تحت أوراق الدوالي، دسّت كفّك أوراقاً من أسفار غربتنا. لم تكن الحرب قد بدأت، ولم نكن نعرف أصناف القنابل مثلما نعرف أطباقنا اليومية، ولم تكن سماء أحلامنا تضاء بقنابل الفوسفور. كان وجهك قنديلاً دافئاً ينير عتمة البيت، كانت عيناك متقدتين مثل نجم ولد في المجرة لتوّه. تنثنين على الأريكة سارحة الأفكار، تخبزين الصباح طازجاً كالكعك، لاذعاً كالقهوة، وترسمين الأقدار بالأمنيات، فهل علي العودة إلى كفّك لأكشف بختنا في خطوط ثناياه؟
خلف نافذة، نافذة بعيدة، سقطت أمطار وثلوج، وأشرقت شموس، وأزهرت ورود. قرب مدفأة، تدثرنا بالسكينة وسمعنا الذئاب تعوي على أقدارنا المعلقة. بان القمر على شعرك المفرود، سكب فضته على عنقك، وقفز من النافذة نحو خصل شعرك المتدلية على الكتف، فسال جدولاً من نور، انبلج من يديك فانبسطت الأصابع، وتلألأت خطوط كفك المتفرعة مثل طلاسم، فقلت لي: "تعال... تعال وانظر".
الخط الممتد من الوريد حتى وسط راحة كفّك أشار إلى نهاية غامضة. ولم أدر أن الكواكب معلقةً فيه، تدور دورتها فتنقلب بداياتنا العابثة إلى نهايات مأساوية. من خطوط السبابة تدحرجت عربات نبوخذ نصر وهدمت أسوار المدينة المقدسة، سبت نسائها ورجالها، فطلعوا علينا بكل أشكال الموت، منشدين عدالةً خنست في طبقات الحضارات.
من خطوط السبابة تدحرجت عربات نبوخذ نصر وهدمت أسوار المدينة المقدسة، سبت نسائها ورجالها، فطلعوا علينا بكل أشكال الموت، منشدين عدالةً خنست في طبقات الحضارات... مجاز
أسفل اصبعك الوسطى، عبرت سفن الآخيين ودمرت أسوار طروادة، فعلا النشيج. صرخ الرجال صرخة الحرب. الحراب والسيوف مزقت أجسادهم مثلما يمزق الرصاص والقنابل أجسادنا. فصرخ الأبطال، أهرقهم سقوط الأصدقاء دون وداع، وهرب جمال هيلين زمناً وراء زمن، علقماً تسيل الدماء من أجله، فهل للحكمة مكان في حروب ندور حولها مثلما تدور أرض حول شمس؟
هرب المقاتلون من هضاب السبابة منحدرين إلى خط الإبهام، فطحنت الحضارات بالزلازل والسيول والبراكين، وتراكمت حقبةً تحت حقبة وقبوراً فوق قبور. وكنا كما تقول القصيدة: "قتلى ومجهولين". كوكب الزهرة سقط أسفل البنصر، فأضاءت السماوات بكل الديانات القديمة. رقص المتصوّفون باحثين عن الشمس، فصلبوا على أبواب المدن.
أيها البنفسج الغافي بين خطوط لا أستطيع قراءتها، هل تمنحني لونك وصخب الرائحة في زهرك؟
عند خطوط الخنصر رتل الشعراء قصائدهم، وذابت قلوب المحبين بحثاً عنه، فتهنا في فصوله المتعاقبة لوعةً وراء لوعة واتقاد وراء اتقاد. ومن خط الحياة الممتد من شمال كفك حتى جنوبه، حملنا حقائب ذكرياتنا ولهجنا نركض على شواطئ بلاد الشام، فكيف يلتقي في غروبه ابتهالات المآذن وطعم النبيذ المعتق في الجرار؟
*****
تضيع خطوط الحب في باطن اليد المفرودة، فهل عصرت كروم عنب؟
طحنت عجين تعب؟
أزلت أثافي عيون
تحجرت من سغب؟
مسحت سخام أقدارنا الملوثة مثل قدور محترقة؟
تهنا في خط النصيب، أسفل الكف، قرب عصب الوريد. بحثنا عن مكة والمدينة، فأي الطرق أوصلتنا إلى النفي، فلا أندلس بين أيدينا ولا دمشق، وسقطت غزة معلقة في خصرها حلب. فأي كلمات سأنتقي لأعيد روي الحكاية؟ في البدء، كانت مجزرة، ومن المجزرة ولدت قصص حياتنا، حملناها صليباً وسرنا به لنبشر أن الحرية وشم في القلب لا يحترق.
أرض النسيان هنا والأساطير الكاذبة، تدخل من نافذتي مثلما يدخل هواء الثلوج. صار لي وظيفة جديدة، أظهر زيف روايات التاريخ. وجوه باهتة لا روح فيها تعبر في الشوارع، هذه أرض الأموات. كان القتل هنا بارداً لا ملحمية فيه. قتل المتحاربون كل شيء وسلبوا جذوة الأرواح.
عليّ أن أتسلل للتاريخ في الكتب فأعيد تدوين كل أكاذيب ترفع كالصلبان في وجوهنا. كأننا ممسوسون بالشياطين، يحاولون طرد وشم البلاد من أرواحنا، فعلينا أن ننكر أنفسنا، ولون جلدنا، والشعر في لغتنا، علينا أن ننكر موتنا ثلاث مرات كي يرتاح طاردوا الأرواح في هذه البلاد.
أنا دانيال وهذه الأرض الباردة قصر الملك، سبينا في قوارب إلى ملكوته، فأغرقنا بأطايب الطعام والدفء والتأمين الصحي والمنح والوظائف والمنظمات. هل عليّ الآن تفسير رؤياه؟ تمثاله برأس ذهبية، ساعده من فضة، وبطنه من نحاس، وساقاه من حديد وقدميه من رخام؟
الأديان من صنع السلطة، والثورات تصنع الأنبياء. ماذا عن الحروب؟... مجاز
*****
أقصّ عليكم تأويلي:
الأديان من صنع السلطة، والثورات تصنع الأنبياء. ماذا عن الحروب؟ تلك التي خاضها مجهولو الهوية، من آمنوا حتى الممات بأن غداً سيزهر على أنصال السيوف، حراب البنادق وفوهات المدفعية؟ يكذب أصحاب الخطب، من يمتلكون بلاغةً في جملهم الرنانة، يجرون أحلامنا مثلما تجر السبايا.
بكيت لهذه الرؤيا، فحملت بكاءك الصامت مثلما يحمل نسراً علماً محترقاً، وطفقت أصول بيدي المقطوعة في المنافي بحثاً عن بنادق كسرت واحترقت.
تخرج الروح من المسام، محترقة، مكوية، مفجوعة، يذوي القلب على الذكريات، ويذوب الدماغ على الأسئلة، ويحتنك اللسان الرماد. تهبط السماء بأنجيلها وقرآنها فوق البيوت المقصوفة، فيختلط النشيج بالآذان، وتقرع الروح كالأجراس وتتحشرج اللغة: "آلم" تلك هي آيات المجزرة...
وداعاً يا مدينةً كانت مزدهرةً بالحياة، يقف الموت على أبوابها، وينفخ في بيوتها بالرماد.
*****
كانت المجزرة تشتعل بساحل سوريا من شماله إلى جنوبه، فكيف دفنت كل ذلك بخطوط كفّك، وقلت لي قبل الرحيل: احذر لعنة النجاة، ستطاردك، وترغب بموت لا يرغب به الميتون، فهلا وضعت كفّك على أعيننا وأغمضتها، علّنا نعبر هذا الجحيم المشتعل في أضلعنا شرق المآذن حتى غرب الكنائس؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...