شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بعد أن صارت الحياة الأخلاقية سبباً للتعاسة… كيف نسعى إلى خير العالم ونبقى سعداء؟

بعد أن صارت الحياة الأخلاقية سبباً للتعاسة… كيف نسعى إلى خير العالم ونبقى سعداء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات العامة

الجمعة 15 سبتمبر 202301:21 م

"لا أمل في إصلاح العالم". "لا أمل في تحسن أحوالي". "لا جدوى من وجودي في الحياة". "لن أستطيع العيش في هذا العالم الرديء المليء بالشر والغباء"، إلخ؛ عبارات كهذه يرددها كثر من الأشخاص الأخلاقيين، الذين يصرّون على أن يجعلوا لحياتهم، وللحياة عموماً، معنى خيرياً، بعد أن يصطدموا بالواقع، حيث تتحول حياتهم إلى تعاسة كبيرة، وتصبح السعادة بالنسبة لهم من المحرمات، لأن ما يحملونه من هموم لا يحتمل ترف السعادة، على طريقة "كيف أضحك والقدس أسير؟!"، وهي العبارة الشائعة المنسوبة إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي.

لماذا يشعر بعض من يسعون إلى خير العالم -من منظورهم الأخلاقي- بالتعاسة؟ ولماذا يستمرون في مسعى حياتهم برغم إحباطاتهم؟ والأهم: هل يمكن أن يعيش هذا الإنسان بالعكس: أي أن يسير في مسعاه وهو يشعر بالسعادة؟ أي هل يمكن أن يناضل الإنسان من أجل قيم كالحرية والعدالة والأمانة، ضد الاستبداد والظلم والكذب، وهو سعيد؟ هذا ما نجتهد في الإجابة عنه.

أن يصبح للحياة معنى لا يعني أنها سعيدة

من يعمل خيراً يجني خيراً، وفقاً لقوانين الكارما، ووفقاً لقوانين الديانات، ووفقاً لعدد كبير من الفلاسفة. ولكن ذلك لا يعني أن من يجني خيراً يصبح سعيداً. يمكننا إثبات أن السعادة لا علاقة لها بقيمة ما يبذله الفرد في الحياة من خير، من أكثر من جهة، وقد اخترنا منها المقارنة التي أجراها أستاذ الفلسفة الأمريكي تاديوس ميتز Thaddeus Metz، بين "السعادة" و"المعنى".

لتحقيق المعنى دروب كثيرة، وقد تكون للسعادة دروب أكثر، حسب ما نطالع بين فلاسفة مختلفين وفلسفات مختلفة، ولكننا هنا نتحدث عن الشخص المهموم بقيم أخلاقية خيرية يسعى إلى تطبيقها

فهناك فارق بين أن يكون لحياتك "معنى"، وبين أن تكون هذه الحياة "سعيدةً"؛ فقد يكون إنساناً "تعيساً" وحياته "لها معنى"، وقد يكون "سعيداً" وحياته "بلا معنى". هناك مثلاً من يشعرون بتقدير كبير من مجتمعهم بسبب دفاعهم عن قيم محددة أو قضايا معينة، ولكنهم "لا يشعرون بالسعادة"، وهناك من لا يعنيهم العالم، وهم بلا أي قيمة بين مجتمعاتهم، ولكنهم "سعداء".

وفصَّل تاديوس ميتز هذا الاتجاه في ورقة بحثية له بعنوان "السعادة والمعنى: بعض الفروق الأساسية"، ومن هذه الفروق أن السعادة مسألة ذاتية تعود للشخص نفسه، فالحياة السعيدة تتشكل من مجموعة من "الخبرات المستقلة" والتي تُعدّ "سعيدةً" بطبيعتها. أما الحياة ذات المعنى فتتشكل من "أفعال" تُعدّ "حسنةً" بطبيعتها.

