سوشال ميديا"، وما أحدثه من مصائب وزلازل نفسية لدى مريديه.
زمن الحكاية حدث في السنوات الأخيرة ولا يزال يحدث، بحثاً عن الشهرة، ومحققاً لعنوان المسلسل "أعلى نسبة مشاهدة"، ليعكس عالماً من زجاج هش قابل للكسر.
المسلسل فكرة أنثوية ذكية كُتبت بقلم السيناريست سمر طارق، ليتشكّل تناغماً بينهما، ولتعزف كلتاهما -المخرجة والكاتبة- كلٌ بطريقتها الخاصة وأدواتها المتاحة كادرات مرسومة من الواقع، وديكور بسيط كحياة الناس التي تعيش على هامش الحياة.
في البدء كان البوستر
بوستر أي عمل فني هو إبداع مستقل يجب أن تكون له دلالاته النفسية لما سيحدث، أو ملخص لسيناريو المسلسل وحكايته، ومن ثم ما سيفعله المخرج لإيضاح هذا داخل حلقاته.
البوستر أيضاً يستحق التوقف عنده، فقد ظهر كواحد من البوسترات الموجزة الذكية في تنويعاتها النفسية على الأبطال الرئيسيين للمسلسل.
ظهر بوستر المسلسل كواحد من البوسترات الموجزة الذكية في تنويعاتها النفسية على الأبطال الرئيسيين للمسلسل. فنحن أمام بوستر إبداعي متفرد في إيجازه، حيث أبطال العمل وصورهم موزعة على زجاج نافذة خشبية قديمة تحتوي داخلها زجاجاً، الزجاج يتخذ شكل هاتف محمول زجاجه مكسور، ليشوه الشخصيات التي تتوسطها في الأعلى صورة موبايل، وكأن الجميع -الفاعل والمفعول بهم- حطمتهم تلك الآلة، بما تنقله من فيديوهات وصور بحثاً عن الشهرة والأعلى نسبة مشاهدة، مع تأكيد لـ"موتيفة" الموبايل على يمين البوستر من الأسفل، وأساور"كلابشات" أسفل يسار البوستر، بينما التشوه والتكسير الحادث لصور الشخصيات في البوستر يشبه التشوه والتكسير الذي سنراه في الأحداث فيما بعد.
وأدوار أنثوية مبدعة
ثم نذهب إلى شخصيات السيناريو الأهم، والتي نفخت فيها المخرجة الروح من خلال الكاميرا، التي نشعر بها كشخصية من لحم ودم، لها نظير في الحياة رأيناه كثيراً وما زلنا نراه.
أولى تلك الشخصيات هي "شيماء" التي تلعب دورها سلمى أبو ضيف، والتي وصلت إلى مرحلة من النضج والحضور، تستطيع بهما أن تحتل مكانة تليق بصدقها وصبرها واشتغالها على نفسها، لتخرج بهذا الصدق وهذا التنوع والتخلي عن المكياج في معظم مشاهد "شيماء"، الفتاة التي لم يكن في حساباتها أن تدخل عالم الشهرة، وسيقت إليه عن عمد من أختها "نسمة" التي تؤدي شخصيتها الممثلة ليلى أحمد زاهر.
"شيماء" شخصية حالمة من زجاج هش، هشمتها حجارة المجتمع المحيط بها قبل أن تحطمها الـ"سوشال ميديا". لقد قدمت الممثلة من خلاله دوراً مركباً من السيكودراما التي تحتاج إلى دراسة الشخصية من أبعادها النفسية والمجتمعية والخارجية، كالبنية الجسدية، والقدرة على التحكم في الجسد، وتعبيرات الوجه والعيون والحركة. والأهم قدرتها على فهم سيكلوجية الشخصية التي تلعبها. وقد فعلت كل هذا عن جدارة مع أختها التي ألقت بها في بئر السوشال ميديا عن قصد لتسقطا معاً فيه.
تلعب سلمى أبو ضيف دور "شيماء"، ويشهد للممثلة أنها وصلت إلى مرحلة من النضج والحضور، تستطيع بهما أن تحتل مكانة تليق بصدقها وصبرها واشتغالها على نفسها، لتخرج بهذا التنوع والتخلي عن المكياج في معظم مشاهد "شيماء"
أما دور "نسمة"، تلك الفتاة الصغيرة الأكثر تعقيداً وحقداً وحسداً وبحثاً عن الشهرة بأي طريقة، فقد قدمته الفنانة الشابة ليلى أحمد زاهر، وبنفس الواقعية التي نراها في الواقع لفتيات وقعن في بركة التريندات والأعلى مشاهدة.
الأم والأب والجدة
لقد استقت السيناريست حكايتها من واقع وقضايا وقعت في أعوام سابقة، ونفذتها المخرجة برؤية صادقة وذكية، بها مبالغة مطلوبة في شخصية "نسمة" لأنها بؤرة الحدث وبداية تكوينه، من سحب الجميع إلى الهاوية، وتعريضهم إلى مدفع على هيئة "شاشة موبايل" تصيب رصاصاته من لا ذنب لهم، كما هو الحال في دور الأم "حمدية"، الأكثر صدقاً ونضجاً عند الفنانة القديرة "انتصار".
"حمدية" أم حقيقية من طبقة مسحوقة اقتصادياً ومادياً واجتماعياً ونفسياً، ومعها في نفس الانسحاق الأب "فتحي" الذي يؤدي دوره الفنان محمد محمود. يقع هذا الثنائي الأبوي فريسة للفقر المادي والمعيشي بحثاً عن الوصول إلى الستر، لتأتي رصاصات الـ"سوشال ميديا" من أقرب من لديهم، وهم الأبناء.
يكمل هذا الألم دور الجدة "أم فتحي"، التي تلعب شخصيتها الفنانة القديرة أنعام سالوسة، لترصد الكاميرا تغيرات المجتمع لثلاثة أجيال متعاقبة.
حتى الإبنة الوحيدة البعيدة عن عالم السوشال ميديا "آمال"، والتي تقدمها الفنانة فرح يوسف تصاب بلعنة أخرى، وهي الزواج من شخصية مستغلة حد الابتزاز، وحيث يترجم هذا الزوج كل ما يحدث من حوله في عائلة زوجته إلى مكسب مادي، فهو الشخصية التي ستفعل أي شيء سواء أكان حلالاً أم حراماً. لكنه في نفس الوقت -مثل كل الشخصيات- فريسة للمجتمع. شخصية مركبة مسحوقة بمزيج من النذالة والخسة والكوميديا والوضاعة والجُبن، قدمها لنا الفنان إسلام إبراهيم في دور الزوج "علي".
يمكن القول إن كل الشخصيات التي ظهرت هي من لحم ودم، بما فيهم شخصية الخال "بندق" التي يقدمها الفنان أحمد فهيم. ولكننا نستطيع رؤية تميز المخرجة في الشخصيات الأنثوية، وفي شخصية "شيماء" أكثر من غيرها.
مخرجة شابة تفهم عالم الأنثى، وتركز عليه، وتتميز في رسم وتكوين كادراتها باتقان، فنرى لوحات بصرية ممتعة للعين لمصر التي كدنا أن ننساها، أو التي تم غسل شوارعها فظهرت وكأنها "فوتوشوب".
في فخ الوعظ
سار المسلسل من الحلقة الأولى في مسار الواقعية، وبشخصيات ميكافيلية بامتياز، تبرر لنفسها خطاياها، كما هو الحال في شخصية خال البطلات "بندق"، والزوج النذل "علي"، والزوج المجرم الذي يؤدي شخصيته أحمد الرافعي، وكذلك "حسن" الحبيب المزيف الذي يلعب دوره يوسف عمر، وراعي "التيك توكرز" الذي تم اختيار إسمه وأسماء الأبطال كإسقاط نفسي على دواخلهم، كما في شخصية "فوكس" التي يقدمها أمجد الحجار.
بمنتهى الصدق عاش المسلسل معنا رحلة من الألم لحياة الأبطال -الفريسة منهم والمفترس- رغم قسوته وألمه، فرائس للفقر والحاجة والمجتمع. ومفترس من ذات المجتمع ومن خارجه. ليغرق المسلسل في النهاية في وعظية عن الثواب والعقاب، حلقة كاملة في معظمها تدور في محاكمة كان من الممكن الابتعاد عنها حتى لا يسقط العمل في وعظ ديني ودرامي كلاشيهاتي.
فليس من الثابت أن ينتصر دوماً، كما أنه ليس دور الدراما أن تحل محل الواعظ الديني والأدبي. الدراما تقدم تساؤلات، فالناس تعرف الدين والأخلاق، ولكنها تخاف من القانون.
مسلسل "أعلى نسبة مشاهدة" واحد من أهم مسلسلات دراما موسم رمضان 2024، إذ حظي بحظ كبير من اسمه، وسيعيش في ذاكرة الدراما الاجتماعية طويلاً، لصدقه وأهمية تناوله، ولدراسته النفسية لشرائح مختلفة من المجتمع، دراسة رصدت بعين واعية مشاكل جيل وُلد متوحداً مع شاشة الموبايل، ومنعزلاً عن الواقع، لينسج واقعه الوهمي المريض أحياناً من خلالها. ولكنه انتهى نهاية فيها كثير من الوعظ كان من الأجمل أن يبتعد عنها.
سار المسلسل من الحلقة الأولى في مسار الواقعية، وبشخصيات ميكافيلية بامتياز، تبرر لنفسها خطاياها، كما هو الحال في شخصية خال البطلات "بندق"، والزوج النذل "علي"، والزوج المجرم الذي يؤدي شخصيته أحمد الرافعي، وكذلك "حسن" الحبيب المزيف الذي يلعب دوره يوسف عمر، وراعي "التيك توكرز" الذي تم اختيار إسمه وأسماء الأبطال كإسقاط نفسي على دواخلهم، كما في شخصية "فوكس" التي يقدمها أمجد الحجار.
سار المسلسل من الحلقة الأولى في مسار الواقعية، وبشخصيات ميكافيلية بامتياز، تبرر لنفسها خطاياها، قبل أن يقع في فخ الوعظية في النهاية وهو ما كان يمكن الاستغناء عنه.
بمنتهى الصدق عاش المسلسل معنا رحلة من الألم لحياة الأبطال -الفريسة منهم والمفترس- رغم قسوته وألمه، فرائس للفقر والحاجة والمجتمع. ومفترس من ذات المجتمع ومن خارجه. ليقع المسلسل في النهاية غرق في وعظية عن الثواب والعقاب، حلقة كاملة في معظمها تدور في محاكمة كان من الممكن الابتعاد عنها حتى لا يسقط العمل في وعظ ديني ودرامي كلاشيهاتي.
فليس من الثابت أن ينتصر دوماً، كما أنه ليس دور الدراما أن تحل محل الواعظ الديني والأدبي. الدراما تقدم تساؤلات، فالناس تعرف الدين والأخلاق، ولكنها تخاف من القانون.
مسلسل "أعلى نسبة مشاهدة" واحد من أهم مسلسلات دراما موسم رمضان 2024، إذ حظي بحظ كبير من اسمه، وسيعيش في ذاكرة الدراما الاجتماعية طويلاً، لصدقه وأهمية تناوله، ولدراسته النفسية لشرائح مختلفة من المجتمع، دراسة رصدت بعين واعية مشاكل جيل وُلد متوحداً مع شاشة الموبايل، ومنعزلاً عن الواقع، لينسج واقعه الوهمي المريض أحياناً من خلالها. ولكنه انتهى نهاية فيها كثير من الوعظ كان من الأجمل أن يبتعد عنها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون