ثلاثون يوماً في زنزانة في مستشفى عسكريّ في أثناء فترة التجنيد. هكذا عرفت أغاني العربي فرحان البلبيسي من خلال صوت "مصطفى". شاب من الأرياف ينتمي إلى عائلة تعرف الستر، متزوّج وأب لولدين، وكان قد قارب على إنهاء 3 سنوات التجنيد قبل أن يبدأ سوء الحظ.
كما غنّى مصطفى
كان مصطفى يعمل سائقاً لعربة متهالكة مخصّصة للمرضى من مستشفى إلى مستشفى. وذات يوم فقد السيطرة عليها ليصاب هو والمريض، وتتحطّم العربة الخردة. ورغم أنّه لم يخل باتفاقه وأصلح العربة، بل أعادها كما السحر إلى عربة "بحق وحقيق" بالاستلاف والدين، حكم عليه بالحبس. فقضى أغلب أيامه في السجن الحربي، وجاء إلينا ليكمل آخر 50 يوماً من العقوبة.
كان لمصطفى أن يمر على أيّام الحبس سالماً لولا أن الحكم يعني أنّه بعد 3 سنوات ستفوته دفعة تخرّجه، وسيستمر في الجيش لمدّة أطول.
مصطفى لا يصلّي، ويتحدّث طوال الوقت عن مغامرات نسائيّة خارج الزواج، ويسب الدين، ويفتقد البانجو، لكنه يحب الله، ويتكئ عليه في مأساته، أو هكذا أدركنا عبر غنائه المرعب الواعي للبلبيسي، ولمناطق الأمان في إنشاده
كنّا كلنا نشعر بالظلم، مذنبون وأبرياء، بسبب تحكّم قوى خفيّة، لكن مصائبنا جميعاً هانت بعد معرفة مأساة مصطفى وأغاني "العربي فرحان البليسي" التي خفّفت وقع السجن وهو يذكر: "قصدت بابك ولا قصدت باب غيرك، أبات وأصحى وأنا دايماً على خيرك".
مصطفى لا يصلّي: يتحدّث طوال الوقت عن مغامرات نسائيّة خارج الزواج، ويسب الدين، ويفتقد البانجو، لكنه يحب الله، ويتكئ عليه في مأساته، أو هكذا أدركنا عبر غنائه المرعب الواعي للبلبيسي: لمناطق الأمان في إنشاده.
بين البلبيسي والتهامي
ينشد العربي فرحان البلبيسي عن الله، لكنّه لا ينشد له، بل ليتامى الله الشاردين في الطرقات، ومحبيه بلا مدد أو تقوى حقيقيّة، الحمقى والخطاة، مطاريد الحياة، الضالين عن الطريق لا أولياء الله.
هذا هو الفارق الجوهريّ بينه وبين ياسين التهامي مثلاً. الله في مديح التهامي مطلق لا يمكن التعرّف عليه، ولا يمكنه المساعدة على الحياة كفجيعة إلا بالتخلص من الحياة كقيد.
رب التهامي سامق لا يتم الوصول إليه إلا عبر طرق وعرة على سالكيها التمتّع بتقوى كاملة وعبور حجب. وحتّى التقاط ما يغنّيه يتم بما لا يقاس... بنشوة التوحّد مع المطلق عبر التوحّد.
رب التهامي لا يسير معك في الطرقات الوعرة للحياة لعبورها، بل عليك أن تعبر في مسالك وعرة لا تعدك بشيء مضمون، حيث الله عزيز، وحيث المعرفة حجاب فوق حجاب، ولا أحد يضمن النتائج.
الله عند البلبيسي هو "سابل الستر" الذي يمكن إمساك إحساسك بوجوده عبر حسيّة دنيويّة، ربٌّ مشغول بصفاتك كضعيف في مواجهة إيقاع الظلم الثابت.
لكن البلبيسي يعرف الله بشكل أبسط، فهو "سابل الستر" الذي يمكن إمساك إحساسك بوجوده عبر حسيّة دنيويّة، لا وجد يحدّث ربٌّ مشغول بصفاته، بل ربٌّ مشغول بصفاتك كضعيف في مواجهة إيقاع الظلم الثابت. الدنيا التي لا يدين البلبيسي شهوتها بغناء يجعل الله معنا على المقهى لا في السماء.
وحيث لا أحد يطلب منك سوى ترطيب لسانك بذكر نبيه، نسمعه:
"أول ما كتب القلم، كتب الله، وكمّل السطر بمحمد رسول الله". وحيث سيدنا الحسين "بابا الطبيب"، والسيّدة زينب "ماما الكريمة أم هاشم"، وهم أصدقاء لا سادة "ينادون فيلبّون ":
"أنا ليا أربعة ساعة الضيق بناديهم،
سيّدنا الحسن والحسين والسيّدة والإمام على أبيهم".
يمزج البلبيسي بين الذّكر والوعظ الذي لا يشبه وعظ المشايخ، لكنّه يشبه خلاصة الحكمة العابرة للأزمان، ونصائح للطريق ورايات حتى لا يضل الحمقى، وعلامات لحفظ الإنسانيّة من أن تحيد أو تنسى، وذاكرة التجارب المتراكمة لمجابهة الحياة: "وعاشر الناس بالأدب تلقى الرضا على طول ".
"يا ما كان على الدنيا فتوّات يقولون إحنا أحسن ناس
صبحم رمايم يا خويا ودهوسوا عليهم الناس ".
الله كشريك لا كمراقب
عبر عقود من غزو النسخة المتطرفة من الإسلام، ومن تقديمه كرب يغضَب لأقل الأسباب، معقّد في طلباته، ويتحكم في التفاصيل الصغيرة للإنسان، ومقدمّاً خريطة عمل بالغة التعقيد للحياة اليوميّة، وحصول هذا المفهوم على تمكين اجتماعي هائل، يبدو مفهوم البلبيسي ومحبي غنائه حجر مقاومة لطيف الأثر. كأنّه يذكّر بالسيرة الأولى لله كشريك لا كمراقب في الملهاة، كراحم لا كمتوعّد شرس، يحفظه من الهجوم، وينفخ فيه من صوته الجمال والرحمة. فأصل وجوده الحماية لا العقاب، والمحبة لا الترصّد.
ينشد البلبيسي ليتامى الله الشاردين في الطرقات، ومحبيه بلا مدد أو تقوى حقيقيّة، الحمقى والخطاة، مطاريد الحياة، الضالين عن الطريق لا أولياء الله، وهذا هو الفارق الجوهريّ بينه وبين ياسين التهامي مثلاً. فرب التهامي سامق لا يتم الوصول إليه إلا عبر طرق وعرة على سالكيها التمتّع بتقوى كاملة وعبور حجب
ينشد البلبيسي ضد التفتيش في الضمائر والمحتسبين على علاقة الرب بعبده، ويشترط الإنسانية قبل الحب كطريق إلى الله:
"إذا كنت بتحب حب بس لازم تكون حساس
وفتّش على روحك قبل ما تفتش يا خوي على الناس
وانظر لبيتك قبل ما تفتش في بيوت الناس".
مصطفى القادم من الأرياف، والمتكئ على الله والحافظ لإنشاد البلبيسي ألهم الحل بعد خروجه من السجن. فعند أول إجازة لم يعد مجدداً إلى الجيش، بل واصل حياته ومغامراته ضد الإيقاع الثّابت للحياة والظلم، متخلياً عن الحياة، وأملاً فى العفو، عالماً بأن الدنيا شهوة لا يمكن إدانتها، وأن الله يعرف ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع