رغم أن المؤرخ الكبير صلاح عيسى، كتب دراسته عن عبد الرحمن الجبرتي في السبعينات، فإنها نشرت للمرة الأولى مطلع العام عن دار الكرمة، وهي خامس عمل ينشر له بعد وفاته، ضمن مشروع هام بالتعاون بين زوجته أمينة النقاش ودار الكرمة، لنشر أعماله التي لم تنشر من قبل.
شخصية الجبرتي، صاحب "عجائب الآثار" الذي يعد المؤرخ الأبرز والمعاصر للحملة الفرنسية وحُكم محمد علي، الذي قُدم دائماً إما بمظهر المؤرخ الوطني المتعاطف مع ثورة الشعب المصري، أو بوصفه مجرد مخبر صحافي معاصر لما عايشه، لكنه بلا منهجية تاريخية، وهو ما يدحضه صلاح عيسى، لكن الأهم أنه لا يكتفي بهذا الدحض، بل يحلل من خلال الجبرتي، موقف النخبة المصرية البرجوازية المثقفة والتشوهات التي تبني عليها مقولاتها حتى الآن، بل وكذلك النخبة البرجوازية العربية أيضاً.
يجد صلاح عيسى في الجبرتي مؤشراً بالغ الدلالة على الأزمة البنيوية للبرجوازية العربية عموماً والمصرية خصوصاً، إذ هي محافظة ورجعية في تصورها، ولم تتمكن من فهم الاستقلال أو القومية إلا من خلال منطق البحث عن سيد، والخلاف بين مفرداتها كان يدور حول المفاضلة بين السادة سواء السيد المحلي أو الأوروبي، كما أن ثوراتها أو موقفها من الثورات، ليس فقط رجعياً، لكن يتسم أيضاً بالانتهازية، إذ هي تقف وراءها ما دامت تهددت مصالحها المتحالفة في الأساس مع الطبقة الحاكمة، وتعادي تلك الثورات من المنطلق نفسه، وتضمن دائماً بوصفها وسيطاً بين الشعب والحكام، ألا تتجاوز مطالب الشعوب أي حدود ثورية، وأن تبقى في حيز الإصلاح الضيق.
الجبرتي... كحارس لنواميس الأرض
في الجزء الأول من الدراسة الشائقة، كعادة صلاح عيسى يفكك في البداية، فهم عبد الرحمن الجبرتي للتاريخ، وهو الفهم الذي حدد زاوية نظره ونوعية الأخبار التي قرر سردها.
أول ثورة شعبية عنيفة شاهدها الجبرتي، هي ثورة القاهرة الأولى، وقد تضمنت نهباً عرض ممتلكات الأثرياء للخطر، وكان حس المِلكية لديه شديد اليقظة، بوصف أسرته من ذوي الأملاك، وكذلك عدد كبير من المشايخ وعلماء الأزهر في زمنه؛ مما جعلهم جزءاً من الظاهرة المملوكية
التاريخ عند الجبرتي يتسم بالجبرية، إذ هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها، وكل ما يحدث له فيها من مظالم، مرده انتقام سماوي لخروجه عن هذا الناموس، حتى جرائم الجند البشعة التي تعرض لها المصريون، هي نقمة حلت عليهم بسبب تدهور أخلاقهم أو بسبب تدخل النجوم والفلك، ووفق هذا المنطق ليس القهر الطبقي من وجهة نظر الجبرتي، إلا عقاباً إلهياً للفلاحين.
لذا كان من الطبيعي أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي، يخضع فيه الصغير للكبير، والدنيء للشريف، والأدنى للأعلى، لذا فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر.
البرجوازية كمنطلق للتأريخ
انطلاقاً من هذا المفهوم، فإننا نلمح في تأريخ الجبرتي للثورات الشعبية رفضاً لها، وكانت عنده "مغالبة للجهلاء، وتطاول للسفهاء على الرؤساء، وتهور العامة ولغط الحرافيش"، وهي ككل الحوادث الكبرى في التاريخ، من وجهة نظره، هي تعبير عن غضب الإرادة العليا، كما أنها كانت مسألة انقلاب للوضع الطبقي الحديدي، خاصة أن أول ثورة شعبية عنيفة شاهدها الجبرتي، وهي ثورة القاهرة الأولى، قد تضمنت نهباً عرض ممتلكات الأثرياء للخطر، وكان حس المِلكية لديه شديد اليقظة، بوصف أسرته من ذوي الأملاك، وكذلك عدد كبير من المشايخ وعلماء الأزهر في زمنه؛ مما جعلهم جزء من الظاهرة المملوكية، وجعلت نظرة الجبرتي إلى الفلاحين، والتي تمثل رؤية النخبة الثقافية لعصره، أشبه بنظرة الأمير المملوكي أو الملتزم، وكان مفهوم العدل عنده يتضمن أن يلتزم كل إنسان بوضعه الاجتماعي، فلا يصعد إلى ما سواه، ولا يهبط إلى ما هو أدنى منه.
لذا كان الخط العام لنقد الجبرتي للظاهرة المملوكية، يتبلور في ضيقه الشديد بالعصف بحقوق الملكية، لذا لم يتمكن من إدراك محاولة علي بك الكبير، في كونها أول ظاهرة بذرت الروح القومية في مصر، بمحاولتها الاستقلال عن الدولة العثمانية، كما أن نقده للمماليك لم يخرج قط عن كونه منتمياً إليهم، ومن حرصه على أن يحكموا بشكل أفضل.
التاريخ عند الجبرتي تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها، وكل ما يحدث له فيها من مظالم، مرده انتقام سماوي لخروجه عن هذا الناموس، حتى جرائم الجند البشعة التي تعرض لها المصريون، هي نقمة حلت عليهم بسبب تدهور أخلاقهم أو بسبب تدخل النجوم والفلك، ووفق هذا المنطق ليس القهر الطبقي من وجهة نظر الجبرتي، إلا عقاباً إلهياً للفلاحين
على هذا الأساس اتخذ الجبرتي موقفه من دولة محمد علي، حتى إنه وفقاً لإبراهيم عيسى تمنى لو أن أمراء المماليك تحالفوا مع الإنكليز في حملة فريزر التي جاءت لطرد محمد علي وتعيين محمد بك الألفي.
مشكلة الجبرتي بحسب صلاح عيسى هي أنه عجز عن فهم ما كان يجري حوله، فعارض المماليك والفرنسيين، لكنه لم ينطلق في ذلك من المنطلق الصحيح، الذي كان يتفجر في أعماق عصره: منطلق الحركة القومية الزاحفة التي ترفع أعلام الاستقلال عن تركيا وأوروبا، عجز سيتكرر مع عودة الحكم العثماني وتجربة محمد علي التي أعادت أصداء ثورة علي بك الكبير، وكانت مشكلته كمؤرخ هي روحه المحافظة وعقله الجامد، فلم يكن نقده على حدته، تجاوزاً لواقع قائم أو نفيا له، وسخطه لم يكن توقاً لتغيير بما هو أفضل، بل احتجاجاً على ما اعتبره الجبرتي خروجاً على نواميس الماضي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.