ووفقاً لميتز، مصدر السعادة وحاملها يمثلان شيئاً واحداً؛ فمثلاً قد تُشكِّل الأحاسيس التي تتولد داخل شخص من سماع الموسيقى، شعوراً بالسعادة حتى لو لم تكن هناك موسيقى يستمع إليها، وذلك حين يتذكر موسيقى يعرفها مسبقاً وتدور في ذهنه وكأنه يسمعها بالفعل؛ فالإحساس بالسعادة يمكن أن يحدث من داخل الإنسان عن طريق استغلال الحالات الذهنية فقط، ولا يحتاج إلى وجود أي صلة بالعالم الخارجي؛ فهو ممكن إذا ما استمعنا إلى الموسيقى بطبلة الأذن، كما هو ممكن بسبب دوائر المخ الكهربائية.

وهذا المثل نفسه عن الموسيقى ربما يتشابه مع كل القيم الروحية التي يحملها الشخص في داخله، كبعض القيم الدينية، وأي قيم ميتافيزيقية غير مادية داخلية تمنح الإنسان الطاقة والأمل. وكذلك يتشابه هذا المثل مع الشعور الحسي بالسعادة، كالإحساس بالنشوة الجنسية التي ربما يشعر بها إنسان وهو بعيد عن شريكه الجنسي، بدرجة قد تشبه النشوة التي يشعر بها وهو معه.

أما "المعنى" فيرتبط بعلاقة، أو شيء ما مستقل عن الفعل الحامل للمعنى، فيكون الفعل أكثر "معنى" أو أقل، بسبب شيء معيّن موجود خارج الفعل أو مستقل عنه، خاصةً إذا كان هذا الشيء سبباً للفعل، أو قد يؤدي إلى حدوثه مستقبلاً.

للتوضيح: إذا نظرنا إلى عمل فني ينتج عنه معنى، وهو "إعجاب الناس وتقديرهم للعمل الفني وللفنان الذي أنتجه"، فسنجد أنه في حالة أخرى لا ينتج عن العمل نفسه شيء ذو قيمة؛ فالمعنى هنا (الإحساس بالإعجاب والتقدير) مكتسب من الجمهور لا من الفنان، وما يعجب بعض الجماهير ربما لا يعجب جماهير أخرى.

من الفوارق أيضاً بين "السعادة" و"المعنى"، أن السعادة تكون في الحياة، أما المعنى فقد يتحقق للفرد بعد مماته. فان غوغ (1853-1890) مثلاً، هذا الرسام الهولندي الشهير، الذي عاش تعيساً فترات كبيرةً من حياته، لم يكتسب معناه في دنيا الفن ولم يشتهر إلا بعد وفاته بفترة طويلة! ولذلك يرى بعض الفلاسفة مثل ألبير كامو، وجوزيف هيلر، أن المعنى أمر يستحق الموت من أجله، ولذلك قد يضحّي أبٌ من أجل طفله، أو جندي من أجل وطنه.

الفخر بالتعاسة والسعادة بالألم في سبيل تحقيق "المعنى"

ولكن الكثير ممن يشعرون بالتعاسة "مع السعي إلى تحقيق معنى لحياتهم"، نجدهم بدلاً من الابتعاد عن هذا الكفاح الذي يجلب لهم التعاسة، يواصلون حياتهم بالشكل نفسه وكأنهم سعداء به، برغم أن أحاديثهم تجعل من يستمع إليها يعتقد أنهم تعساء إلى درجة أنهم قد يقبلون على الانتحار، ولكنهم لا ينتحرون.

آرثر شوبنهاور (1788-1860) مثلاً، هذا الفيلسوف الذي عُدّت فلسفته عنواناً للتشاؤم، وكانت حياته الشخصية مليئةً بالكآبة، لم ينتحر كما تجمع المصادر وتؤكد، بل عاش 72 عاماً تقريباً، ومات وهو جالس على أريكة بشكل طبيعي. فكيف يستمر شوبنهاور وأمثاله في هذه الحياة الكئيبة، التي يتأكدون أنها لن تتغير إلى الأفضل؟

الخبير الروحاني الشهير إيكهارت تول، تحدث في كتابه "أرض جديدة" عن فكرة إدمان المظلومية، وكيف أن هناك من يرى مظلوميته أداةً للتعبير عن نفسه، يصنع لحياته معنى من خلالها، وإذا زالت عنه ربما ينهار كيانه بين الناس، وتالياً فإن هذا الشخص -ربما بصدق شديد وبشكل لا شعوري- يزداد تألماً، وكلما كبرت كتلة الأكل في داخله وعبّر عنها، ازداد معنى وجوده في الحياة.

يعلّق على هذه الحالة الفيلسوف الأمريكي برتراند راسل، في كتابه "انتصار السعادة"، بأن بعض من يصوّرون أنفسهم بأنهم الحكماء أو المستنيرون في المجتمع، ويصورون للناس أنه لم يعد هناك شيء باقٍ يعيشون من أجله، هم تعساء بحق، ولكنهم معتزّون بتعاستهم التي يرجعونها إلى طبيعة الكون، ويعدّونها المسلك المنطقي الوحيد للإنسان المستنير.

واعتزازهم بتعاستهم يجعل من هم أقل تعقيداً يشكك في حقيقة هذه التعاسة، فهم يعتقدون أن الإنسان الذي يستمتع بكونه تعيساً ليس تعيساً، لأن هناك تعويضاً يأتيه من إحساسه بالتعالي على من حوله، نتيجة عمق الإدراك الذي يحسه.

إلا أن راسل يرى أن هذا التعويض غير كافٍ لتعويض فقدان المتع البسيطة التي يشعر بها السعداء، ويعتقد أن قليلين جداً من الناس سوف يختارون التعاسة إذا كان بإمكانهم أن يكونوا سعداء.

كيف يمكن الجمع بين "السعادة" وتحقيق "المعنى"؟

لتحقيق المعنى دروب كثيرة، وقد تكون للسعادة دروب أكثر، حسب ما نطالع بين فلاسفة وفلسفات مختلفة، ولكننا هنا نتحدث عن الشخص المهموم بقيم أخلاقية خيرية يسعى إلى تطبيقها، ونفترض أن هذا الشخص حوله الكثير من أساب السعادة، ولكن همّه الأخلاقي والقيمي يحوّل كل شيء حوله إلى تعاسة... فكيف يستطيع الجمع بين "السعادة" و"المعنى"؟ أي كيف يستمر في مسعاه لكن وهو سعيد؟

قبل الإجابة عن السؤال، علينا أولاً التفريق بين شيئين، هما "الاهتمامات الخارجية" و"الاهتمامات الداخلية"، حسب ما يوضح برتراند راسل.

والاهتمامات الذاتية أو الداخلية هي التي تمثل مجرى حياة الشخص، وعنوانها، فهي الطب بالنسبة للطبيب، والكتابة للأديب، والغناء للمطرب، وكذلك فهي السياسة بالنسبة للسياسي... أما الاهتمامات الخارجية فهي الأمور التي يمكن أن نسميها مجازاً بـ"الاهتمامات الثانوية".

ويرى راسل أن الاهتمامات الخارجية تحمل غالباً احتمالات الألم، ولكنها ضرورية جداً لحيوية الإنسان؛ فالمجتمع مثلاً، قد يكون مليئاً بالظلم السياسي أو القهر الاجتماعي، لكن ذلك قد لا يقع بشكل مباشر على الشخص. وهذه الآلام التي هي من هذا النوع لا تدمر الخاصية الأساسية للحياة بالنسبة لهذا الشخص، كما قد يفعل به الاشمئزاز من ذاته نفسها نتيجة فشل أو فقدان ما.

كما أن الاهتمامات الخارجية تحفز النشاط الذي طالما ظلّ حياً، فإنه يوفر وقايةً كاملةً من الضيق والملل. وعلى النقيض من ذلك، فالانغماس في الذات لا يؤدي إلى أي نشاط تقدمي.

إلا أن هناك من يعدّ الهم العام هو همه الشخصي، كالمثقفين والفلاسفة والسياسيين، لأن الشأن العام بالنسبة لهم بداهة هو شأن شخصي باعتبار طبيعة عملهم، وعلى هؤلاء أن تكون لهم اهتمامات ثانوية؛ سيكون جميلاً أن يحب السياسي مثلاً الموسيقى أو الرسم أو الطبخ أو الأدب أو ممارسة لعبة رياضية أو تشجيع فريق رياضي، أو أي أنشطة أخرى ثانوية بالنسبة له، وكذلك سيكون مهماً أن يتابع الحرفي أو الطبيب أو الموسيقي الشؤون السياسية العامة ويهتم بها.

ويوضح راسل أن استغراق الإنسان في همه الشخصي دون وجود اهتمامات ثانوية، هو أحد أسباب التعاسة والإعياء، إذ ينتج عن ذلك عدم إتاحة الفرصة للعقل اللا واعي للعمل، والذي لا يعمل إلا في غفلة العقل الواعي، وهذه الغفلة تأتي عندما ينشغل الإنسان بشيء غير عملي ولا يحتاج إلى تركيز كبير، وفي هذه الحالة يعمل العقل اللا واعي ويلهم الإنسان.

كذلك فإن الإنسان الذي لا يعمل عقله اللا واعي يظل في إعياء عقلي شديد، وتعاسة وكآبة لا تنقطعان، وسيصبح انهياره وقت فاجعة معيّنة أمراً محتملاً، أما من يملك اهتمامات ثانويةً فيستطيع أن يتجاوز الأمر بسهولة، لأن لديه الحيوية التي تجعل دروب الاستمتاع بالحياة بالنسبة له كثيرةً، فتعينه هذه الاهتمامات على تجديد شغفه بالحياة وبمجال نضاله من جديد، بحسب راسل.

الإنسان الذي يتخذ من الهم العام هماً شخصياً له، أو أي شخص يريد أن يكون لحياته معنى وفي الوقت نفسه أن تكون سعيدةً، عليه أن يحتفظ لنفسه باهتمامات ثانوية تجلب له السعادة وتريح عقله الواعي

ويدعم ما قاله راسل عن العقل اللا واعي ما يُعرف بـ"تصنيف والاس لشرح كيفية ميلاد وخلق الإبداع داخل المبدع وخروجه للنور"، حيث يقسم الإبداع إلى 4 مراحل هي "الإعداد، الاحتضان، الإشراق، والتحقيق".

في مرحلة الإعداد يجمع المبدع -أو صاحب القضية أياً كان مجال عمله- المعلومات ويستدعي الخبرات، ثم يحتضن معضلة الموضوع الذي يفكر فيه ويسعى إلى حلها، وفي هذه المرحلة قد يصاب بالإحباط وينصرف عن الموضوع، فتأتي المرحلة الثالثة وهي "الإشراق".

وهذا الإشراق يأتي نتيجة أن الفكرة ظلت نشطةً في اللا وعي "العقل الباطن"، الذي ظل يعمل في صمت دون أن يزعج العقل الواعي حتى وصل إلى حل المعضلة، فجاء الحل للعقل الواعي كومضة أنارت أمامه ليرى الحل، ويبدأ بعد ذلك في تحقيقه، حسب ما يشرح الدكتور حسن أحمد عيسى في كتابه "الإبداع في الفن والعلم".

الخلاصة أننا إن كنا نتخذ من الهم العام هماً شخصياً لأنفسنا، أو إن أردنا أن يكون لحياتنا معنى وفي الوقت نفسه أن نكون سعداء، فعلينا أن نحتفظ لأنفسنا باهتمامات ثانوية تجلب لنا السعادة وتريح عقولنا الواعية، وبجانب ذلك تمنح تلك الاهتماماتُ عقولَنا اللا واعية الفرصةَ لتلهم عقولنا الواعية بحلول لمشكلاتنا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard