شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
جدل يثيره

جدل يثيره "صلة رحم"… تحديات تأجير الأرحام تحت المجهر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات العامة

السبت 30 مارس 202412:45 م

مرور الزمن يجعل البشر يطرحون تساؤلات ربما لم تظهر أبداً في عقل إنسان العصور السابقة، أو ربما طُرحت فعلاً لكنها لم تأخذ حقها من التفنيد والمناقشة، وقوبلت بنوع من الصرامة التي وافقت أو اعترضت على تلك الأفكار والأسئلة بدوافع دينية أو أخلاقية، وتجاهلت الحياة التي تزداد تعقيداتها يوماً بعد آخر. ربما من بين هذه الأسئلة الوجودية المهمة التي اكتشفها الإنسان، بعدما اكتشف فجأةً أنه يمكنه استئجار عضو تناسلي بديل للإنجاب، هو: هل يولد الإنسان بذكريات وخبرات أبوية جينياً؟

في الإجابة عن هذا السؤال، كشفت التجارب الحديثة التي أُجريت على القوارض أنها تمكّنت من الاستفادة من التجارب السابقة للآباء، بإيجاد طرق للخروج من المتاهات، ما قد يشير إلى أن ذكريات الآباء وخبراتهم كانت مطبوعةً بطريقة أو بأخرى في جيناتهم الوراثية، وربما لذلك يحاول العلماء الآن معرفة ما إذا كانت الصدمات التي يمر بها الإنسان تؤثر على الحمض النووي، ويمكن أن تنتقل عبر الأجيال، تماماً كما ينتقل إليهم جزء من مزاجهم وأفكارهم دون وعي، وتالياً يمكن أن تساعد النتائج في تفسير وعلاج القلق والرهاب واضطرابات الإجهاد اللاحقة للصدمات، ومختلف الحالات الأخرى.

ملصق مسلسل "صلة رحم"

تبدو التجربة في السياق البشري حاملةً لتساؤلات أخرى أبعد وأكثر وجوديةً وتركيباً: فلو سلّمنا أن الإنسان يولد بذكريات أسلافه وخبراتهم وأمزجتهم فعلاً، فما مدى منطقية أن يدخل الإنسان في معضلة تأجير رحم آخر ليصبح وعاءً مناسباً لحمل طفل من رجل وامرأة لديها مشكلات في أن تحمل لأسباب مختلفة. كان ذلك التساؤل نقطة البداية لمئات التساؤلات الاستفسارية والاستنكارية المتتالية التي تطرحها فكرة "تأجير الأرحام" التي يحرّمها الدين، ويجرّمها المجتمع، وتعيد السؤال عنها الحالات البشرية التي تصطدم بتجربة العقم في الوقت الذي تسعى فيه بكل الطرق للحصول على طفل.

تبدو التجربة في السياق البشري حاملةً لتساؤلات أخرى أبعد وأكثر وجوديةً وتركيباً: فلو سلّمنا أن الإنسان يولد بذكريات أسلافه وخبراتهم وأمزجتهم فعلاً، فما مدى منطقية أن يدخل الإنسان في معضلة تأجير رحم آخر ليصبح وعاءً مناسباً لحمل طفل من رجل وامرأة لديها مشكلات في أن تحمل لأسباب مختلفة؟

هذه الفكرة، صارت قضية المخرج تامر نادي، والمؤلف محمد هشام عبية، في مسلسلهما الجديد "صلة رحم"، الذي يتناول في إطار درامي تشويقي قضية تأجير الأرحام، من خلال قصة طبيب التخدير حسام (إياد نصار)، وزوجته ليلى (يسرا اللوزي)، ويبدو العمل مركباً درامياً ليقدّم كل المبررات لمناقشة القضية دون أحكام أخلاقية ودينية مطلقة.

المسلسل فكرة أحمد محمود أبو زيد، استناداً إلى فيلم والده "جري الوحوش"، لكن الفكرة طُوّرت أكثر، وربما كانت تحتاج إلى هذا القدر من الحساسية في التعامل معها، ما جعل المؤلف محمد عبية، يكتب نهايتها أكثر من ست مرات متتالية، ليدرك أكثر مدى التركيب والتعقيد الذي يمكن أن تستند إليه قصة معقّدة مثله، ويعتمد على عدد من الشهادات الحية وعشرات القصص الصحافية والتجارب على مستوى العالم.

القضاء والقدر داخل رحم مستأجر

يقول محمد هشام عبية لرصيف22، إنه كان يعلم منذ البداية أن المسلسل شديد الحساسية، وإن أكثر ما كان يقلقه هو الجانب الديني: "لذلك قررت أن يخرج بشكل واضح ومعلن، لكن في إطار لا يجعله مؤثراً على الدراما التي أناقش من خلالها القضية". بعيون صحافي قديم وقلب رجل شكّلته التجارب البشرية الجديدة التي خلقت آلاف الآراء في الموضوع، حاول أن يصنع ذلك.

بات "صلة رحم" من هذا المنطلق تحديداً، يفهم منطق وجوده واستثنائه، وهو التساؤل الوجودي المفتوح عن الضعف البشري العام، وما يمكن للقدر أن يعجّز به الناس، وكيف يمكن التعامل مع ذلك أبعد قليلاً من فكرة تأجير الرحم فحسب؟


"يمكن ذكي بس القدر أذكى/مشيت في شوك صرخت م الشكّة/مين فينا يملك دمعة أو ضحكة/سبحانه مين أضحك ومين أبكى"؛ في تتر المقدمة والنهاية، تؤكد الكلمات على مأساة الضعف البشري في قلب "حسام"، البطل الذي يبدو وفق الجميع، يحارب القدر الذي حرمه من الإنجاب. تبدو الرحلة في المسلسل متجسّدةً في حسام أكثر من الجميع، وربما يبدو نقاش المسلسل درامياً بشكل ذكي ووجيه من تلك النقطة تحديداً: قضية تأجير الأرحام من خلال رغبة رجل وسعيِه، تبدو قضيةً تخصه فعلاً، لكنها بواسطة أخريات، يقنعهن بالموافقة. هذا القرب وهذا البُعد يمران بالمشاهدين على القضية، أبعد من الحكم الأخلاقي فقط، ويحكيان التجربة البشرية بما تحوي من الحب والكراهية والأنانية المفرطة الموزّعة على حسام وغيره.

تجمع دراما المسلسل عدداً من القضايا الإشكالية مثل تأجير الأرحام والإجهاض والعنف الأسري، وهو ما يجعل العمل ربما تحقيقاً صحافياً مجتمعياً لصانعه المؤلف الذي بدأ عمله أساساً كصحافي قبل أن ينتقل إلى كتابة الدراما، بالتعاون مع الصحافي الباحث علاء عزمي، الذي يوفّر مصادر ومواد علميةً تفيد العمل، وقد عملا معاً في أعمال سابقة مثل "رسالة الإمام" و"بطلوع الروح"، وبدت الأعمال مرتبطةً بالمجتمع بقدر ما فيها من خيال ودراما يستدعيان إعادة التساؤل حول المسلّمات والبديهيات.

بدا المسلسل أنضج كتابات مؤلفه فعلاً؛ فهو ذكي ورقيق في خلق دراما شفيفة تصنع خطاً جديداً وموازياً في مناقشة قضية شائكة تماماً، يضع خلالها معارضة الدين الأوضح في المعادلة، والاستنكار المجتمعي الذي لا يخص طبقةً بعينها، ويبتعد تماماً عن أي حُكم أخلاقي على أبطاله.

أبعد من ذلك كله، كانت نقطة القوة المثالية في القصة تناولها من خلال سعي ذكوري إلى تحقيقها. رؤية قضية نسائية تماماً من تحركات رجل كان وقعها أكثر نبلاً وأوسع استقبالاً، سواءً بوعي أو من دونه. بدا حسام أنانياً في سياق القصة، ومتفرّداً بالبطولة بشكل ما لسعيه إلى تحقيقها والتساؤل بها ومن خلالها. وباتت في النهاية قصةً تخص الرجال والنساء، وأنضج بالطبع.

حسام الذي يحب زوجته ويكرهها

هذا الموسم الرمضاني 2024، الذي عُرض في إطاره مسلسل "صلة رحم"، تمظهر واضح للأزمة الاقتصادية الاستثنائية في مصر، وتقفيل لبعض الأشياء بتعجّل مرتبك. ثمة إصرار على أن تخرَج أغلب تلك المسلسلات في خمس عشرة حلقةً بشكل متعمد، تماماً مثلما كانت تخرج في ثلاثين حلقةً بشكل متعمد في السابق، دون النظر إلى أن من يحكم ذلك هي القصة ذاتها. وللمفارقة تلك المأساة العامة استغلها "صلة رحم"، ما سرّع إيقاع استقباله وزاد من وطأته، فبدا وكأنه يريد أن يتناول أشياءً كثيرةً ومُحكمةً في أقصر وقت ممكن.

ممثلان في مسلسل "صلة رحم"

تُقدّم الحلقة الأولى من المسلسل معرفةً جيدةً بالشخصيات/الأبطال منذ اللحظة الأولى؛ تبدأ الحلقة بمشاهد يعلو فيها صوت الإسعاف والمستشفى بينما تنتقل الكاميرا تدريجياً إلى حسام (إياد نصار)، الذي يبدو في عالم آخر موازٍ يسمع فيروز في سيارته، ولا يهمه غير ذلك. تنتقل بعد ذلك إلى ليلى (يسرا اللوزي)، التي تجلس لتسمع أكثر مما تتكلم، وتبدي عناداً تجاه الحصول على إجازة من أجل جنينها. والدها لا يستطيع أخذ قرار، والأخ غاضب دون سياق، وكل شيء يمكن التعرف عليه نسبياً من أول لحظة.

التقديم الجيد درامياً يجعلنا كمشاهدين متشككين في حكمه على الأبطال. تتمكن ليلى من الحمل بعد محاولات وعمليات طويلة خاضتها مع زوجها لسنوات، كما نفهم على لسان الأم سلوى محمد علي، وفي لحظة مزعجة تتعرض الزوجة لنزيف وتفقد الجنين وتضطر إلى الخضوع لعملية استئصال الرحم، في موقف بدا فيه حسام متهماً نوعاً ما، ما يجعله يبحث عن أي طريقة للإنجاب منها دون غيرها حتى بعد استئصال رحمها.

مسلسل "صلة رحم"، تقصٍّ صحافي استفادت منه الدراما أكثر مما خدمته، إنساني بشكل متعمد وانسيابي، استطاع أن يأخذ يلفت الأنظار في موسم رمضاني متواضع عموماً، ويحقق معادلةً يصعب تحقيقها في كل مرة، حتى لدى من حققها سابقاً

يقرر حسام اللجوء إلى استئجار رحم، ويطلب من زميله الطبيب خالد (محمد جمعة) الذي ينفذ عمليات إجهاض بشكل غير قانوني، أن يساعده في الأمر من خلال إجراء الحقن المجهري باستخدام بويضات جمّدها دون علم زوجته. القصة الموزاية وربما القدر يجمعان حسام مع حنان (أسماء أبو اليزيد)، التي توافق على تأجير رحمها مقابل مبلغ مالي.

حسام ابن أُسرة مفككة، لديه نفسية تتحسس مسؤولية الأم التي ربّته على الشعور الدائم بأنها ضيّعت حياتها من أجله. وحسام فقد ابنه الأول من زوجته السابقة، وربما بسبب كل ذلك بدت معضلته الأولى هي وجوده في أسرة مستقرة. فطبيب التخدير لا يترك مجاله الوظيفي سوى للتفكير في الألم الذي يمكنه التحايل عليه وقتياً.

ممثلة مسلسل "صلة رحم"

بدت مناقشة المسلسل من خلال الخطاب الذي قدّمه، أقوى كثيراً من مناقشته البصرية، بشكل يبدو خارج إرادة المخرج ذاته في عمل صُوّر في لبنان، البلد الذي كان بعيداً، مكانياً ومجازياً. فأمر حزين ألّا تتقاطع قصة رقيقة، تمرّ سريعاً على المجتمع كله، مع المدينة التي تدور فيها بصرياً.

"صلة رحم" هو تقصٍّ صحافي استفادت منه الدراما أكثر مما خدمته، إنساني بشكل متعمد وانسيابي، استطاع أن يلفت الأنظار في موسم رمضاني متواضع عموماً، ويحقق معادلةً يصعب تحقيقها في كل مرة، حتى لدى من حققها سابقاً: قضية شائكة تشغل الأدمغة، فيها حُكم مسبق مسيطر على التفكير فيها، وبشكل مفاجئ وغير متعمد يأتي من يطرحها في إطارات مختلفة تعيد إنتاج الأسئلة التي كان مجرد طرحها مستهجناً، وينجح في ذلك تماماً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image