هذا الكاتب النوبلي، يون فوسه، حيّرني بأسلوبه المتفرد، وزهدِه حتى في الحضور إلى مصر، ضمن الاحتفاء بالنرويج ضيف شرف الدورة الخامسة والخمسين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب (24 كانون الثاني/يناير ـ 6 شباط/فبراير 2024).
في ندوة "كتابات يون فوسه بين الباطنية والروحانية"، بمعرض الكتاب، بدأتُ كلمتي بأنه الوحيد الذي تمنيتُ لقاءه، من بين الفائزين بجائزة نوبل؛ لأسأله سؤالاً محدداً: من آباؤك يا رجل؟ كيف ابتدعت أسلوباً يخصك وحدك؟ هو استثنائي، كأنه بلا آباء، وقد استطاع أن يتمثل عدداً لا نهائياً من آباء الكتابة، الاحترافية والشعبية، هضمهم وأخفى ملامحهم، مثلما يستحيل التعرف إلى أي من الغزلان والخراف، وغيرها من الطرائد، في جسد الأسد.
يون فوسه، المولود عام 1959، يكتب باللغة النرويجية الجديدة "نينورسك"، لغة أكبر منه بمئة سنة فقط، وهو أول كاتب بهذه اللغة المحلية ينال جائزة نوبل في الآداب (2023). يذكر الدكتور منتجب صقر في تقديم مسرحية فوسه "الكلاب الميتة"، ترجمة محمد حبيب، أن النينورسك تعني لغة الأرياف، أما البوكمال فهي لغة الكتب في النرويج "البلد الوحيد الذي ليست له لغة وطنية رسمية"، وأن لهجة النينورسك ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر، وفي عام 1850 وضع بائع الأعشاب الطبية إيفر آسن (1813 ـ 1896) قاموس هذه اللغة الشعبية، وأسس قواعدها اللغوية، "ليؤكد هوية بلده وعراقة شعبه... ردّاً على الاجتياح الثقافي الدنماركي للنرويج".
في ندوة "كتابات يون فوسه بين الباطنية والروحانية"، بمعرض الكتاب، بدأتُ كلمتي بأنه الوحيد الذي تمنيتُ لقاءه، من بين الفائزين بجائزة نوبل؛ لأسأله سؤالاً محدداً: من آباؤك يا رجل؟ كيف ابتدعت أسلوباً يخصك وحدك؟
ينقل منتجب صقر عن فوسه قوله، عام 2008: "أكتب بلغة لا يتكلمها سوى خمسمائة ألف شخص. وهي لغة أقلية مكروهة؛ لأنها إجبارية في المدارس. بالنسبة إليّ، إنها صوت جدتي وأمي. إنها لغة نظيفة جداً، مثابرة لم تتأثر بالدعاية ولا بلغة الأعمال... إنها أداة رائعة... لغة مجردة تفيد التفكير والتأمل، وهي تقدم لي نوعاً من الأمان والحماية، وفي الوقت نفسه فإنها تغمرني بالحزن لأنني أعرف أنها ستختفي". هذا فوسه، ولو جاء لسألتُه عن ذلك التشاؤم باختفاء لغة يراها "أفضل وسيلة لتأكيد ما تبقى من خصوصية نرويجية"، لكنه زهد، مثل أبطال أعماله المتصوفين بالفطرة، وبهذا النزوع تصير حياتهم لا نهائية، تهزم الموت.
يون فوسه درسٌ للحالمين العرب بأوهام العالمية، المتشعلقين بذلك السراب المخاتل، وقد خايل الكثيرين واستهلك أعمارهم واستنزف أعصابهم، شاغلهم به مستشرقون ماكرون، قدّموا الطعم وراقبوا الأسماك تقفز من مياهها، تشبّ على ذيولها، وتمدّ رؤوسها حتى نبتت لها أعناق من طول الاشتياق.
لعل نوبل فوسه تكون إفاقة؛ فالرجل حكاية كبيرة، يكتب بلغة أقلية محلية، عن عوالم وتفاصيل لا يعنيه منها إلا شرطها الإنساني، ويترفّع عن الوقوع تحت أضواء نوبلية مستحقة. درس فوسه يذكّر بدرس نجيب محفوظ العائش في التجديد، حتى أتته الجائزة فأكمل برنامجه اليومي، كأن نوبل جملة اعتراضية، وما ينبغي أن تكون إساراً، وإن منحته لقباً يحلو للسذج ترديده واستغلاله.
يون فوسه درسٌ للحالمين العرب بأوهام العالمية، المتشعلقين بذلك السراب المخاتل، وقد خايل الكثيرين واستهلك أعمارهم واستنزف أعصابهم، شاغلهم به مستشرقون ماكرون، قدّموا الطعم وراقبوا الأسماك تقفز من مياهها، تشبّ على ذيولها، وتمدّ رؤوسها حتى نبتت لها أعناق من طول الاشتياق.
ابتذل مصطلح "العالمي" منذ نوبل محفوظ (1988). الجائزة أنصفته، وأنقذته من كارهين ومتعالين أُجبروا على الركض، يباهون بقربه، ويتحدثون باسمه، وينسبون إليه آراء، ويصدرون عنه الكتب. وسينمائياً أصبح اسمه استثماراً وعنواناً للوجاهة. في فيلم "وكالة البلح" سبقت "نجمة الجماهير نادية الجندي" اسم محفوظ. وبعد صرعة نوبل، واللهاث على إنتاج أعمال بضمانة "العالمية"، بدأ فيلم "قلب الليل" عام 1989 هكذا: "قصة الحائز على جائزة نوبل في الآداب لعام 1988 نجيب محفوظ". وفيلم "ليل وخونة" عام 1990: "قصة أديب مصر العالمي نجيب محفوظ". وفيلم "نور العيون" عام 1991: "عملاق الأدب العربي والعالمي نجيب محفوظ"، ولا علاقة للفيلم بقصة لمحفوظ تحمل عنواناً آخر.
يُنسب المواطن، والكاتب بالضرورة، إلى بلد يحمل جنسيته. ولا يوجد بلد اسمه العالم لكي يكون مواطنه عالمياً. لا أحد في إسبانيا أطلق صفة العالمي على ثربانتس، ولا في أيرلندا على جويس، ولا في كولومبيا على ماركيز، ولا في ألمانيا على غونتر غراس. ليس عالمياً حتى الموزعة جنسيته بين دولتين (تزفيتان تودوروف، ميلان كونديرا). ولعل اللقب، عربياً، ثمرة استلاب لأهواء استشراقية. تلتهب الحماسة، لا الخيال، فتغذّي البعضَ بأعمال يغنون الغرب عن كتابتها، ويعفونه من اللوم. هذه كتابات عرب عن أنفسهم، شهادات أنثروبولوجية يدرسها طلاب أقسام اللغات الشرقية ومعاهد الاستشراق، فتترسخ التصورات الإدراكية القديمة لدى مستشرقين جدد، سيواصلون تكريس الصورة الذهنية الموروثة.
يون فوسه يخلص للفن، ويغنيه إيمانه بقدسية الإبداع، وينظر في ورقته، ولا يهتم بما بعد الكتابة، ولا تشغله أوهام العالمية، ولا تغريه الجائزة ولو بالسفر إلى مصر لتكريمه. من يكتب بصدق، ولو عن قضية محلية تماماً أيّاً كانت درجة تفاعل القارئ الأجنبي معها، سوف ينتج أدباً إنسانياً باقياً، يحنو على نفوس بشرية تمدّ جسوراً إلى روح القارئ، فيقرأ إبداعاً كأنه عنه شخصيا، عن إخوته في الإنسانية، فيتمنى الغوص بين السطور ليطبطب عليهم، ويقول: لستم وحدكم، ستعيشون طويلاً، ويكون لكم إخوة ما طبع الكتاب بأي لغة. أظن أن هذا الأدب الإنساني هو الذي يسميه البعض عالمياً، وهذا ما يكتبه يون فوسه.
في عام 2018 كتبت عن رواية فوسه "صباح ومساء" مقالاً، ثم جعلته فصلاً في كتابي "في مديح الكتابة" (2023). لعله أول كتابة عربية عن يون فوسه قبل أن يتنوبل. ثم قرأت روايته "ثلاثية"، وترجمت الروايتين من النرويجية شرين عبد الوهاب. وفي ندوة "كتابات يون فوسه بين الباطنية والروحانية"، بمعرض الكتاب، أهداني المترجم السوري المقيم في النرويج محمد حبيب ترجمته لمسرحية فوسه "الكلاب الميتة". ثلاثة أعمال لمبدع مختلف، يكتب بأسلوب محايد، يبدو محايداً، وإن انطوى على صرخات ومستويات من العنف تبلغ حد القتل. لغته لوحات تشكيلية لطبيعة صامتة، يتصارع فيها الهمس، بطل المسرحية يقتل جاره في دراما ساكنة، توحي ولا تصرّح.
المبدع "الإنساني"، لا العالمي، كائن نادر، يؤمن بالجوهر، ولا يستجيب لإغراء الأحداث الكبيرة، ولا يلتفت إلى الرائج. يدرك أن اتساع الرؤية تحدٍّ كبير يقترن بضيق العبارة ودقّتها. وبالهمس يقول كل شيء، بمكر فني يعبر عن هموم وأشواق إنسانية مشتركة. أبطال الأعمال الثلاثة التي قرأتها ليون فوسه وحيدون، لا يهربون من أقدارهم، فقراء لا يتبرمون، مؤمنون إيماناً فطرياً مشوشاً؛ فالأب الفقير أولاي في رواية "صباح ومساء" يوقن بوجود قوة عليا مدبرة للكون، "هناك إله نعم، ولكنه البعيد النائي، والقريب الداني، وليس عالماً بكل شيء ولا قادراً على كل شيء، وهذا الإله ليس الوحيد الذي يحكم الكون والبشر، نعم إنه موجود هنا".
يُنسب المواطن، والكاتب بالضرورة، إلى بلد يحمل جنسيته. ولا يوجد بلد اسمه العالم لكي يكون مواطنه عالمياً. لا أحد في إسبانيا أطلق صفة العالمي على ثربانتس، ولا في أيرلندا على جويس، ولا في كولومبيا على ماركيز، ولا في ألمانيا على غونتر غراس
هذه الشكوك لا تربك أولاي، ولا تصرفه بالأسئلة الذهنية المصيرية عن لحظة ولادة ابنه، فالإنسان مثل كل الكائنات يأتي من عدم إلى عدم، هكذا كان أبوه يوهانس، وسيكون ابنه الذي اختار له اسم يوهانس، "وإلهه ليس إله هذا العالم.. إنه إله تشعر به عندما تتنكر لهذا العالم، عندها يظهر بنفسه، وعلى نحو غريب، في الفرد كما في العالم". يبدو الرجل، الذي لم يكن قويّ الإيمان، متصوفاً مؤمناً بوحدة الوجود، واتحاد الله بمخلوقاته، وأن الله والطبيعة حقيقة واحدة، كما قال ابن عربي: "فكل شيءٍ تراه ذلك الله"، وكذلك: "وتحسب أنك جرمٌ صغيرٌ/ وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ". فكيف كان أولاي يرى المسيح؟
آمن أولاي بوجود "روح إلهية كائنة في كل شيء"، وتذبذب إيمانه بالله، فهو بعيد قريب، يكمن داخل كل نفس بشرية، والله جعل "من نفسه بشراً عاش بيننا"، عندما مشى المسيح على الأرض، ويتجلى الله في لحظة الولادة، وفيها سأل نفسه عن وفاة زوجته، وتخيل المعاناة والوحدة، وأيقن "بأن الشيطان يحكم العالم بقدر ما يحكمه الله... الله الرحيم يظل هنا أيضاً". وسوف ترث سيجنه بنت يوهانس هذا الإيمان بالإله "البعيد الطيب لا بدّ أن يساعدها، والآن فإن يسوع المسيح، الذي يمدّ وثاقاً بين الإله البعيد الطيب والبشر الضائعين في هذا العالم الشرير، الذي تحكمه آلهة الموت عديمة السلطان، ينبغي أن يساعدها".
بشرٌ متصالحون مع العالم، راضون عن أنفسهم وعن الله، ولا يثير الموت فزعهم، يتصلون بأسلاف عاشوا قبل أن تزرع الأديان الرعب في النفوس مما بعد الموت؛ للسيطرة على الناس، وإثقالهم بالحاجة إلى الغفران. كان الموت في مصر القديمة، ولا يزال في عقائد الشرق الأقصى، طقس انتقال من حال إلى حال. وفي "صباح ومساء" تختلط الحياة بالموت، ويحار يوهانس ويتساءل هل صديقه بيتر الذي أمامه حيّ أم ميت؟ ثم يأتيه بيتر من العالم الآخر: "أنت الآن ميت أيضاً يا يوهانس"، ويخبره بأنهما الآن راحلان إلى مكان غير محدد، إلى اللامكان "لا توجد أجساد حيث نحن راحلان، ومن ثم لا ألم هناك".
في إحدى قصص ألف ليلة وليلة يصادق عبد الله الصياد آدمياً من البحر، يدعوه إلى زيارة مدن البحر، ويعطيه أمانة يوصلها إلى قبر النبي، ويرى الصياد فرحاً وغناء، ويعلم بموت أحدهم. يعجب؛ فيسأله البحري: فماذا تفعلون يا أهل البر؟ يجيب: "نحزن عليه ونبكي والنساء يلطمن". فيحملق: "هات الأمانة"، ويعيده إلى البر: "قطعت صحبتك وودك... فكيف لا يهون عليكم أن الله يأخذ أمانته، بل تبكون عليها، وكيف أعطيك أمانة النبي". وأبطال يون فوسه راضون هنا، آمنون هناك، بين الحياة والموت ممرات آمنة، يتزاورون، أليدا وزوجها المشنوق أسلا، وألِيس وأمها أليدا في رواية "ثلاثية"، ويوهانس وبيتر، ويوهانس وابنته سيجنه، في "صباح ومساء".
ما الصباح والمساء إلا الحياة والموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...