للقاهرة التاريخية سحرها، فهي تخفي طبقات متراكمة خلف آثارها الباقية، أو التي تمحو تلك الأيام بدأب يدعي التطوير، بينما هو في الواقع يدمر ويشوه. يختار الباحث والحكاء الماهر حامد محمد حامد أن يكون أشبه بمقتفي الأثر، الأثر الذي ما زال شاهداً، لكنه يخفي حكايات عميقة عن البشر لا الحجر، كما في كتابه "خريدة القاهرة"، أو للأثر الذي زال وعن القاهرة التي لم يعد لها وجود، إلا من تلك الحكايات التي ما برحت تحكم حيواتنا، كما في كتابه التالي" أحاديث الجوى".
رؤية القاهرة عبر "عشرات النظارات"
يلبي الكتابان شرط أن تخوض رحلة ممتعة في دروب القاهرة التاريخية، إذ نحن أمام حكاء بارع، يجيد صيد اللآلئ من متاهات خطط المقريزي وتاريخ ابن إياس والجبرتي والرافعي وابن تغري البردي والعسقلاني وابن خلكان والصفدي، وغيرها من عشرات المراجع العربية والأجنبية، الذي يعد ما ذكرته منها فقط هو أشهرها، لكن حامد يلبي ما هو أكثر من ذلك فما يلي تلك المتعة هو التفكير، إذ نحن أمام مؤرخ حكاء، لا يقرأ أو يكتب عن التاريخ اعتباطاً.
يختار الباحث والحكّاء الماهر حامد محمد حامد أن يكتب عن القاهرة التي لم يعد لها وجود، إلا من تلك الحكايات التي ما برحت تحكم حيواتنا، وفي كتابه "خريدة القاهرة" - والخريدة تعني اللؤلؤة التي لم تثقب- يختار حامد نظارة المساجد والمدارس، ليحكي لنا شيئاً أكبر
يمكننا وفقاً لحامد أن نرى القاهرة عبر عشرات النظارات، إذ إن كل واحدة منها قادرة على أن تريك بعداً جديداً ومدهشاً لها، فالقاهرة يمكن أن تراها عبر المساجد والمدارس وكتب الفقه وتراجم آلاف العلماء والشيوخ، كما يمكن أن تراها عبر الخلفاء والسلاطين والأمراء والحكام وألاعيب السياسة، أو عبر العمائر الشاهقة والقصور الوارقة، أو عبر عشرات النظارات والمداخل الأخرى، لكنك "ستكون واهماً إذا اعتقدت أن نظارة واحدة فقط قادرة على أن تكون الممثل الحصري للقاهرة وأهلها"
على الرغم من ذلك، ففي كتابه "خريدة القاهرة" - والخريدة تعني اللؤلؤة التي لم تثقب- يختار حامد نظارة المساجد والمدارس، ليحكي لنا شيئاً أكبر.
المساجد... كشواهد على الظلم أيضاً
يقول حامد "ستخسر كثيراً إذا ما ظننت أن المساجد هي مجرد أماكن للعبادة، يبينها عباد الله الصالحون ابتغاء الأجر والمثوبة فحسب، لأن المساجد كلها ستغدو في عينيك نمطاً واحداً متكرراً إلى الأبد، بيوتا لله لا أكثر ولا أقل، ولن تلتفت كذلك، إلى خصوصية كل مسجد أو زاوية مهما صغرت وراءها سر يميزها من سواها".
قديماً لم تكن الجوامع كحالها اليوم، بل كانت مؤسسات ضخمة للتدريس ونشر العلم، وكان لكل جامع وقف ضخم يصرف من ريعه على صيانته ورواتب الشيوخ ومقيمي الشعائر والعمال وطلبة العلم فيه.
فالمسجد هو المكان الوحيد الذي يلخص طبيعة العلاقة بين منشئه وبين الله، وهو ما لا يعني هنا مسألة الإيمان والتقوى والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، بل مرتبط أيضاً بطريقة فهم الدين أصلاً.
يكشف حامد أن ما وراء بناء المساجد والزوايا والمدارس في القاهرة، حكايات أبعد من تقوى من أمروا بإنشائها، بل هي شاهد على حكايات عن الظلم واستباحة أموال الناس، عن البطش الذي لا يعرف الحدود، عن دماء أسيلت بسبب الطمع والتنافس الشرس على السلطة، ثم محاولة غسل هذا كله بإنشاء مسجد.
جامع سيدنا الفكهاني
ففي حكاية جامع سيدنا الفاكهاني، يُروى عن واحد من أمراء المماليك، ويدعى أحمد كتخدا الخربوطلي، أنه رأى في المنام أحد أولياء الله الصالحين، وكان يعمل فاكهانياً، أن يجدد جامع الظافر الذي قيل إنه هو من رممه، فقرر الخربوطلي بناء على الرؤية أن يهدم الجامع، ويبنيه من جديد بطريقة تليق بمقام الفاكهاني، لكن كانت هناك مشكلة بسيطة، فقد كسب الخربوطلي أمواله كلها من الحرام.
وهكذا دار الخربوطلي على الشيوخ يستفتيهم في تلك المعضلة، هل يجوز له ترميم الجامع بأموال كسبها من الحرام؟ فأفتوه أن ذلك لا يجوز، والحل أن يقترض أموالاً حلالاً ليبني بها بيت الله، وهو ما تم بالفعل، دون أن يخطر على بال أحد أن الخربوطلي في النهاية سيسدد قرضه "الحلال" من أمواله" الحرام"، وأن تجديد الجامع كان بالنسبة للخربوطلي والشيوخ اللذين أفتوه أهم من أكل الحرام، وظلم عباد الله.
اللص الذي بنى ثلاثة مساجد
تلك الثيمة هي الغالبة على الكتاب الممتع، كالحكاية التي يحمل عنوانها مغزاها "اللص الذي بنى ثلاثة مساجد"، وتلك المرة لم يكن أميراً أو سلطاناً مملوكياً، بل قاضياً، يدعى زين الدين يحيى بن عبد الرازق الاستادار، والذي يقع جامعه في تقاطع شارع الأزهر مع بورسعيد، والذي خلف عدداً كبيراً من المنشآت ومؤسسات البر، لم يتبق منها إلى اليوم سوى ثلاثة جوامع.
أن يبني شخص واحد في ذلك العصر أكثر من جامع هو بحسب مؤرخنا أمر يدعو للارتياب، فقديماً لم تكن الجوامع كحالها اليوم، مصلى في بدروم عمارة أو زاوية صغيرة، بل كانت مؤسسات ضخمة للتدريس ونشر العلم، وكان لكل جامع وقف ضخم يصرف من ريعه على صيانته ورواتب الشيوخ ومقيمي الشعائر والعمال وطلبة العلم الذين يدرسون فيه.
ففي حكاية جامع سيدنا الفاكهاني، رأى أمير مملوكي أحد أولياء الله الصالحين في المنام، يخبره أن يجدد جامع الظافر، استفتى الخربوطلي الشيوخ إن كان يجوز له ترميم الجامع بمال الحرام؟ فأفتوه أن ذلك لا يجوز، والحل أن يقترض أموالاً حلالاً، دون أن يخطر على بال أحد أنه سيسدد قرضه "الحلال" من أمواله" الحرام"
كان يحيى من الموظفين المخضرمين في مسح الجوخ للرؤساء، ودفع الرشوة لنيل الوظائف المرموقة، حتى أصبح في أيام السلطان الظاهر جقمق ناظراً لديوان السلطان، أي المسؤول عن إدارة ثروته، وهو منصب نادراً ما وصل مدني إليه.
اقترح يحيى على السلطان اقتراحاً يصفه مؤرخنا بالشيطاني، ومفاده أن يستولي على الرِزّق، وهي أراضٍ أوقفتها الدولة لتنفق من ريعها على أعمال الخير والبر، لينفق من هذا الريع على الموظفين السابقين الذين هرموا ولم يعودوا قادرين على العمل، وعلى أراملهم وأولادهم، أي أنها كانت أقرب لهيئة المعاشات والتأمينات الاجتماعية في زماننا، وبموافقة السلطان على قرار مصادرة تلك الأراضي، خربت بيوت المستفيدين منها، ومن تلك الأموال التي استولى عليها يحيى مع السلطان بنى القاضي زين الدين يحي مساجده الثلاث وسائر مؤسساته الخيرية.
خلف عدد آخر من الجوامع والمدراس، حكايات أكثر عنفاً، تُروى عن السلاطين والشيوخ والمصريين أنفسهم، يستعيد حامد الحكايات الصغيرة من فم الحكاية الكبيرة التي ابتلعتها، لينسج ببراعة مشهداً آخر لقراءة التاريخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين