منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، برزت مخاوف من أن يتطور الصراع بين إسرائيل وحماس إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، قد تبدأ بمواجهة كبيرة بين إسرائيل وحزب الله، ثم تدخل على إثرها أطراف أخرى كأنصار الله الحوثية والميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا.
كانت التحليلات والتقديرات منذ بداية الحرب وحتى الأسابيع القليلة الماضية، تشير إلى أن حزب الله وإسرائيل لا يريدان الحرب، لكن التطورات ديناميكية للغاية. فماذا إذا قُمنا بإعادة النظر في الافتراضات وتحديث التوقعات وفقاً للدلائل الجديدة على الأرض؟ هل سنصل إلى النتيجة نفسها، أي أن الطرفين لا يريدان الحرب، أم أن شيئاً جديداً قد ظهر أو سيظهر في الأفق؟ في هذه المقالة، مقاربة لاحتمالات الحرب من عدمها.
توسيع الضربات
بداية التطورات الجديدة كانت مع "توسيع الهجمات" بين إسرائيل وحزب الله، حيث أصبحت أكثر جرأةً وصارت تحدث في عمق أراضي الطرف الآخر. فيوم 12 آذار/ مارس الجاري، ضرب الإسرائيليون سهل البقاع اللبناني، بعد أن أسقط حزب الله طائرةً إسرائيليةً من دون طيّار. قبل ذلك، أرسل حزب الله طائرات من دون طيار إلى الجليل الأدنى، وقصفت الطائرات الإسرائيلية مستودعات في صيدا تبيّن أنها مستودعات لمعدات كهربائية، على بعد أقل من 30 ميلاً من بيروت، فيما ردّ حزب الله بزيادة عدد الصواريخ التي أطلقها. لكن حتى الآن لم يهاجم لمسافة أبعد، في العمق الإسرائيلي، وهو ما يعطي انطباعاً بأن حزب الله لا يزال يتجنب التصعيد، بينما يبدو أن إسرائيل من جانبها تتخذ خطوات تصعيديةً تثبتها الأرقام.
"دائرة التصعيد بين إسرائيل وحزب الله تجري في إطار منطق معيّن: مواطنون في مقابل مواطنين، وعمق في مقابل عمق، بما معناه أن إسرائيل تضرب مدنيين، وحزب الله يردّ بضرب مدنيين"
بحسب تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، جاء في وثائق جديدة نشرها الجيش الإسرائيلي، أن إسرائيل هاجمت نحو 4،500 هدف تابع لحزب الله منذ بداية الحرب، ومن بين الأهداف التي تمت مهاجمتها في الأراضي اللبنانية وسوريا: مستودعات للأسلحة ومبانٍ عسكرية مخصصة لنشاط حزب الله الهجومي، ومقار للعمليات التي يتواجد فيها ناشطو الحزب.
وأشار التقرير إلى أنه "تم تدمير أكثر من 450 هدفاً للبنية التحتية لخطة هجوم قوة الرضوان (وحدة النخبة لدى حزب الله على الحدود الإسرائيلية)، وتدمير أكثر من 70 بنيةً تحتيةً لإطلاق الصواريخ الثقيلة؛ وأكثر من 150 نقطة مراقبة وتجمع على طول الحدود بأكملها. وفي الوقت نفسه، تعرض أكثر من 70 مقراً مأهولاً للهجوم، فيما أسفرت الهجمات عن مقتل 300 من عناصر الحزب، وإصابة 750 آخرين".
وعلى الرغم من التصعيد الواضح، إلا أن هناك رأياً في إسرائيل يقول إن التوازن لا يزال موجوداً، وهو الرأي الذي عبّرت عنه تقارير عبرية من ضمنها تقرير لموقع القناة 12 الإسرائيلية، أشار إلى أن "دائرة التصعيد بين إسرائيل وحزب الله تجري في إطار منطق معيّن: مواطنون في مقابل مواطنين، وعمق في مقابل عمق، بما معناه أن إسرائيل تضرب مدنيين، وحزب الله يردّ بضرب مدنيين".
ولأن غالبية البلدات الحدودية في الشمال خالية من السكان، فإن حزب الله يحاول الضرب في العمق أكثر. وفي مقابل العمق الذي يضرب فيه حزب الله، يردّ الجيش في نقاط حساسة جداً، كمدينة بعلبك، وهي منطقة لوجستية مهمة لحزب الله. ولأن الحزب يستعمل أيضاً طائرات مسيّرةً، فإن إسرائيل تضرب مخازن المسيّرات التي يعدّها التنظيم أهدافاً حساسةً جداً، بحسب زعم الرواية الإسرائيلية والتقارير التي تصدرها بعد الغارات التي تقوم بها، والتي تتناقض مع التقارير التي تصدر عن وسائل إعلام لبنانية، والتي يكون المدنيون في غالبيتها هم ضحاياها.
في المقابل، هناك من يرى مخاطر من التطورات الأخيرة، حيث رأت صحيفة "معاريف"، أن "سلسلة الضربات الأخيرة هي بمثابة تحذير من أن المناوشات اليومية عبر الحدود بين إسرائيل ولبنان يمكن أن تتصاعد بسرعة. وإذ يرى المحللون أن إسرائيل وحزب الله يرغبان في تجنب معركة شاملة، إلا أن الهجمات الأخيرة أدت إلى تصاعد الحرب الكلامية بين المسؤولين من الجانبين، حيث قال حسن فضل الله، النائب في البرلمان اللبناني عن حزب الله، إن إسرائيل ستدفع ثمن هذه الجرائم".
وتحدث رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي، عن "خطة بلاده للاستعداد للحرب على جبهتها الشمالية"، قائلاً: "هذه هي مهمتنا الأولى ولا أحد يختلف معنا، ونحن نركز الآن على الاستعداد للحرب في الشمال"، فيما صرّح أمين عام حزب الله حسن نصر الله، في 8 آذار/ مارس الجاري، قائلاً: "صحيح أن حزب الله لا يريد الحرب، ولكن ليس بأي ثمن، وهذا لا يعني أن نغضّ الطرف عن مستوى وعمق هجمات العدو".
من جانبه، رأى ستيفن أ. كوك، وهو كاتب عمود في مجلة فورين بوليسي، في مقاله المنشور في 29 شباط/ فبراير الماضي، أنه "من المحتمل أن تكون هناك حرب بين حزب الله وإسرائيل خلال الأشهر الستة إلى الثمانية المقبلة"، وأشارت سارة ماشا فاينبرج، خبيرة الدفاع البارزة في جامعة تل أبيب، إلى أن "احتمال نشوب حرب أصبح حقيقياً بشكل متزايد، وبعيداً عن غزة، قد تكون هناك حرب مع حزب الله الليلة، لكن من الصعب معرفة كيف ستتطور الأمور".
انهيار قيود منع الحرب
خلال الأشهر الأخيرة، كانت هناك قيود على كلّ من إسرائيل وحزب الله لكبح جماح أي حرب شاملة، وهي باختصار: الحسابات الإستراتيجية لقادة إيران، وسعي إدارة الرئيس الأمريكي بايدن لتجنب الصراع الإقليمي، ورغبة إسرائيل في تركيز قواتها في غزة.
لكن، وبنظرة جديدة/ محدثة إلى هذه القيود، قد نجد أنها أصبحت أقل تأثيراً. فالحسابات الإستراتيجية لإيران، التي تفيد بأنها لا تريد الذهاب إلى مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لا تزال صحيحةً وقائمةً، لكن إلى أي مدى قد تظل إيران متمسكةً بهذه الإستراتيجية؟
وبحسب ستيفن كوك، في مجلة فورين بوليسي، فإنه "ليس من الصعب أن نتخيل لحظةً يخفف فيها الإيرانيون القيود عن حزب الله، خاصةً إذا قامت إسرائيل باعتقال و/ أو قتل قيادة حماس أو الهجوم على رفح (وهو ما يُعدّ قريباً في هذه الأيام)".
أما حول قيود الولايات المتحدة على إسرائيل، فهي أيضاً محل شك، فإلى أي مدى تستطيع واشنطن التأثير على الإسرائيليين بشأن كيفية تعاملهم مع حدودهم الشمالية، خاصةً مع ظهور وضع جديد على الحدود الشمالية، حيث قامت الحكومة الإسرائيلية بإجلاء ما يُقدَّر بنحو 80 ألف إسرائيلي من بلدات الشمال؟ من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن هذا الجزء من بلادهم غير صالح للسكن، وأصبحت "السيادة الإسرائيلية" هناك الآن غير مؤكدة. وهذا ببساطة أمر غير مقبول بالنسبة للحكومة الإسرائيلية التي تحدّث وزراؤها وقادة جيشها، أكثر من مرة، عن وجوب أن يكون هناك رد فعل قوي.
وبحسب تحليل لميخا آفني، في صحيفة "إسرائيل اليوم"، فإن "شنّ حرب استباقية في الشمال، حتى لو اصطدمت بالانتقادات الخارجية، فستحظى في نهاية المطاف بتأييد الرئيس بايدن الذي يفهم جيداً ميزان القوى في المنطقة، وهو ملزم بمحاربة محور الشر الذي تقوده إيران".
خلال الأشهر الأخيرة، كانت هناك قيود على كلّ من إسرائيل وحزب الله لكبح جماح أي حرب شاملة، وهي باختصار: الحسابات الإستراتيجية لقادة إيران، وسعي إدارة الرئيس الأمريكي بايدن لتجنب الصراع الإقليمي، ورغبة إسرائيل في تركيز قواتها في غزة. لكن هذه القيود أصبحت أقل تأثيراً. كيف؟ وما الذي قد يترتب على ذلك؟
من ناحية أخرى، فإن "مسألة صعوبة الاتفاق الدبلوماسي بين حزب الله وإسرائيل من شأنه أن يسرّع المواجهة الكبيرة، حيث أعلن الحزب أنه يرفض الاقتراح الفرنسي (انسحاب مقاتليه 10 كيلومترات من الحدود)، طالما استمر القتال في قطاع غزة، كما تذكر صحيفة "معاريف" في تقرير لها.
وأعربت مصادر دبلوماسية غربية رفيعة، عن تشاؤمها بشأن نجاح المحادثات الدبلوماسية، "حيث يطالب الإسرائيليون حزب الله بالانسحاب إلى نهر الليطاني، الذي يبعد 18 ميلاً عن الحدود الإسرائيلية، وفقاً لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 (2006)، وهو الطلب الذي يرفضه حزب الله، من جانبه، ويريد من إسرائيل أن تخفّض حجم قواتها على الحدود، وهو أمر لن يفعله الإسرائيليون، خاصةً بعد الذي حصل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023".
مدى استعداد إسرائيل
استناداً إلى المتغيرات السابقة، ترى إسرائيل أنه نشأ "وضع لا يمكن السكوت عليه" في الشمال، خاصةً أن استمرار القصف الكثيف والإحساس الكبير بالإحباط لدى سكان شمال إسرائيل، يزيدان الضغط على الحكومة للقيام بعملية في لبنان، يعتقدون أنها تسمح لهم بالعودة إلى منازلهم، وهم الذين صرّحوا، أكثر من مرة، بأنهم لن يعودوا قبل عودة الأمن إلى المنطقة، عدا عن الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها إسرائيل جراء نزوحهم، بالإضافة إلى صورتها العسكرية والسياسية المهتزة كثيراً.
ويرى المحلل تامير هايمن، في مقاله في موقع القناة 12 العبرية، أنه "على الرغم من أن إسرائيل تنتصر على حزب الله على الصعيد التكتيكي، إلا أن المحور الشيعي، بقيادة إيران وحزب الله، لديه إنجازات غير قليلة، منها القدرة على تهجير أكثر من 80 ألف إسرائيلي، وخلق منطقة عازلة داخل إسرائيل، وهو ما يسيء إلى إسرائيل على الصعيد الإستراتيجي".
وبحسب المحلل العسكري الإسرائيلي عاموس هرئيل، في مقاله المنشور في صحيفة "هآرتس": "في الوقت الذي يعود فيه إلى عدد من بلدات غلاف غزة، جزء من سكانها إزاء انخفاض أخطار الصواريخ، فقد يقي في المنطقة الشمالية عشرات آلاف النازحين بعيدين عن بيوتهم. الحكومة تتعرض للضغط من الجمهور من أجل العمل على إزالة هذا التهديد، وقد ينتج عن ذلك في حكومة الجنون الحالية، ما طلبه وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير في تغريدة على 'X' من وزير الدفاع، أي شنّ حرب شاملة ضد حزب الله فوراً".
بعد 5 أشهر على الحرب في غزة، واستنفاد إسرائيل قواتها العسكرية في حرب طويلة، هل تستطيع بدء حرب أخرى طويلة في لبنان؟
هذا يرتبط بشكل واضح بتجديد إسرائيل لمخزون أسلحة معيّنة، حيث يحتاج الجيش الإسرائيلي إلى المزيد من الأسلحة الموجهة بدقة، والتي يعتقدون أنها ستكون حاسمةً في تحييد مواقع إطلاق صواريخ حزب الله وغيرها من المواقع الحساسة، والحقيقة أن الإسرائيليين لا يستطيعون الحصول على هذه الأسلحة دون حزمة المساعدات التكميلية التي يجرى الحديث عنها في واشنطن، مما يعني أن العملية العسكرية الكبرى يمكن حسمها بعد حزمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل، وهو ما اعترف به وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، مؤخراً. وفي شرحه للحاجة إلى المساعدة الأمنية الأمريكية، قال: هي مهمة للغاية، لأننا نقوم أيضاً بتخطيطنا. تذكروا أننا لا نتعامل مع جبهة واحدة فقط، نحن لا نتعامل مع حماس في الجنوب فحسب، بل نتعامل مع حزب الله في الشمال أيضاً".
إلى أين تتجه الأمور؟
هل تذهب إسرائيل إلى حرب مباشرة وشاملة مع حزب الله، أم تفضّل الحل السياسي؟
استناداً إلى الوضع السابق، والطريقة التي أصبحت تتعامل بها إسرائيل بعد هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، فإن الاحتمالات تتزايد حول شنّ إسرائيل حرباً على لبنان، حيث يمكن أن يتبلور شكل المواجهة من خلال احتمالين اثنين:
الأول، شنّ حرب شاملة، تشمل مناورةً في مناطق معيّنة من لبنان، مع الاستمرار في الحرب على غزة، والحديث هنا يدور حول وضع معقّد يحتاج إلى تزويد القوات في جبهتين، واحتمال ضرر كبير في الجبهة الداخلية بسبب قدرات حزب الله التي تتعدى قدرات "حماس" بعشرات الأضعاف، كما أن خطوةً كهذه تحتاج إلى الدعم الأمريكي وحزمة المساعدات سابقة الذكر.
محلل إسرائيلي: "على الرغم من أن إسرائيل تنتصر على حزب الله على الصعيد التكتيكي، إلا أن المحور الشيعي، بقيادة إيران وحزب الله، لديه إنجازات غير قليلة، منها القدرة على تهجير أكثر من 80 ألف إسرائيلي، وخلق منطقة عازلة داخل إسرائيل، وهو ما يسيء إلى إسرائيل على الصعيد الإستراتيجي"
الثاني، وهو الأقرب؛ القيام بمعركة محدودة تستغرق أياماً عدة، الهدف منها إبعاد حزب الله عن الحدود، وإرسال رسالة ضمنية إلى كل الأطراف (حزب الله وإيران)، بأن إسرائيل مستعدة للحرب المفتوحة، لكن هذا أيضاً سيكون خطيراً، إذ من الممكن أن تتطور المعركة المحدودة إلى مواجهة أكبر.
في المقابل، لا تزال هناك إمكانية لأن يتم التوصل إلى حل سياسي، يضمن إبعاد "قوة الرضوان" عن الحدود مع إسرائيل، إلى جانب تعزيز القوات الحدودية على الجدار، وهو الاحتمال الذي لا يزال بعيداً حتى اللحظة.
برغم تهديدات بنيامين نتنياهو، إلا أن المعروف عنه هو التردد في ما يخص الحروب، وعدم قدرته على اتخاذ قرارات تتعلق ببدء حرب، خاصةً قرار مواجهة حزب الله في الشمال. إلا أنه في حال قرر أن يشعل المنطقة، فإن "حرب لبنان الثالثة" ستكون، في اعتقاد القادة العسكريين الإسرائيليين، حرباً استباقيةً وسريعةً وفتاكةً. لكن في المقابل، قوّة حزب الله لا تقارَن بما تملكه حماس، والحديث عن الحسم السريع يبدو للاستهلاك الداخلي، أكثر منه قراءةً واقعيةً لأي معركة سيقدمون عليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...