شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
غزة... تقاسُم الخسارة بين جميع الأطراف

غزة... تقاسُم الخسارة بين جميع الأطراف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمشرّدون

الخميس 29 فبراير 202401:53 م

القنوات الإخبارية على اختلاف مسمياتها، وتمويلاتها وأجنداتها؛ تلك التي تندرج تحت مسمى الإعلام الصديق، أو تلك التي تعلن عداءها العلني لنا ولقضيتنا، والإعلام المغرض والإعلام المضلل، والإعلام الفاشل الذي لا يتابعه سوى موظفي القناة وأقربائهم وبعض أصدقائهم، والإعلام الذي اتخذ من الفلسطينيين، ومآسيهم، وقتلهم اليومي مورداً لزيادة تصدّره، ومراكمة أمواله بالإعلانات والمشاهدات، كل هذا الإعلام وكل هذه القنوات بدأت بالانسحاب من اللغة التي رافقت بداية الحرب، اللغة التي كانت تروّج للانتصار وتبث المعنويات العالية، إلى لغة تركّز على الجانب الإنساني ومعاناة الناس.

صار لكل محطة برنامج يتم بثه تحت عنوان "صوت الناس"، أو "أصوات من غزة"، أو "الفقرة الإنسانية"، أو أي تفتيقة من هذا القبيل مهمتها الظاهرية هي الإيحاء للناس بأن هذا الإعلام معهم، ويساند جوعهم وتشريدهم، بل يرفضه.
لكن بقليل من التدقيق في هذه اللغة الإعلامية، ووضعها في سلة واحدة مع ما يرافقها من لغة سياسية، فإن أي مراقب يستطيع تجميع طرفَي الخيط، والوصول إلى استنتاج مفاده أن ثمة تمهيداً للّوم قادماً لطرف ما لتحميله مسؤولية الخسارة.
في السياق نفسه، وبالتماهي التام مع القنوات الإعلامية هذه، فإن الكثير من الكتّاب المعتبَرين، وغير المعتبَرين، بدأوا بتخفيض سقف توقعاتهم الذي عوّدونا عليه منذ بداية الحرب، والذي كان بعضه يبشّرنا بتحرير قريب، ثم انتقل تدريجياً إلى الحديث عن تغييرات جوهرية تُحدثها الحرب في البنية السياسية والاجتماعية لإسرائيل، وأن ذلك سيمتد ويتعمق ليغيّر صورة هذا العدو كدولة ذات قيم عالمية أو أوروبية على أقل تقدير، إلى دولة فاشلة ومنبوذة. والدولة الفاشلة المنبوذة ستكون بالضرورة عبئاً على العالم والأسرة الدولية، ومن الطبيعي ساعتها أن يفرض عليها ما يراه مناسباً من حق تاريخي لشعب تحت الاحتلال، كإقامة دولته والتحكم بمصيره ومستقبله.

صار لكل محطة برنامج يتم بثه تحت عنوان "صوت الناس"، أو "أصوات من غزة"، أو "الفقرة الإنسانية"، أو أي تفتيقة من هذا القبيل مهمتها الظاهرية هي الإيحاء للناس بأن هذا الإعلام معهم، ويساند جوعهم وتشريدهم، بل يرفضه. لكن بقليل من التدقيق في هذه اللغة الإعلامية يتبيّن أن ثمة تمهيداً للّوم قادماً لطرف ما لتحميله مسؤولية الخسارة
  في الأيام الأخيرة، انتقل هؤلاء الكتّاب إلى تحليلات تعترف بالكارثة الإنسانية التي حلّت بقطاع غزة، ولكن دون أن يتخلوا عن توقعاتهم السابقة، والتي لا يمكن معارضة أهميتها على كل حال. لكن اللافت هو وضعها جانباً في مقابل التركيز على الجانب الإنساني في هذه الحرب التي طالت أكثر مما يجب، أو على الأقل، أكثر مما كانوا يتوقعون في كتاباتهم السابقة.
الأغاني تغيرت هي أيضاً منذ بداية الحرب وحتى لحظة الكارثة هذه. ففي حين أُنتجت عشرات الأغاني التي تتحدث عن تمريغ وجه العدو في الوحل، تراجع الحس الموسيقي لدى الفنانين المرتجلين إلى أغانٍ من قبيل:

"صامد لا مأوى ولا بيت

صامد لكن ما تخليت".

أو حتى إلى نشيد لم يمثّلنا يوماً ولم نتخيل أن نصل إلى مرحلة نكتبه فيها ونلحنه ونجد من يغنّيه، ببساطة لأن الحالة التي يعالجها لا تنسجم مع الفن، وليس من المنطقي أن يتم التعبير عنها موسيقياً، دون أن تهتز لدى المستمع كل القيم التي تعوّد عليها. وهذا نموذج من الأغاني التي يتم بثها وترويجها مؤخراً:

"هل عندك خبز يا أمي

هل عندك ما يسند جسمي؟".
فهل حقاً وصل شعبنا الفلسطيني في غزة إلى هذا المآل، وهل يرضيه أن نتفرج عليه بهذا الشكل المغرق في السلبية، ونؤلف له الأغاني ونبثها باسمه واسم أطفاله؟ هل هذا ما كان يأمله من مثقفيه وفنانيه وقنواته الإعلامية؟
الموضوع يتجاوز هذه السلبية، وأظنه مدروساً بعناية، ويؤدي إلى النتيجة نفسها في نهاية المطاف. بالطبع ليس من يؤلف الأغنية أو من يعدّ التقرير الصحافي على دراية بما يفعل ومن يخدم، أو كيف يتم استخدامه، بل هناك من يوجه هذا المسار، وأقصد التراجع المتدرج من خطاب الحرب إلى خطاب لا يؤشر صراحةً إلى الخسارة أو إلى هزيمة محتملة، بل يهيئ المتلقّي لها رويداً رويداً في تفاصيل على الهامش. وعندما تحين اللحظة سيضعها كاملةً في وجوهنا بالطريقة التي تخدم أهدافه.
لنتمهل قليلاً قبل الخروج باستنتاجات قاطعة، ونحاول النظر إلى ما يجري في الغرف المغلقة حالياً:
منذ فترة طويلة نسبياً يتم الحديث عن هدنة في قطاع غزة، ولا أحد حتى اللحظة يمكنه الجزم بالأسباب الحقيقية لتأخر الإعلان عنها. فمن ناحية تتزمت حكومة الحرب في إسرائيل وترفض أي مطالبات لـ"المقاومة"، وتعدّها غير واقعية بل مغالية. ومن ناحية أخرى تتقدم "المقاومة" بطلبات وشروط لا تبدو تعجيزيةً لأي طرف يريد فعلاً إيقاف نزيف الدم واستعادة رهائنه. ولو افترضنا أن نتنياهو، كما يقال، لا يريد إنهاء الحرب خوفاً على مستقبله السياسي بعدها، فما الذي يمنعه من تحقيق إنجاز مهم كاستعادة رهائنه مهما كان الثمن؟ ألا يبدو تحقيق هذا الهدف نصراً له أمام ناخبيه وجمهوره من اليمين المتطرف، وأمام أهالي الرهائن والمجتمع الإسرائيلي عموماً؟ وما هي النقطة التي ستنقذه من السجن إذا ما وصل إليها في هذه الحرب؟ إذ ليس من المعقول أن هذه الحكومة المتطرفة، بكل مكوناتها، تجاريه في مغامرته لأسبابه الشخصية، وليس من المعقول أيضاً أن يفكر هو في حرب ليست لها نهاية.

المنطقة مقبلة على تبرئة ساحة العدو والضحية على حد سواء من النتائج الكارثية لهذه الحرب. كيف ذلك؟
  المنطق الوحيد المقبول، ويبقى هذا افتراضاً ستكشف الأيام القادمة صحته أو لامعقوليته، هو أن هذه العصابة تريد استخدام كل ما يمكنها من ضغط عسكري وسياسي، إلى ما قبل شهر رمضان بيوم أو يومين. فشهر رمضان ملائم للهدنة لأسباب عدة، من أهمها التفرغ للضفة الغربية والقدس، وإعطاء العالم الإسلامي متنفساً يريحه من ثقل التضامن وينقله إلى حالة نفسية منسجمة مع ما يجري. وقبل كل ذلك يعطي الوسطاء الجدد دفعةً معنويةً وشرعيةً معززةً بالجانب الإنساني المستقى من الدين، وليس من غيره.
بوضع هذا الافتراض جنباً إلى جنب مع الإعلام المنسحب من البطولة إلى الإنسانيات، وبث الأغاني وتنميق المقالات، يمكننا القول إن المنطقة مقبلة على تبرئة ساحة العدو والضحية على حد سواء من النتائج الكارثية لهذه الحرب. كيف ذلك؟
للنصر العسكري أو السياسي، كما هو معروف، معايير تقاس بالأرقام وليس بالإنشاء. وعندما يبدأ طرف ما، أو أحد طرفي القتال، بتجنب الحديث عن هذه الأرقام والاستعاضة عنها بلغة أو مشاهد تركز على كيس الطحين والطناجر الفارغة، فإن النية هي إلقاء اللوم على الآخرين الذين لم يقوموا بواجبهم. والذين لم يقوموا بواجبهم في التخفيف عن الجائع هم أنفسهم بالضرورة الذين ساهموا في إيصاله إلى هذه الحال. وهنا سيتم توزيع الخسارة على الجميع بالتساوي، وربما يضيع الحق بين القبائل كما تقول الحكمة التاريخية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard