شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قلبي يعتصر كل عام في موسم الورود والتوت... لماذا أكره عيد الأم؟

قلبي يعتصر كل عام في موسم الورود والتوت... لماذا أكره عيد الأم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 21 مارس 202411:50 ص

"علشانك النهاردة الدنيا كارت معايدة، ملا الربيع أركانها بمليون ألف وردة، والكون بقى جوه بيتك، وأنا قبل الكل جيتك، ياللي انتبهت لقيتك، أنا وأنت حاجة واحدة".

 هكذا كنت أستمع لكلمات صلاح جاهين، وصوت السندريلا الممتلئ بالبهجة، في الراديو ببرنامج "إلى ربات البيوت"، في صباح يوم عيد الأم 21 آذار/مارس، والجو مشمس وربيعي، وأمي تعد لي الفطور قبل ذهابي إلى المدرسة، البيض وكوب الحليب اللذان نتشاجر على تناولهما يومياً، ولكن هذا الصباح يجب أن يمرّ بسلام، فاليوم حفل عيد الأم، وأنا في الصف الثاني الابتدائي، وعليّ أن أكون مطيعة لكل طلبات أمي الحبيبة حتى تقوم بتصفيف شعري كما أرغب، لأصبح متألقة في الحفل كما يجدر بي.

 أتذكر الفستان والحذاء الأبيض وطوق الورد الذي اشترته لي لأضعه في شعري، أحضرتهم أمي كي أرتديهم في حفل عيد الأم بالمدرسة.

في صباح هذا اليوم، كانت الطفلة، التي ما زالت تعيش في داخلي حتى الآن، تغمرها السعادة بالفستان والحذاء الجديدين، اللذين سترقص بهما في حفل عيد الأم، ولكن الأمر لم يعد كذلك ولم يمر اليوم مروراً عابراً في ذلك الوقت.

الذي قرّر الاحتفال بهذا اليوم، كأنه فكّر: لماذا لا نتفق على يوم من أيام السنة نطلق عليه "عيد الألم"، ونجعله غصّة قومية في حلوق الأيتام؟ كأنه فكّر: لا يزال هناك البعض ممن لا يتألمون كفاية في هذا العالم، لماذا لا نحدّد لهم يوماً للألم الإضافي؟

دموع صديقتي أميرة

بعد انتهاء الحفل والجميع يضحكون ويلعبون في فناء المدرسة، استوقفتني دموع صديقتي أميرة التي كانت تبكي بحرقة لوفاة والدتها. ما زلت أتذكر وجهها الباكي البرئ الصغير وشعرها الأسود القصير، وعينيها الممتلئتين بالدموع، وبالرغم من أني لم أقابل أميرة منذ حوالي 30 عاماً، لكني ما زلت أتذكر المشهد وكأنه حدث بالأمس؛ في ذلك الوقت تلاشت فرحتي بفستاني وحذائي وتصفيفة شعري، وغرست في قلبي غصّة لم تنته بعد.

عدت إلى المنزل وأنا أحمل في قلبي كل المشاعر المؤلمة تجاه هذا اليوم. لم أعد أشترك في الحفلات المدرسية لعيد الأم مرة أخرى، وكنت أشعر بالخوف والألم عندما أنظر لأمي في يوم عيد الأم. كنت أتخيل أن يأتي عيد الأم في يوم ما من دونها. كنت دائماً ما أتخيل نفسي في موقف أميرة صديقتي التي فقدت والدتها: كيف ستكون مشاعري حينها؟ كيف سأتقبل أن يمرّ الوقت بدونها؟

ليس هذا فحسب، فكان البكاء والوجع يعتصران قلبي عندما أستمع لأغنية "ست الحبايب" بصوت الراحل محمد عبد الوهاب، وكنت أنظر لأمي تبكي على وفاة والدتها، فأتخيل نفسي مكانها، وأبكي فقدانها قبل أن يحصل.

الأبنة العاقة التي تكره عيد الأم

دائماً ما كان يدور سؤال في مخيلتي، وما زلت أبحث عن إجابة له: لماذا نحتفل بيوم يؤلمنا ويذكرننا بأننا فقدنا أقرب الناس؟ لماذا نحتفل بموت من عجزنا عن حمايته والاحتفاظ به قربنا؟ والأمر لا يتوقف على من فقدوا أمهاتهم، فهناك من فقدوا أبناءهم أيضاً، وهناك من لم يشأ القدر أن ينجبوا أبناء، لماذا هناك يوم نبكي ونتألم فيه؟ أي مازوشية هذه تجعلنا نحتفل بفقدنا وخسراننا؟

الذي قرّر الاحتفال بهذا اليوم، كأنه فكّر: لماذا لا نتفق على يوم من أيام السنة نطلق عليه "عيد الألم"، ونجعله غصّة قومية في حلوق الأيتام؟ كأنه فكّر: لا يزال هناك البعض ممن لا يتألمون كفاية في هذا العالم، لماذا لا نحدد لهم يوماً للألم الإضافي؟

عندما كنت أتحدث لأمي بهذا الكلام، كانت تغضب مني وتهاجمني، وتحذرني من أن أخبر أحداً بوجهة نظري هذه، لأن الجميع سيعتبرني ابنة عاقة، تكره عيد الأم والأمومة، ولكني كنت أكره الحزن والفقد فقط، أكره الألم والخسران. كنت أشعر بالخوف و الألم من يوم يأتي فيه هذا العيد دون أمي. لا أحد كان يشعر بالصراع الداخلي الذي كان يمزّق قلبي. كان البعض يصفني بأني متمرّدة على المألوف دائماً، رغبة مني بالتميّز و"المخالفة"، ولكن الأمر ليس كذلك تماماً، كل ما في الأمر أنني كنت أضع نفسي موضع الآخرين، وأتخيل كيف سيكون شعوري لو فقدت من أحب؟

فاجأتني أمي في عيد الأم في 2022، عندما كانت تشاهد لقطات من برنامج  تليفزيوني عن الأم ودورها في حياة أبنائها، وكان هناك بعض اللقطات الحزينة المبكية كالعادة. قالت: "والله عيد الأم ده حاجة تحزن، عاملينه عشان يوجعوا قلوب الناس". نظرت إليها بكل تعجّب قائلة: "أخيراً فهمتيني".

موسم الورود والتوت

يبدو أن والدتي كانت قد شعرت بما سأشعر به في العام اللاحق، فقد رحلت بعد عيد الأم بثلاثة أشهر.

أتى أول عيد أم من دونها، و تذكرت دموع صديقتي أميرة، وتذكرت أمي وهى تضع طوق الورد على شعري، والفستان والحذاء الأبيض اللذين أحضرتهم لي لإحياء حفل عيد الأم بالمدرسة، وتذكرت أيضاً صوت سعاد حسني وهى تردّد أغنيتها قائلة: "تعبتي كتير عشان خاطري، عشان أمشي، عشان أجري، ومهما جريت بعيد خالص، أديني جيت قوام بدري...". تذكرت كل تلك المشاهد التي انطبعت بذاكرتي: جاء اليوم الذي كنت أخافه، وما هربت منه طوال عمري لحقني، وها أنا أزورها في قبرها كمن خفت أن أكونهن.

ويأتي عيد الأم الثاني هذا العام دون أمي، وستأتي أعياد في سنوات قادمة دونها أيضاً، وكالعام الماضي، أنفرد بنفسي وأغلق الشاشات والنوافذ. لا أقترب من مواقع التواصل الاجتماعي حتى لا أرى عبارات التهنئة بعيد الأم، ولا أستمع إلى الأغاني حتى يمضي هذا اليوم وكأنه أشهر، فمن بداية شهر آذار/مارس وأنا أحمل على عاتقي هذا اليوم، حتى الربيع أصبح غصّة في قلبي، موسم الورود والتوت أصبح يذكرني برحيل أمي، كأن هذا التفتّح في الطبيعة يذكرني بمدى انغلاق قلبي.

عندما كنت أذهب إليها لأبكي ممن خذلني وكسر قلبي، فتأخذني في حضنها وتخبرني "بأن الظالم لن تنصفه الدنيا"، فكانت مواساتها لي عيداً. عندما  كانت تتشاجر معي بسبب تأخري في العودة إلى المنزل، كان خوفها عيداً

العيد الحقيقي

لا يكفي الأم يوم لنختزل فيه مشاعرنا لها، فالعيد الحقيقي هو وجودها كل يوم، والبهجة الحقة هي رؤيتها دائماً. أتذكر كوب الشاي الذي كنت أعده لها مع شطيرة الجبن الرومي عندما تفتح عينيها كل صباح، صوتها وهى تناديني كان بمثابة عيد. عندما أستمع لصوت التلفاز في حجرتها وهى تشاهد برامج الطبخ والقنوات المخصّصة لعرض المسلسلات، كان ذلك يشعرني بالونس والأمان، فكان هذا أيضاً عيداً.

عندما كنت أذهب إليها لأبكي ممن خذلني وكسر قلبي، فتأخذني في حضنها وتخبرني "بأن الظالم لن تنصفه الدنيا"، فكانت مواساتها لي عيداً. عندما  كانت تتشاجر معي بسبب تأخري في العودة إلى المنزل، كان خوفها عيداً. عندما مرضت وأنا صغيرة، وأخبرها الأطباء بأن مرضي نهايته الفشل الكلوي والموت الحتمي، لم تيأس ولم تستسلم، ولم تتركني حتى تعافيت بمعجزة، وأعتقد أن إصرارها أن أتعافى كانت كلمة السر في الإيمان بالله، فأراد ألا يخذلها، لذلك كان بفضلها كما يقال "كُتب لي عمر جديد" على يديها، أليس هذا بعيد؟

كل التفاصيل وكل المواقف، وكل الأيام والأسابيع والأشهر في حياة الأم كفيلة أن تكون عيداً يتجدّد كل يوم، فلماذا لا أكره عيد الأم؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard