ما الذي يدفع فتيات صغيرات للهروب من حضن الأم إلى ملاذ آخر، ولو كان داعشياً؟ سؤال حاولت المخرجة المنتجة التونسية كوثر بن هنية، الإجابة عنه في أحدث أفلامها "بنات أُلفة"، الذي ينافس على السعفة الذهبية لمهرجان مهرجان كان السينمائي السادس والسبعين (16ـ27 أيار/مايو 2023).
بهذا الفيلم تعود المخرجة إلى المهرجان العريق بعد ستة أعوام من مشاركتها الأخيرة بفيلم "على كف عفريت" الذي افتتح قسم "نظرة ما" عام 2007، كما تعود أيضاً بالسينما التونسية إلى المسابقة الرسمية بعد ثلاثة وخمسين عاما من الغياب بعد فيلم "حكاية بسيطة كهذه"، أول فيلم روائي طويل لعبد اللطيف بن عمار.
في "بنات ألفة"، الذي عُرض في المهرجان بعنوان "أربع بنات" (Four Daughters)، مزجت بن هنية بين الوثائقي والروائي، وهو أسلوب أثبت براعتها في أفلامها السابقة باستثناء فيلمَي "على كف عفريت"، و"الرجل الذي باع ظهره" الذي عرف طريقه إلى الأوسكار وبلغ القائمة النهائية في فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية عام 2021.
تقول المخرجة التونسية إنها سمعت "أُلفة الحمروني"، تروي حكاية ابنتيها، وكيف هربتا للانضمام إلى داعش، وتابعت توسلاتها في الإذاعة لإنقاذ ابنتيها واستعادتهما من ليبيا حيث تم سجنهما بعدما شاركتا مع زوجيهما في هجوم بن قردان الإرهابي عام 2016: "شعرت بأن هناك قصةً مركبةً ومعقدةً وراء توسلات الأم، وحصلت على هاتفها من الصحافي الذي أجرى معها المقابلة، وبدأت رحلة البحث داخل حكاية ألفة". وكان هذا الفيلم من إنتاج نديم شيخروحة، بمشاركة ودعم من صندوق البحر الأحمر وراديو وتلفزيون العرب.
من البداية تبدو "ألفة" قويةً وعنيفةً، لديها ميراث من القهر والوجع، تتجاوزه بقوة وتخضع له أيضاً بالقوة نفسها. تناقضات هائلة ومثيرة ترصدها كوثر بن هنية، في أم تونسية هي ككثيرات من الأمهات
أُلفة الحمروني أم تونسية لأربع فتيات، عُرفت إعلامياً عام 2016، بعد ظهورها المكثف في وسائل الإعلام المختلفة. كانت تستنجد بالدولة التونسية لإنقاذ بناتها الأربع. هربت البنتان الكبيرتان البكريتان "رحمة" (17 سنةً) و"غفران" (16 سنةً)، وتزوجتا من داعشيَين وتم أسرهما في ليبيا. أما الصغيرتان "آية" و"تيسير" (11 و13 عاماً)، فلا تزالان معها، لكنها تخشى أن تتأثرا بأختيهما.
أم فقيرة لا تملك مالاً يكفل لهما علاجاً نفسياً وتعليماً، وتستنجد بالدولة أن تساعدها قبل أن تخسر بناتها. هكذا أصبحت "ألفة" حديث مواقع التواصل الإعلامي بقصتها المفجعة. مأساة تكررت كثيراً في تونس في الآونة الأخيرة. وفقاً لوزارة المرأة التونسية آنذاك، شهد عام 2016 انضمام أكثر من 700 فتاة وامرأة تونسية إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والشهير إعلامياً باسم "داعش". بعض هؤلاء توقف في المحطة الليبية، بل إن ألفة الحمروني اتهمت المسؤولين في وزارتي الداخلية والخارجية التونسيتين بالتواطؤ على هروب شباب تونسي إلى معسكرات الدواعش في ليبيا، وقالت آنذاك في حديث لقناة "الحوار" التونسية، إن المسؤولين لم يتحركوا عندما أبلغتهم نيّة ابنتها "رحمة" السفر إلى ليبيا، وإن وزارة الداخلية تماطل وترفض تسلم الإرهابيين التوانسة من طرابلس؛ لأن عودتهم ستفضح تورط مسؤولين كبار في هذه القضية.
قاعة "غراند لوميير" في قصر المهرجان شهدت العرض العالمي الأول للفيلم، بحضور مخرجة الفيلم والممثلة هند صبري التي أدت دور "ألفة"، وفي حضور كل من ألفة الحمروني وابنتيها "آية" و"تيسير"، والممثلتين نور القروي وإشراق مطر اللتين لعبتا دورَي "رحمة" و"غفران". وفي المؤتمر الصحافي بعد العرض، قالت الحمروني إنها بعد هذا الفيلم تنتظر وصول صوتها إلى العالم كله، لتتم محاكمة ابنتيها محاكمةً عادلةً في تونس، وإنقاذ حفيدتها من الحياة في السجن. كما تأمل حماية الحفيدة البريئة.
هذا الفيلم، كما الحياة، يحتاج إلى إعادة مونتاچ للجذور ذات المنبت الشيطاني التي لا تحاصر الأم التونسية العنيدة وحدها، لكنها تحاصرنا جميعاً.
وأبدت سعادتها بقيام هند صبري بتجسيد شخصيتها، وأنها كانت تخشى ألا يقدّم الفيلم الحقيقة بوضوح، لذلك كانت تقضي مع بطلة الفيلم ومخرجته وقتاً طويلاً. وبعد العرض أكدت إعجابها بصدق الفيلم الذي يبدأ بمشهد يجمع "ألفة" الحقيقية، وابنتيها آية وتيسير مع هند صبري، وهي تنصت إليهن، خاصةً لما تقوله "ألفة"، وتحاول تقليدها بدقة وبالروح نفسها. وتبدأ الحمروني حكايتها منذ زواجها من أبي البنات، وتعترف بأنها لكمته لينزف من أنفه، ومسحت الدم بملاءة السرير، ليلوّح بها الزوج للجمع المنتظر في الخارج؛ ليحسبوا الدماء تلك دماء بكارتها فيهللوا فرحاً وفخراً بشرفها!
طقوس "ليلة الدخلة" المهينة، عادة في المجتمعات العربية في المناطق الأقل وعياً وثقافةً، وقد بدأت بالانحسار في الآونة الأخيرة. وكان أهل العروسين ينتظرون أسفل البيت أو على باب غرفة النوم أحياناً، ليتأكد لهم "شرف" العروس، إن نزفت بعد فضّ غشاء بكارتها. سلوك "الفضّ" مهين، وقاسٍ يقوم به الزوج بيده، وأحياناً الأم أو إحدى النساء في حضور الزوج. وكلما امتلأت قطعة القماش البيضاء بالدم ازداد تهليل رجال العائلة القلقين، وقد يعبّرون عن فخرهم بشرف الابنة المسكينة بطلقات نارية في الهواء، وإذا لم يروا الدماء، ربما اتجهت الطلقات إلى صدر العروس المسكينة.
من البداية تبدو "ألفة" قويةً، وعنيفةً، لديها ميراث من القهر والوجع، تتجاوزه بقوة وتخضع له أيضاً بالقوة نفسها. تناقضات هائلة ومثيرة ترصدها كوثر بن هنية، في أم تونسية هي ككثيرات من الأمهات، تعنّف بناتها، وتضربهن بقسوة، وتعاقبهن على أتفه الأمور، وتحاصرهن ولا تترك مجالاً لحرية أو لحق في التجربة. تعترف "ألفة" بأنها كانت عنيفةً مع بناتها الأربع، وأنه الأسلوب الوحيد الذي تعرفه لتربية البنات. وهكذا عبر الأجيال، يُورث القهر واحتقار الذات والخضوع لمجتمع ذكوري برعاية النساء.
في أحد المشاهد، تعترف بأنها كانت تتمنى أن تنجب ذكوراً، فهي لا تحب الإناث. تكره البنات وأجسادهن، ولطالما اتهمت بناتها بأنهن يتصرفن كعاهرات. تشكو "ألفة" قسوة والدها وعنفه الشديد معها، لكنها تحب الرجال. تزوجت مرتين وخابت. ربما تداري خيباتها في تعنيفها للبنات؛ تقسو عليهن قسوة الحياة عليها، وبدلاً من أن تحتويهن بحنان، تعيد إنتاج القهر، والضحايا هذه المرة بناتها. في المقابل، تحكي ابنتاها "آية" و"تيسير" عما سببته الأم من أضرار نفسية لهما، بعنفها الشديد غير المبرر. وتعترف "آية" بأنها في إحدى المرات تمنّت لو تخنق أمها. لكن الأم تقول إن القطة تأكل صغارها، عندما تشعر بالخطر عليهم. تسوّغ أخطاءها بهذا المثل، والأغرب تأكيدها على أنها لا تندم على أسلوب تربيتها للبنات. كانت تريد لهم حياةً أفضل.
ثمة علاقة غريبة كشفت عن تشوهات نفسية للأسرة كلها. "ألفة" فاجأت الممثلة إشراق مطر بسؤال، ربما لم يكن مكتوباً في السيناريو الذي تحول إلى جلسة علاجية: هل يسعدك أن تكوني أمّاً؟ وكانت تعبيرات وجهها كافيةً للاستنكار الذي يصل إلى حد الرفض!
الفيلم الأردني "إن شاء الله ولد"، المشارك في مسابقة أسبوع النقاد في المهرجان، ناقش قضية غريزة الأمومة المزعومة. طرحها في عجالة، وإحدى بطلات الفيلم ترفض فكرة الأمومة. يقول مخرج الفيلم أمجد الرشيد، إن الزمن تبدل، وإن كثيرات من الفتيات لا يرغبن في الإنجاب. أصبحت لبنات اليوم طموحات وأحلام ورغبات أخرى يُردن تحقيقها، ليس الأطفال من ضمنها.
وكما كان الرجال كلهم في الفيلم الأردني غير أسوياء، فالحال نفسه هنا في الفيلم التونسي، بدايةً من أبي "ألفة" العنيف بلا دور، إلى زوجها الأول أبي البنات، إلى الزوج الثاني الذي أحبته وغدر بها، إلى رجل شرطة لا يهتم باستغاثتها ويترك ابنتيها لتهربا إلى أحضان الدواعش. كل الرجال مشوهون، كلهم واحد. ولذلك أدى جميع أدوار الرجال الممثل التونسي مجد مستورة!
تضم حكايات "ألفة" وبناتها تناقضات بشريةً كثيرةً أدهشت النجمة هند صبري، فكانت تقلّدها أحياناً، وفي أحيان أخرى تنظر إليها بدهشة، تتأملها بعفوية صادقة، وتتأمل البنات اللواتي اندمجن مع الحكايات وتوحّدن معها
تضم حكايات "ألفة" وبناتها تناقضات بشريةً كثيرةً أدهشت النجمة هند صبري، فكانت تقلّدها أحياناً، وفي أحيان أخرى تنظر إليها بدهشة، تتأملها بعفوية صادقة، وتتأمل البنات اللواتي اندمجن مع الحكايات وتوحّدن معها، وتحولاتهن من الشيء إلى نقيضه. وما بين ضحكاتهن الجميلة واعترافاتهن الموجعة، ودموعهن الصادقة، خاصةً حين يأتي ذكر أختيهما الغائبتين، كان السرد طويلاً. ربما كان التمهيد المقصود من المخرجة ضرورياً وأساسياً، للغوص في بحر "ألفة" العميق، وكشف جذورها. لكن التمادي في الثرثرة أضاع الهدف والمعنى، وأدى إلى تسرب المشاهدين من القاعة بعد شعورهم بملل من الإسهاب في السرد، وربما فاتهم الجزء المهم، ولم يصلوا معنا إلى نهاية طريق سلكته الأم مختارةً أو مجبرةً، فالنتيجة واحدة وهي ضياع البنات، واستسلامهن لفكر مسموم، هرباً من حياة بائسة بقسوة الأم وعنفها، أو كما تقول "ألفة": لقد أكلهم الذئب!
لكن لدى كوثر بن هنية تفسيراً أو تسويغاً للسرد الطويل جداً. تقول: "الفيلم كان بمثابة مختبر علاجي، أردت كشف طريقة انتقال العنف من الأم إلى الابنة، والذي لا يقتصر على المجتمع التونسي فقط".
هذا الفيلم، كما الحياة، يحتاج إلى إعادة مونتاج للجذور ذات المنبت الشيطاني التي لا تحاصر الأم التونسية العنيدة وحدها، لكنها تحاصرنا جميعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه